-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

النّخب العربيّة الحاكمة و”جريمة” المقاومة في غزّة

أ. د. فريد حاجي
  • 632
  • 0
النّخب العربيّة الحاكمة و”جريمة” المقاومة في غزّة

كثيرة هي تساؤلات الشّارع العربي الموسومة بنوع من الدّهشة والتعجّب الممزوجتين بالحسرة والمرارة، حيال ما يقوم به الكيان الصهيوني ضدّ أهلنا في غزّة.

وما يزيده إيلاما وبلوغ القلوب الحناجر، تفرّج نخبه الحاكمة على عمليّات الإبادة، مكتفيّة ومنذ عقود بمضغ جملة “دولة مستقلّة لفلسطين في حدود 4 جوان 1967م وعاصمتها القدس الشرقيّة”، وكأنّ الجزائر استعادت سيادتها – وغيرها من الشّعوب- بمناشدة الأمم المتّحدة، ومجلس الأمن، وبموجب الشّرعية الدولية، وما يسمّى المجتمع الدولي.. الخ، عجبا.
إنّ مواقف النخب الحاكمة الحديثة والمعاصرة ليست بالجديدة، ولا نروم هنا سردا كرونولوجيّا لمواقفها ممّا حيك ضدّ عالمنا العربي، وكمثال فقط، احتفل الملك المغربي “الحسن الثاني” بالشمبانيا عند هزيمة عبد الناصر في نكبة 5 جوان 1967، وقال مقولته الشّهيرة “… حان الوقت لتزاوج العبقريّة اليهوديّة بالمال العربي” وفتح الباب لإسرائيل للتصنّت على اجتماعات الجامعة العربية المغلقة المنعقدة في بلاده حسب الكاتب “حسنين هيكل” في كتابه “كلام في السياسة”. ومنها نخب فتحت أراضيها لأمريكا لضرب العراق، بل شاركت جيوشها إلى جانبها. ولا داعي لفتح جراح أخرى في صفحات التاريخ العربي منذ الحرب العالميّة الأولى على الأقلّ. هذه المواقف، هي التي جعلت الشارع العربي من المحيط إلى الخليج يعيش حالة من التّيه والضّياع، وبلغ بالبعض منه التحسّر على وجوده في هذا الحيّز الجغرافي والحضاري الذي لا يلمسه في الواقع، ولا حتى الممارسات التي توحي له بالانتماء إلى الأمّة ولموروثه الثقافي.
والمؤسف، أنّ التاريخ ما يزال يسجّل مثل هذه المواقف المخزية إزاء العدوان الوحشي وللمرّة السّابعة الذي يتعرّض له قطاع غزّة بعد سيطرة حركة حماس عليه في أكتوبر 2007م. وما يعنينا في هذه المواقف، هي خلفيّتها، التي لا تعود لفعل المقاومة وحسب، بل لمرجعيّة القائمين عليها بالدرجة الأولى وهو الإسلام، الذي ينبذه ويزدريه الغرب بمن فيهم كثير من النّخب الحاكمة في الوطن العربي، وأمثالهم من يسمّون أنفسهم “الحداثيّين” و”الّليبراليين”.
في هذا الصّدد، ينبغي التّذكير بشيء من التاريخ، إذ أنّ:
1. معاداة الغرب للإسلام ليست مسألة جديدة؛ فالمسلم في منظوره “متوحّشٌ وبربري”، ودينه “دين السّيف” وهي توصيفاتٌ تفوح بها أدبيّات الغرب قديما وحديثا، ثمّ غدا “قذارة” (Shit) في مخيال الرئيس الأمريكي “بوش” الابن خلال الحرب الصهيونية على لبنان العام 2006م، وهي الصّورة النمطيّة في الخارطة الإدراكية للذّهن الغربي حكّاما وشعوبا تجاه المسلم، مع استثناءات طبعا.
2. الغرب ابتدع فكرة “المركزيّة الأوروبيّة” منذ مطلع القرن 19م، وهي مرجعيّته إلى اليوم، فالكثير من الأيديولوجيين الأوروبيين قد ارتووا من الدّراسات الاستشراقية والأنتروبولوجية “العلمية”، التي كانت تحطّ من شأن الإسلام ومعتنقيه، وطرحوا مسألة التّعارض المطلق بين الشّرق والغرب؛ هذا الأخير ديناميٌّ، متجدّد، وحرّ، يقابله شرقٌ استبدادي، متعصّب، راكد، ومتخلّف، وتحوّل هذا الطّرح إلى ما يسمّى نظرية “التفوّق العرقي” الأوروبي التي تزعّمها “رينان”، وهذا يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية (الغربية) ونظرتها إلى الآخر، فهم رتّبوا العالم حول مركز وشكّلوا هم جوهره، ومن ابتعد عن المدار المتّصل بذلك المركز يبقى مجرّد نفايات بشريّة تهوى إلى الحضيض، وعليها أن تخضع لهذا المركز الذي يمنح الأشياء أهمّيتها.
