-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
فيما يستغفل العامة بأساطير الإعلام حول من يقتل من بلا عقاب

قوانين إعفاء صفوة الحكام من أحكام دولة القانون

حبيب راشدين
  • 6198
  • 0
قوانين إعفاء صفوة الحكام من أحكام دولة القانون

إثارة قضيتي الرهبان السبعة كجريمة نسبت لمؤسسة حكومية ضمن عملية تصفية حسابات وابتزاز رخيص، وخروج مسؤول كبير من فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية عن نظام الصمت ليتهم رئيس السلطة الحالية باغتيال رئيسها الأسبق عرفات، يحفزنا على تجديد النظر في الجرائم المنظمة التي يرتكبها عِلية القوم في حق رعاياهم، وفي ما بينهم لا يطمع عاقل أن يراها تصل بالمذنبين إلى دور المحاكم، وإن وصلوا أن ينالوا ما يناله المذنب من العامة.

غالبا ما يكون فصل الصيف أكثر الفصول إثارة، بعد أن تدخل الحياة السياسية بياتها الشتوي، وتنتقل النخب الحاكمة إلى المنتجعات، وتتحول الحكومات إلى حكومات تصريف أعمال، وتبقى الحاجة مع ذلك قائمة إلى إشغال العامة بسيل متواصل من الأحداث، تصرفها عن التفكير في واقعها بما لا ترضاه الصفوة، وقتها لا ترى الجهات المدبرة لما ينبغي أن يشغل عقول العامة، لا ترى مانعا في استظهار بعض الملفات الساخنة، ومنها ما شغل الرأي العام الفرنسي والجزائري والعربي والفلسطيني في الأسبوعين المنصرمين عقب تصريحات جنرال فرنسي متقاعد، أراد اتهام مؤسسة الجيش الوطني الشعبي بالتورط في اختطاف وقتل الرهبان السبعة، وخروج القيادي الفلسطيني فاروق القدومي عن الصمت بعد حين ليتهم قادة السلطة الفلسطينية أبو مازن ودحلان باغتيال الرئيس عرفات، في صفقة متفق عليها مع قادة الكيان الصهيوني.

 .
 
“من يستغفل من؟”
إعلاميا، لا جديد في هذين الملفين. فقد تناول الإعلام ملف الرهبان السبعة زمن تسويق مسلسل “من يقتل من؟” كما تناول في زمن وقوع الحدث أكثر من رواية حول اغتيال الرئيس عرفات على يد حاشيته وأقرب المقربين، ولم يكن الخاصة والعامة وقتها بحاجة إلى ما بين يدي القدومي من وثائق لتوجيه أصابع الاتهام لنفس الحاشية استنادا إلى ظروف الحصار التي وضع فيها عرفات بتواطؤ من الحاشية، والتعويل على المبدإ الجنائي الذي يبحث على الدوام عن الدوافع والجهات المستفيدة من الجريمة. الجديد هو ما ينبغي أن يقرأ من الدوافع التي شجعت الرئيس الفرنسي على ركوب تصريحات الجنرال المتقاعد، ودوافع شخصية من حجم القدومي لاتهام رئيس السلطة الفلسطينية في هذا التوقيت بالذات بعد أن صمت طوال خمس سنوات.
في كل الأحوال، هي فرصة للفت أنظار الناس إلى الجرائم التي يرتكبها الحكام والعلية من القوم، وتتواطأ للتستر عليها قوى كثيرة، ومؤسسات بعيدة عن الشبهة، مثل القضاء والإعلام وتنظيمات المجتمعين السياسي والمدني.

 .

