-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل التكفير مقصدٌ شرعي؟

التهامي مجوري
  • 752
  • 0
هل التكفير مقصدٌ شرعي؟

التكفير وصفٌ ديني، يطلقه كل أهل دين على غيرهم من أهل الديانات الأخرى، فاليهودي عند المسلم كافر، والمسلم عند اليهودي كافر، والنصراني عند غير النصارى كافر وهكذا…

أما التكفير في الإسلام فيصدق على كل من رفض رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء آمن بالله واليوم الآخر مثل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو لم يكن منهم مثل المشركين والملاحدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة 73]، (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة 1].

وقد ورد هذا الوصف في الكثير من آيات القرآن الكريم، بصيغة الذم الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) [لقمان 23]، وقوله (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) [النساء 101]  وقوله (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) [الرعد 14]  وقوله (وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد 35]  وقوله (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان 52]   وقوله (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا) [الأحزاب 64]، وإلى غير ذلك من الآيات البيّنات التي تدين الكفر والكفار وتحذر من إتّباعهم وطاعتهم وموالاتهم.

مسألة التكفير موقف عقدي للتفريق بين المؤمن والكافر لما يترتب عن ذلك من أحكام شرعية، وليس موقفا أخلاقيا، إذ تكون المفاصلة بين المؤمن والكافر مفاصلة كلية، ولذلك صور توضيحية أخرى مثل اختلاف الدين بين الوالدين وأبنائهم، لم ينصّ القرآن إلا على المفاصلة العقدية مع بقاء كل العلاقات الأخرى وذلك في قوله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا…).

إلى هنا يكون مفهوم التكفير ليس أكثر من وصف للتمايز العقدي وفق معتقدات كل دين؛ لأن المسألة دينية متعلقة بالغيب، وللغيب مفاهيمه في كل دين وفق ما بين أيد الناس من نصوص الوحي والتراث الديني الذي تتناقله بعض الأجيال عن بعض… ومن حق كل طرف أن يرى غيره بالمنظور الذي صنّفه به دينه، كمبدإ عقدي ديني محض.

ولكن هل هذا المبدأ مجرّد تصنيف عقدي، مثلما نصنِّف الناس وفق قبائلهم وبلدانهم وأعراقهم وألوانهم وألسنتهم…؟ أم أن لذلك انعكاسات أخلاقية، إذ يتحول مفعول التكفير إلى منشِّط أخلاقي يقتضي فعلا ما للتعبير عن هذه المغايرة؟! مثلما فعلت الجماعات التكفيرية التي كانت تستصحب هذه الفكرة في جميع أنشطتها القتالية؛ لأن نشاطها في الأصل هو سياسي قتالي، ومرجعيتها الأساسية هي هذه المسألة إذ لا تقوم بفعل قتالي إلا بمبرر تكفيري، ولذلك كانت بالنسبة إليهم مسألة قتال المجتمعات والأنظمة من تحصيل الحاصل؛ لأنهم انطلقوا من تكفير الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله، وكَفَّروا المجتمعات لأنها رضيت بحكم هؤلاء الذين حكموا بغير ما أنزل الله، ثم حكم على الباقية الباقية من عقلاء المجتمعات بالكفر أيضا؛ لأنهم لم يكفِّروا هؤلاء “الكفار”، ومن لم يكفّر الكافر فهو كافر، والحصيلة لم يبق خارج دائرة الكفر إلا هذه الجماعة أو تلك من الجماعات التكفيرية الكثيرة!

