-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جذور فكرة الدين الإبراهيمي وامتداداتها 1/2

التهامي مجوري
  • 715
  • 0
جذور فكرة الدين الإبراهيمي وامتداداتها 1/2

الدينُ الإبراهيمي فكرة ساذجة، ما كان لعاقل من المهتمين بمقارنة الأديان أن يتبناها أو يدعو إليها، مسلما كان أو يهوديا أو نصرانيا؛ لأنها فكرة مغايرة للحقيقة ولطبائع الأشياء.
ذلك أن الديانات السماوية كلها مبدؤها التوحيد الذي كان عليه سيدنا إبراهيم عليه السلام، ولكن شرائع الأنبياء كانت مختلفة وقاصرة على الأقوام الذين أنزلت فيهم.

فكل فريق من أهل الشرائع متمسك بشريعته، وهو السلوك الطبيعي من كل فئة من هذه الفئات الدينية، ولو كان للناس أن يجتمعوا على شريعة واحدة، فإنهم يجتمعون على دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم النبيين وناسخ الشرائع السابقة له كلها، وهو خلاصة الخبرة النبوية كلها؛ لسبب بسيط هو أن النبوات السابقة بشرت به عليه الصلاة والسلام.
وأهل الكتاب من اليهود والنصارى يعلمون هذا، ودارسو مقارنة الأديان يعلمون هذا أيضا، سواء بمنطق التطور الذي يقتضي أن تكون شريعة محمد هي الأكمل والأفضل، لأنها آخر ما نزِّل من الكتب السماوية، أو بمنطق الإيمان والوحي الإلهي الذي بشر بمحمد خاتم النبيين من قبل بشهادة سيدنا عيسى عليه السلام (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف 6].
وحتى يلتقي أهل الشرائع المختلفة والشرائع السماوية منها على وجه التحديد، لا يحتاجون إلى عمل تلفيقي ليقال أن أهل الديانات اتفقوا والتقوا، وإنما يحتاجون إلى عقول كبيرة وفهوم أكبر تقديرا للإنسان الذي كرمه الله سبحانه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء 70].
وقد عبَّر عن هذه الروح علمان من أعلام النصارى العرب ومسلميهم، وهما الدكتور شبلي شميل، وأمير الشعراء أحمد شوقي.
أما الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور فقد كتب رسالة إلى رشيد رضا وقراء مجلة “المنار” يقول له فيها: “إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار: أنت تنظر إلى محمد كنبيٍّ وتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض، فالجامع بيننا: العقل الواسع، والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعرى المودة. من صديقك الدكتور شميل” [المنار 11/9]. أما أمير الشعراء فقد وقف على قبر وزير مسيحي وقال:
الدينُ لِلدَيّانِ جَلَّ جَلالُهُ لَو شاءَ رَبُّكَ وَحَّدَ الأَقواما
هَذي رُبوعُكُمُ وَتِلكَ رُبوعُنا مُتَقابِلينَ نُعالِجُ الأَيّاما
هَذي قُبورُكُمُ وَتِلكَ قُبورُنا مُتَجاوِرينَ جَماجِما وَعِظاما
فَبِحُرمَةِ المَوتى وَواجِبِ حَقِّهِم عيشوا كَما يَقضي الجِوارُ كِراما
ولكن ضيق الأفق البشري في معالجاته لقضايا الإنسان، لم تستسغ أن بقاء الناس مختلفين في قناعاتهم العقدية والثقافية والفكرية أفضل من جمعهم على توجُّه واحد ولو كانت الاختلافات أضدادا؛ لأن الاختلافات بجميع أنواعها والأمور المتناقضة خاصة من لوازم بعضها البعض، فلولا الشر ما عرفنا الخير، ولولا الخطأ ما عرفنا الصواب، والأسوأ المنهجية الغربية التي رأت في الحكمة من هذا الاختلاف، أن يتحول إلى صراع، ليكون منتجا صراع الأجيال، الصراع الطبقي، بين المرأة والرجل، صراع الديانات والعقائد… إلخ، وكما قال الأستاذ أبو القاسم حاج حمد رحمه الله: لا يتصور الفكر الغربي إلا صارعا أو مصروعا [الإسلامية العالمية الثانية].