جرائم منظمة تخفي جرائم نظم
جرائم الدول، وقادة الدول يحاكمها التاريخ فقط، لكن جرائم الدول تبقى جرائم أفراد يفترض أن يطالها القانون كما يطال بقية المواطنين، وما يصل منها لمسامع الرأي العام يكون عادة من باب التستر على جرائم أعظم ترتكب في حق الضعفاء. فخلال الأسبوع المنصرم كانت ثلاثة أو أربعة كيانات دول محل شبهة واتهام في جرائم لم تكن هي أكبر جرائمها.
1 ـ اختطاف وإعدام الرهبان السبعة، يخفي مثل القطار، قطارا آخر من الجرائم استنزفت وأفرغت ملفاتها من محتواها وسط لغط مقصود تحت عنوان “من يقتل من؟” أعيدت صياغته في جملة “من قتل من؟” في فتنة الجزائر الكبرى.
2 ـ اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وارتباط الجريمة بقائمة من جرائم القتل بدم بارد لقيادات من الفصائل الفلسطينية في زمنه وزمن المتهمين اليوم بقتله.
3 ـ جريمة اغتيال صحفي غربي على يد الحراس الخاصين لزوجة أحد الرؤساء الأفارقة، وارتباطها بجرائم كثيرة ارتكبها حكام، أو بعض الحاشية، لا يصل أصحابها أبدا إلى المحاكم، ولا تطالهم يد العدالة، إلا ما يكون من حكم التاريخ عليهم، حين تخرج الجرائم إلى العلن، كما حدث مع هذه السيدة الإفريقية الأولى.
خلال الأسابيع القليلة الماضية وضع الرأي العام الفرنسي على صفيح ساخن، حيال جريمة بدائية، ارتكبها بعض أبناء الضاحية من أبناء المهاجرين العرب والأفارقة في حق شاب فرنسي من أصل يهودي، والجريمة، مع ما توجبه من استنكار وإدانة، تحولت إلى قضية دولة، تحت ضغط الإعلام المتصهين، واللوبي اليهودي في أوساط اليسار الفرنسي، اضطرت معها وزيرة العدل الفرنسية إلى اقتراف تدخل سافر في القضاء، وألزمت النائب العام على الطعن في الحكم، طلبا التشديد في الانتقام. قبل هذه الجريمة كان العشرات من أبناء المهاجرين يقتلون بدم بارد، في جرائم عنصرية صرفة، وعلى أيدي الشرطة، لم يلتفت إليهم أحد، بل أن بعضهم ذهب ضحية المؤسسة القضائية الفرنسية، وحكم عليه بأحكام ثقيلة، قبل أن تظهر براءته، ثم لا تتدخل وزارة العدل من أجل إنصاف الضحية وطلب إعادة المحاكمة.

 .
 
قانون إعفاء الدول من أحكام دولة القانون
بالنظر إلى هذا الكيل بأكثر من مكيال، يكون من السخرية الحديث عن دولة القانون، والقانون فوق الجميع، حيث تتساوى في مثل هذه الجرائم التي يرتكبها العلية، الدول الاستبدادية والدول الديمقراطية العريقة، ولا ينبغي أن نصدق الساسة والحكام، في ما يدعونه بشأن دولة القانون، لأن القانون إنما وضع لحماية الصفوة من الحكام من المواطنين، وترهيب الضعفاء عن الطمع في ما بين أيدي الأقوياء.
هذا من حيث المبدأ، ومن ناحية أخرى تدعونا جرائم الدول والنخب الحاكمة  إلى التمعن في جرائم الدول، والساسة وأصحاب الجاه والسلطان، لأنها في العادة جرائم فوق العادة بامتياز، وهي التي يفترض أن تصنف تحت عنوان الجريمة المنظمة، لأنها كذلك.
يفترض في الدول والحكومات أنها مؤتمنة على سريان القانون على الجميع، بدءا بكبار القوم من باب المثل والأسوة، لكن التاريخ يشهد أن المحاكم والسجون، إنما شيدت للسفلة من القوم، في ما يقترفونه من اعتداءات، في المقام الأول، على العلية، ثم لاحقا في ما يرتكبونه من جرائم فيما بينهم.
مبدأ العقاب يعطل بالضرورة، حين يكون المجرم من الجماعة الحاكمة، فكلما ارتقى في سلم مراتبية الحكم، تعززت حصانته بنص من القانون، كما هو معمول به في معظم دساتير العالم لفائدة البرلمانيين، ورؤساء الدول، وحصانة الدبلوماسيين، أو مع غياب النصوص، عبر صرف أنظار الجهات القائمة على ملاحقة الجريمة، من شرطة، ونيابة، وقضاء، والاستنفار الدائم للجهاز الإجرائي استعدادا للتدخل السريع في توجيه الجهاز القضائي، حتى في الدول التي تنص دساتيرها على وجوب الفصل بين السلطات واستقلال القضاء.