ومن ثمّ كان للتكفير تبعاتٌ أخلاقية، ودعوة للمفاصلة الواضحة بين المؤمنين والكفار، وذلك يقتضي عدم التعامل بينهما، وربما هذا الذي فهمته جماعات التكفير واعتبرته من مقتضىياته، ولكن المتتبع  لنصوص القرآن الكريم يلاحظ في أكثر من موضع خلاف ذلك بصيغ مختلفة؛ بل نصَّ القرآن على إمكانية الالتقاء مع الكفار من ذلك قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة 8]، ثم يفصّل في الموضوع ويفرّق بين مجموعتين من الكفار النصارى واليهود، فيقول (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة 82]، بمعنى أن بينهم فرقا يمكن استثماره في العلاقات العامة، رغم اشتراكهما في الكفر، ثم هناك تفصيل آخر أكثر توضيحا في وصف طبيعة اليهيود والمشركين، وذلك في قوله تعالى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة 120]، وقبل كل ذلك هناك دعوة إلى عدم إجبار الناس في المسألة العقدية؛ لأن الدين اختيارٌ فردي فلا يحقُّ لأحد إجبار أحد على الدين كما في قوله تعالى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة 256]، فكيف نفهم مسألة التكفير وانعكاسها على العلاقات الأخلاقية إذن؟

من خلال النصوص القرآنية آنفة الذكر والخبرة التاريخية في المجتمع الإسلامي، فإن مسألة التكفير موقف عقدي للتفريق بين المؤمن والكافر لما يترتب عن ذلك من أحكام شرعية، وليس موقفا أخلاقيا، إذ تكون المفاصلة بين المؤمن والكافر مفاصلة كلية، ولذلك صور توضيحية أخرى مثل اختلاف الدين بين الوالدين وأبنائهم، لم ينصّ القرآن إلا على المفاصلة العقدية مع بقاء كل العلاقات الأخرى وذلك في قوله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [لقمان 15]، وحصر عدم الطاعة في حالة مجادهتهم له على قبول الشرك، يعني أن العلاقة مع الوالدين لا تتغير؛ بل قال “صاحِبهما في الدنيا معروفا”؛ بل وفي صورة أخرى للعلاقة مع أهل الكتاب، هناك دعوة للإبقاء على باب الحوار مفتوحا معهم مع بقائهم على دينهم (قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران 64]، ودعوة أخرى للتعارف بين فئات البشر المختلفة الألوان والألسن والشعوب والقبائل… (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات 13]؛ فالدعوة للكلمة السواء والدعوة للتعارف بين البشر جميعا، لا تكون بالمفاصلة والتباعد بين الفئات المختلفة، وإنما تكون بالتقارب وتلمُّس وسائل وأسباب الإلتقاء وكل ما يجبرهم على ذلك الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، وذلك لا يتم إلا في الإطار الأكبر والأوسع وهو إطار التكريم الإنساني (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70]، فالبشر مفضَّلون ابتداء عن كثير ممن خلق الله، ويبقى على عاتق هذا البشر أن يحافظ على هذا التكريم أو يتنازل عنه. وأول مراتب التنازل هذه هي الكفر بالله والتنكّب للدين، ثم يأتي ما بعدها تباعا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين 4-6].

إن ما خُلق عليه البشر وجُبل عليه، أن بعضهم يحتاج إلى بعض، وهم ملزمون بطبائعم الفطرية والاجتماعية التي جُبلوا عليها، بالإبقاء على هذا الأصل الإنساني.

أما ما وجودوا عليه أنفسهم من اختلاف وتنوع وتباين، لكونهم من أسر وقبائل مختلفة، ومن بلاد مختلفة، ومن ثقافات وعادات مختلفة، ولغات وألوان مختلفة، ومن ديانات مختلفة؛ بل ومن مجتمعات مختلفة اختلفت وتنوعت حاجاتهم… فذلك من طبيعة الاستخلاف والتكليف والابتلاء الذي لم يكن إلا للحفاظ على قيم الإنسان الفاضلة التي لا يكون لها قيمة إلا بالقدر الذي يحافظ على التكريم الإلهي للإنسان.

وفكرة التكفير إذا ما وُضعت في هذا لإطار الكبير، فإنها لا تمثل إلا القدر اليسير من قضايا الإنسان، والقيمة الوظيفية المنضبطة بالقدر الذي يضمن للفظ أداء مهمّته بدقة من غير إخلال بالإطار العام.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!