ولعلّ هذا ما جعل من أهل النيات الطيبة تسعى إلى لملمة الناس على الموائد الواحدة، ولا يهم بعد ذلك أن تكون موائد كرام أو موائد لئام.
يمكن للفكر الإنساني أن يعالج الأمور المادية المحسوسة، ويجمع الناس عليها لأنها تمثل غايات واحدة، مثل العدل والحرية والضمانات الاجتماعية والمكاسب المادية… إلخ، ولكنه لا يمكن أن يجمع الناس فيصبحون كلهم أغنياء لا يحتاجون إلى غيرهم، أو كلهم فقراء يحتاجون إلى كل شيء، أو يحوِّلهم إلى معتقد واحد لا يحيدون عنه، بأن يكونوا كلهم مسلمين أو يهودا أو نصارى، أو يلفِّق لهم دينا فيجتمعون عليه، مثلما فعلت الجماعة الأحمدية من قبل التي جاءت بدين جديد وأسست لإطار جامع للكتب المنزلة، بتدبير إنجليزي محكم خلال فترة احتلال الهند، وكما تفعل فكرة الدين الإبراهيمي اليوم برعاية أمريكية وتنفيذ عروبي.
ونظرا للقصور الذي تعاني منه الإنسانية في هذا الجانب، سعت هذه الاجتهادات –مخلصة ومغرضة- لجمع الناس على أفكار جامعة لتقليص مساحات الاختلاف الموجودة في البشر، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي حصدت الملايين من شعوب العالم، بسبب التمايز العرقي والديني والثقافي، فاستُبعد الدين من الحياة السياسية لضمان استقرار النظم السياسية وتبنَّت البشرية تلك الطروحات ذات المنشأ الغربي: العلمانية أو اللائكية أو الإلحاد، فبنيت نظم سياسية أقلّ اضطرابا بمناهج توافقية معينة فيما يعرف بالعقد الاجتماعي [توماس هوبز، جون لوك، جون جاك روسو]، وبقي الدين المسيحي خارج الحلبة السياسية ردحا من الزمن، ولكنه بقي ساكنا أرواح أهله فلم يغادر موقعه الثقافي والأخلاقي، بما في ذلك النظم السياسية التي تبنت الإلحاد مثل الاتحاد السوفييتي سابقا، كما بقيت الديانات الأخرى على حالها في مجتمعاتها؛ بل لم تستطع هذه الأنظمة وتلك التخلص من هيمنة الدين على الحياة، ومنه العالم الإسلامي الذي أنشأ في أغلبه نظما سياسية تبنت الطرح العلماني، ولكن منظوماتها القانونية في معظمها مستمدة من الشريعة الإسلامية؛ بل لا يوجد فيها الكثير من المخالفات الشرعية؛ لأن الأصل في الأنظمة العلمانية في الغالب توافقية تعاقدية ومن ثم فهي تعمل على تحقيق العدل وضمان الحريات بأكبر قدر، والتشريع الإسلامي في طبيعته يهدف إلى ذلك ولو مع خصومه اللادينيين.
وعلى هامش هذا الواقع السياسي الذي أوجد لنفسه إطارا تقاربيا لما بين أطرافه من خلافات ونزاعات، وُلدت فكرة الحوار المسيحي الإسلامي لتأطير الخلاف الديني، لإتمام عملية توحيد البشرية على خيارات فكرية وعقدية، فمثلما وحَّدت النظرية السياسية بين الفرقاء السياسيين، فيما يعرف بالعقد الاجتماعي، يمكن توحيد المنظور الديني لدى البشر، وقد وقع رجاء غارودي رحمه الله في هذا المزلق في فكرة حوار الحضارات كما في قوله “ومن خلال القرآن وعبر الشعر الصوفي الخارق على انفتاح وعلى قبول لا يقتصر على سائر أُسر الإيمان الإبراهيمي وحسب، بل يمتد إلى إمكان حوار خصيب مع حكمة آسية والهند اليابان” [حوار الحضارات ص 6].
وهذا النَّفَس الروحاني الجامع حقيقة لا يُشكُّ في صدقيته، لاسيما عندما ترسخت فكرة أن العالم يحتاج بعضُه إلى بعض إذ لا يمكن لطرف أن ينمو أو يتجدد إلا في إطار أكبر منه وأوسع [حوار الحضارات، 180 ]، بما في ذلك الديانات السماوية لا يمكنها أن تثمر بمفردها إلا باحتكاكها بإطار أكبر منها.