3. هذا الخطاب، كان موجّها في الأساس للعالمين العربي والإسلامي بخاصّة -وما يزال- ففي منظور أصحابه أنّ المسلمين يشكّلون خطرا على البشرية بسبب دينهم، وهو أحد المسوّغات التي وظّفتها فرنسا الاستعماريّة مثلا في غزوها للجزائر العام 1830م، وهو مبرّر الولايات المتّحدة في غزوها لأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م. وأخيرا، حجّة الكيان الصهيوني في اعتداءاته على غزّة، وقد وصف وزير دفاع الكيان الصهيوني المقاومين في غزّة بـ”الحيوانات البشرية”.
وعليه، هناك مكنونٌ عبّر عنه “شاتوبريان” بعد رحلة قادته إلى “القدس” و”بيت لحم” في بداية القرن 19م، إذ قال: »… حيثما ذهب الإنسان، يصادف الشرقيّين العرب الهمجيين ذوي الحضارة والدّيانة والمسلك والأخلاق المنحطّة التي استوجبت الغزو الأوروبي«. على أساس ذلك، يأتي موقف الغرب، وبالطّبع دون تجاهل الدّواعي الاقتصادية في المنطقة، والقضايا الجيوسياسيّة في ظلّ تنافس محموم للظفر بريادة النظام الدولي الذي هو في طور التشكّل. كلّ هذا، قد يتفهّمه الشّارع العربي، لكن، أنّى له استساغة مواقف نخبه الحاكمة وبعض مثقّفيه في تماهيهم وتبنّيهم لمفاهيم الغرب بقضّها وقضيضها والانسياق وراءها لأنّها “قيمٌ عالميّة” ينبغي العضّ عليها بالنّواجد. وقد ينادون يوما بـ”القيمة” الجديدة، وهي “المثليّة”، فقط لأنّ الغرب اعتمدها، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ربّما يأتي يومٌ نرى فيه هذه النخب تستفيق مثلما استفاق “توفيق الحكيم” في كتابه “عودة الوعي” بعد رحيل عبد الناصر ومجيء السّادات، خصوصا وأنّ أحداث السنوات الأخيرة بيّنت زيف شعارات الغرب ونفاقه، ففي تعامله مع “أوكرانيا” والعدوان على “غزّة” فصلُ الخطاب.
لعلّ ما يشي بتساوق ومجاراة العديد من النخب العربية الحاكمة مع الغرب، هو النّظرة للمسلمين بعامّة، وما يسمّى “الإسلام السياسي” بخاصّة، فلا يعزب عن البال، أنّه خلال الحرب على غزّة بين 25 ديسمبر 2008 و18 جانفي 2009، قال الرئيس الفرنسي شيراك: “… لقد طلب منّي الرئيس المصري (يقصد مبارك) إبلاغ رئيس وزراء إسرائيل “أولمرت” بعدم السّماح لحماس بتحقيق أيّ نصر”. وقال الرئيس الإسرائيلي “موشي كتساف”: “لقد طالَبَنا الحكّامُ العرب بعدم تمكين حماس من الانتصار، لأنّ ذلك يُعدّ كارثة علينا”، ولا ندري من هم هؤلاء تحديدا؟!