 .
 
كيل الحقوق بميزان القوة
في الحالات الثلاث التي تعنينا، لا يجادل أحد، في أن عرفات مات مقتولا بالسم، وسواء كانت إسرائيل هي المسؤولة عن قتله، أم شلة أبومازن ودحلان، فإنه لا يطمع أحد في أن تحرك ملاحقة قضائية، لا في حق دولة الكيان الصهيوني، ولا في حق أبومازن ودحلان، إن صدقت اتهامات القدومي، إلا إذا تغير ميزان القوة، وتخلت الدول الداعمة للسلطة عن أبو مازن، وجاءت قيادة جديدة، تحفزها مشاعر الانتقام من خصم سابق، وليس بدافع إحقاق الحق.
وفي حالة الرهبان السبعة، فإنه من الواضح، أن إعادة إحياء القضية بعد قرابة عقد من الزمن، لم يكن بدافع إحقاق الحق، وإنصاف الضحايا، أو تجاوز قضية الرهبان السبعة إلى دائرة البحث في ملفات عشرات الآلاف من ضحايا سنوات الفتنة الكبرى، ومحاسبة الكثير من الحكومات التي كانت ضالعة بشكل مباشر أو غير مباشر في الجريمة، ومنها حكومة أويحيى في الجزائر، وحكومة ألان جوبي الفرنسية. وفي حالة الصحفي الذي قتله زبانية السيدة الإفريقية، فإن العدالة لن تطلها، إلا أذا أصاب زوجها مكروها، أو أبعد عن الحكم، وحتى في هذه الحالة، فإن التضامن المعهود بين النخب الحاكمة العابر للدول والأنظمة، يمنع وصول مثل هذه القضايا إلى أبواب العدالة.

 .
 
المباح والمحرم من جرائم الدول
الملاحظة الثانية: أنه من الحماقة النظر إلى جرائم الحكام كما ننظر إلى الجرائم العادية بين العوام. وقد نحتاج إلى وضع تصنيف دقيق ومعقد لجرائم علية القوم، تحكمها معادلة شبه رياضية، تخضع لمبدأ ميزان القوة. فكلما كان المجرم أقرب إلى رأس هرم الحكم، ضعف الرجاء في إحالته على العدالة، والقصاص منه. وقد نميز هنا بين أربعة أنواع من الجرائم التي يرتكبها الحكام، وتتعامل معها العدالة بمكاييل أربعة، أو أنها لا تتعامل معها أصلا كجرائم.
1 ـ جريمة الحاكم في حق الضعفاء من مواطنيه، وهي في الغالب جرائم لا تطالها يد العدالة، بل إن أبواب المتابعة فيها موصدة بنص دستوري، أو قانوني.
2 ـ جريمة الحاكم في حق أفراد من علية القوم، من ذوي السلطة والجاه والمال، عادة ما تعالج عبر تسويات خارج المحاكم، ترضي أهل الضحية، وتعفي الجاني من القصاص.
3 ـ جرائم الحاكم في حق رعايا دولة أجنبية، وتقسم بدورها إلى قسمين، وفق ميزان القوة، بين جرائم يرتكبها حاكم دولة صغيرة في حق رعايا دولة عظمى، فتكون المعالجة فيها بأحد الأمرين: إما بتقديم كبش فداء يمثل في محاكمة صورية، ليأخذ القصاص بدل الآمر بالجريمة، كما حدث في قضية لوكربيه، وتشفع بدية مالية تكون على قدر عظمة دولة الضحية، أو تؤاخذ دولة الحاكم الجاني بدم ضحايا الدولة العظمى، فيحصل ما حصل في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر.
4 ـ جرائم حكام الدول العظمى في حق حكام ورعايا الدول الصغيرة، وهي تلحق في التصنيف بجرائم الحاكم في حق الضعفاء من رعيته، بمعنى أنها آمنة من الملاحقة والعقاب، على غرار جرائم الإبادة الجماعية التي أرتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري، وجرائم أمريكا وحلفائها في حق العرب والمسلمين.

 .
 