 الحقيقة التي يغفل عنها هؤلاء أن العقائد الدينية لا يمكن جمعُها في إطار جامع يقبل فيه كل الناس كل شيء انطلاقا من نقاش اقتنع فيه الجميع بهذه الفكرة أو تلك؛ لأن مَهمَّة الدين هي إشباع الروح، والروح لا يشبعها العقل بما توصل إليه، وإنما يشبعها الوحي، والوحي اكتمل في رسالة الإسلام الخاتمة التي لا تقبل إلا توحيد الله بالصيغة التي جاء بها جميع الأنبياء. وهي كاملة في الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره.

ولكن الحقيقة التي يغفل عنها هؤلاء أن العقائد الدينية لا يمكن جمعُها في إطار جامع يقبل فيه كل الناس كل شيء انطلاقا من نقاش اقتنع فيه الجميع بهذه الفكرة أو تلك؛ لأن مَهمَّة الدين هي إشباع الروح، والروح لا يشبعها العقل بما توصَّل إليه، وإنما يشبعها الوحي، والوحي اكتمل في رسالة الإسلام الخاتمة التي لا تقبل إلا توحيد الله بالصيغة التي جاء بها جميع الأنبياء. وهي كاملة في الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره، وقد اكتمل هذا الإسلام بمسيرة الأنبياء كلهم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان المقرر النهائي في الإسلام عدم التفريق بين الأنبياء (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة 285].
ودورات الحوار الإسلامي المسيحي كلها كانت تدور في هذا الفلك ذي الطابع السياسي المتوجِّس خيفة من مستقبل تسوده الأنانيات وتسيِّره كما تريد، خوفا من غلبة النظرة المادية والتفسخ الأخلاقي المتحلل من كل الالتزامات القيمية الأخلاقية.
وكل ذلك تخوُّفٌ مشروع، ولكنه لا يصلح إلا في الأمور المادية، أما الديانات فلا يليق الحوار فيها بغاية الجمع بينها لتكون دينا واحدا للبشرية؛ لأن الدين ما يقرره الله وليس ما يقرره البشر بعقولهم ولو كانت هذه العقول عملاقة… فتديُّن الناس محترم مهما كان نوع هذا التدين، ما دام دينا، ولا يجبر أحد على تدين معين؛ بل تترك له الحرية الكاملة لاعتناق الدين الذي ارتضاه لنفسه، بقطع النظر عن صحته وفساده… فلا يعقل أن نعمل على جمع أناس في إطار ديني واحد، وقد اعترفنا لهم بحريتهم في خياراتهم العقدية وبحقهم فيما هم عليه، سواء رضينا به أم لم نرض. من جهة أخرى فإن أهل الديانات يحملون في نفوسهم عقائدَ وغير مستعدين للتنازل عليها في حواراتهم مع أهل الديانات الأخرى، ومن كان مستعدا للتنازل عن عقيدته، فهو غير متدين بذلك الدين الذي جاء به؛ لأن الحوار في الأصل يكون فيما دون الدين وفي الأمور القابلة للقياس التي تدرك المصالح فيها والمفاسد بمجرد الاجتهاد العقلي، إذ يمكن للمرء أن يشعر بأن رأي غيره أفضل ويحقق به المطلوب بطريقة أفضل، إلا إذا اعتبرنا الناس كلهم على حق، ثم توصلنا إلى طريقة يُرضي بها بعضُنا بعضًا كما قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم “تعبد آلهتنا سنة: اللات والعزي، ونعبد إلهك سنة” [كتب التفسير، سبب نزول سورة الكافرون]، ويتم الاتفاق على ذلك، وذلك ليس دينا دينا، بل هو مجاملاتٌ تحسب في منطق الشرع نفاقا، يبدي ما لا يبطن من الآراء والمواقف.
يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!