والسؤال: هل فعلُ المقاومة من أجل تحرير أرض مغتصبة، والدفاع عن المقدّسات هو الكارثة أم فاعلها؟
إنّه الفاعل الذي يمقته الغرب ومعظم النخب الحاكمة، فهو يحرج هذه الأخيرة أمام رعيّتها لاستكانتها والتّفريط في حقوق بني جلدتها. وعليه، يمكن توصيف مواقف هذه النخب تجاه غزّة الجريحة، كما يلي:
– موقف موحّد من حماس كتوجّه، بمن فيهم “سلطة رام الله” التي تصفها بـ”الظلاميّة” وصواريخها بـ”العبثيّة”، بل المساهمة في الحصار على غزّة منذ أكتوبر 2007م، وأنّها لا تمثّل الشّعب الفلسطيني حسب هذه السلطة، التي لا هي تمثّل دولة فعلا، ولا هي مقاومة، وربّما تخشى هذه الشّاكلة من النخب، من تكرار التجربة التركيّة، ورأينا كيف كان أَملها نجاح محاولة الانقلاب عليها العام 2015م، وتمنّيها انهزام “أردوغان” في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، وهي شواهد تاريخيّة تقطع الشكّ باليقين على ما تُكنّه بعض هذه النخب من شيطنة للإسلام السياسي، حتى يخال المتابعُ أنّها تقتدي بمقولة “هيرمان” أحد أكبر دعاة الاستعمار والتفوّق الأوروبي، الذي كتب في العام 1910 قائلا: »…إن ثمّة تراتبيّة بين الأعراق والحضارات، ونحن ننتمي للحضارة والعرق المتفوّقين… وهو ما يتبطّن حقّنا في أن نُوجّه بقيّة البشر ونقودهم. «
– مساندة للمقاومة في غزّة بدافع روح الانتماء لدى بعض النخب بغضّ النّظر عمّن يقودها، ولكونها حركة تحرّر شأنها شأن حركات التحرّر من أجل الاستقلال عقب الحرب العالمية الثانية.
وما دامت تلك هي نقطة الضّعف لدى هذه النخب، فقد وظّفها الغرب، السُّلطة من دون شرعيّة شعبيّة، مقابل التحوّل إلى أصفار على اليسار تجاه القضايا المصيريّة للأمّة من مثل ما يحدث اليوم في غزّة، بل في السياسة الدولية.
إنّ ما يخامر الكثير من هذه النُّخب، لعلّ وعسى تتمكّن إسرائيل من تخليصهم من هذه “القذارة” على حدّ تعبير “بوش”. والغريب، أنّ هذه النخب، تنسى أنّ الفكرة لا تموت، والإيمان بالقضيّة لا تردعه القوّة، وأنّ الزّمن غير كفيل بوأدها –ومثلُ الجزائر ليس ببعيد في صراعها مع المحتلّ الفرنسي- مثلما اعتقد مؤسّس الكيان الصهيوني “بن غوريون” بقوله »… الكبار يموتون والصّغار ينسوْنَ«، فأنّى لهذه النّخب اليوم تسعى إلى تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة تارة عبر مسمّى “صفقة القرن” وتارة أخرى بـ”التهجير” وهي الفكرة التي تمّ طرحها في ما سمّي “مؤتمر السلام” في القاهرة، التي رفضت الجزائر وتونس حضوره، إذ قال الرئيس المصري »… إذا كانت هناك فكرة للتّهجير، توجد صحراء النقب يمكن نقلُ الفلسطينيّين إليها، ويمكن لإسرائيل إعادتهم -إن شاءت- بعد التخلّص من الحركة المسلّحة لحماس والجهاد الإسلامي«. هذا الطّرح، ذكّرني بما قاله الكاردينال “لافيجري” للحاكم العام في الجزائر “ماكماهون” العام 1868م: »… يجب على فرنسا أن لا تترك الشّعب العربي متقوقعا في قرآنه، يجب أن نمنحه أو على الأقل ندَعُ من يمنحه الإنجيل، أو الإلقاء به في فيافي الصحراء بعيدا عن العالم المتحضّر«. فهل تخلّى الجزائريون عن دينهم؟ وأقرّ المبشّر “دو فوكو” بذلك »… لم أستطع طيلة 15 سنة تنصيرَ ولو أهليّ واحد”.«
أخيرا، وليس آخرا، فإنّ الشعوب لا تريد رعودا لا تُمطر، لأنّ الأقدار لا تتعلّق بكلمات، والمصائر لا يضمنها مزاج لحظة بعينها؛ أَوَ ليس الحلم الصّهيوني هو محرّك كلّ طاقة ومصدر كلّ إلهام، وهذا الحلم هو الخطر الفعلي الذي ما يزال يواجه الغرب، لكنّه التّقهقر الذّهني والسياسي والأخلاقي للعديد من النخب الحاكمة، التي تتربّع على قمّة الدّولة بشرعيّة أساسها فرد أو أسرة، بتزكيّة أمريكيّة أو فرنسيّة، تحميها أجهزة القوّة، وأجهزة الإعلام تتعامل معه كقول أحد ثُوّار اليمن أمام مؤتمر الأدباء العرب: “في اليمن نوعان من الأدب، أدب في مدح الإمام، وأدب في رجاء عفوه، وهذا كلّ شيء”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!