الكبائر واللم من الصغار في حق الكبار
ولا ينبغي أن نغادر هذا التصنيف، دون التعريج على أخطر الجرائم في جميع الدساتير والمنظومات التشريعية في تاريخ البشرية الحديث والقديم، وأعني هنا جرائم صغار القوم من الرعية في حق الحاكم، لأنها لا تخضع لمبدأ التقادم، ولا ينظر فيها للظروف المخفقة، ولا تنفع فيها شفاعة الشفعاء في الداخل والخارج. فالنظام المصري على سبيل المثال، لم يكتف بالقصاص من إسلام اسطنبولي، قاتل السادات، حتى ارتهن علاقاته ومصالحه الإقليمية مع الجمهورية الاسلامية الإيرانية، لأنها أطلقت اسم إسطنبولي على أحد شوارع طهران.
التشريعات العقابية في الدول الاستبدادية كما في الدول الديمقراطية، تمر مر الكرام على الكثير من جرائم الحكام وعلية القوم، ولم تتعرض لها حتى من باب التوقع. فلن تجد، في القانون الجنائي الفرنسي أو الجزائري أو المصري، مواد ونصوصا جنائية تعالج، على سبيل المثال جريمة قتل يرتكبها الرئيس الفرنسي أو المصري في حق مواطن عادي، أو حتى في حق أقرب المقربين إليه، كصاحبته وبنيه، أو فرد من حاشيته. الكثير من هذه الجرائم يقفل ملفها قبل أن يفتح، تحت عنوان “انتحار” أو “حادث سير” أو ما يشبه ذلك، أو يقيد “ضد مجهول”. وهذا ما حصل في الجرائم الثلاث التي أثيرت هذا الأسبوع.
لنتفق إذن على أن إثارة مثل هذه الجرائم، لم يأت بدافع الرغبة في إقامة العدالة ولو بعد حين، وملاحقة المذنبين. فحتى في حالة اغتيال عرفات، فإن السيد قدومي انتظر خمس سنوات قبل استظهار الوثيقة التي تدين أبومازن ودحلان، وانتظر الجنرال الفرنسي المتقاعد مرور قرابة عقد من الزمن ليوجه اتهاما للمؤسسة العسكرية الجزائرية، ويدخل الرئيس الفرنسي على الخط بأجندة احتواء مزدوجة: ابتزاز السلطة الجزائرية، وترهيب منافس له على الرئاسيات القادمة في شخص الشيراكي ألان جوبي، بعد أن بدأ فريق الشيراكيين يناور لمنعه من طلب عهدة ثانية سنة 2012 ولم يحرك الرئيس الجزائري هذه المرة ساكنا، لأن التهمة الفرنسية تستهدف حلقة صغيرة من قيادة الجيش سلمت حتى الآن من عملية إعادة الهيكلة لقيادة الجيش، وظلت تضايقه حتى اليوم، وتعرقل مشاريعه الإصلاحية.

 .
 
قوانين الصفوة فوق الجميع من العامة
وفي كل الأحوال، وحتى مع تصديق السيد قدومي والوثوق بما بين يديه من وثائق تدين قتلة عرفات من أقرب مقربته، وحتى مع تصديق الرئيس الفرنسي وذلك الجنرال المتقاعد، أو تصديق ما صادر من اتهامات مضادة، من أوساط مقربة من بعض قيادات الجيش الجزائري لنظرائهم الفرنسيين، فإن ما ينبغي التيقن منه، أنه، لا أبومازن ولا دحلان، سوف يلاحق اليوم أو غدا أمام المحاكم، ولا حتى بتحقيق جاد. ولن يحال مسئول واحد من المؤسستين الفرنسية والجزائرية على محكمة محلية أو دولية، طلبا للعدالة والقصاص في دم الرهبان السبعة، وغيرهم من ضحايا الفتنة الكبرى.
ولأن الخاصة من العامة على الأقل يدركون حقيقة أن التشريعات العقابية والمؤسسات القضائية والتأديبية إنما وجدت لحماية الخاصة من علية القوم من تدافع العامة وأطماعهم في الشراكة في السلطة والجاه والمال، فإن الإبقاء على قدر من الانضباط، وتسييد القانون، ليس مرده احترام القانون أو الاعتقاد بوجود قدر من المساواة أمام القانون، بل يعود إلى الخوف من العقاب بموجب قوانين البشر، أو بموجب وازع من الدين يردع المؤمن أصلا عن الجريمة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!