-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحُلل السُّندسيّة …

الحُلل السُّندسيّة …

من أمجد أيام الله – عز وجل – في الجزائر يوم 24 فبراير من عام 1792. وقد اقترحتُ في عدة مناسبات أن يتخذ الجزائريون هذا اليوم عيدا، يتوقفون فيه ليذكروا إحدى نعم الله – عز وجل – عليهم، وليشيدوا بما وقع فيه، وما وقع فيه ليس بالأمر الهيّن، حيث منَّ فيه الله – عز وجل – على آبائنا بنصر مبين، فأمكنهم من عدوهم، وطهّر جزءا غاليا من وطنهم ظل ما يقرب من ثلاثة قرون تحت الاحتلال الصليبي الإسباني (*)، وهذا الجزء الغالي من وطننا الذي ابتلي ذلك البلاء هو مدينة وهران وما حولها، التي غزاها الإسبان في سنة 1509.

لم يسترجع آباؤنا هذا الجزء بسهولة، ولم يستعيدوه بيسر، فقد كان شغلهم الشاغل وهمّهم الدائم، ولم يقصّروا في سبيله أبدا، فبذلوا من أجله الأموال الطائلة، وخاضوا في سبيله المعارك الهائلة في البر والبحر، واسترخصوا المهج الغاليات، وأسالوا الدماء الزاكيات، حتى غلبوا من بعد غلبهم، وفرح المؤمنون بنصر الله.

وأذكر بهذه المناسبة أن وزارة الشؤون الدينية أقامت في 1992 ندوة تلفزونية عن هذه الذكرى المجيدة (مرور قرنين على تحرير وهران)، وفي أثناء الإعداد لتلك الندوة قال لي مسؤول «جزائري» غريب الوجه واليد واللسان؛ ما دخل وزارة الشؤون الدينية في مثل هذه الأمور؟ فشأنكم أن تهتموا بالصلاة، والحج، والصوم، قال ذلك استقلالا لهذه الأركان واستهانة بها. ثم واصل كلامه قائلا في ذلة وصغار: ثم إنكم ستحرجوننا أمام الإسبان عندما ترددون في ندوتكم بأننا هزمنا الإسبان، وانتصرنا عليهم، وطردناهم..

تأملت صفاقة وجه ذلك المسؤول، فتبيّنتُ سفاهة عقله، وسفالة همته، ونذالة ذمته، وقلت في نفسي ما أورد الجزائر هذا الورد السيء، وما أنزلها إلى هذا المستوى المنحط إلا هذا وأمثاله من «الأنعام» الذين يأكلون خيرات الجزائر ويتمتعون فيها، ولكنهم يخجلون من أمجادها، ويحرصون على مشاعر أعدائها أن تخدش، ويحافظون على أحاسيسهم أن تمس.

ثم قلت لذلك الكائن:

إن اهتمامنا بهذه الذكرى يعود إلى عدة أمور:

*) عدم قيام أية مؤسسة جزائرية بإحياء هذه المناسبة الوطنية العظيمة التي كلّفتنا ما كلفتنا من رجال وأموال.. من أجل كان من الواجب الوطني أن تبادر جميع المؤسسات المدنية والعسكرية، الرسمية والشعبية إلى إحياء هذه الذكرى فهي نظير 5 جويلية 1962.

*) إنك تجهل قيمة الجهاد ومكانته في ديننا، فهو »سنام الإسلام« كما جاء في الحديث النبوي الشريف، ولذلك فأولى الهيآت والمؤسسات بإحياء هذه المناسبات، والتذكير بهذه الانتصارات هي وزارة الشؤون الدينية، التي كان من الواجب أن تكون وزارة »سيادية«، وأن تكون في أضخم وأحسن البنايات، وأن تعطى أكبر الإمكانات .. لأن دورها في ميدان الدفاع الروحي والمعنوي كدور وزارة الدفاع في الميدان المادي أو أخطر، والدليل على ذلك هو أنه عندما أزيلت  دولتنا في سنة 1830 من طرف العدو الفرنسي، ما حافظ على أمتنا بمقوماتها الدينية واللسانية والتاريخية إلا علماء الدين.. ولولا تلك المقومات لذاب الجزائريون في أعدائهم الفرنسي ولما استعادوا دولتهم.

*) إن ما سنقوله من أننا هزمنا الإسبان ودحرناهم، ووضعنا أنوفهم في الرغام هو – في أكثره – مأخوذ من مصادرهم التاريخية، لأن عيبنا الأكبر وتقصيرنا الأظهر هو – كما يقول أستاذنا أبو القاسم سعد الله -: »إننا نصنع التاريخ ولا نكتبه«، وكما يقول مفدي زكريا:

وكم بالجزائر من معجزات

وإن جحدوها ولم تكتب

 

* وأخيرا، عليك أن تتذكر – إن كنت ناسيا – أن إسبانيا ما تزال تحتل إلى الآن مدينتين إسلاميتين في المغرب – سبته ومليلة – وبعض الجزر المغربية، وأنها تحتفل في هذه السنة – 1992 – بمرور خمسة قرون على طرد المسلمين من الأندلس، وقد تكون – أو أكون – أحد أحفاد أولئك المسلمين الذين أُخرجوا من ديارهم، وجرّدوا من أملاكهم، وما نقموا منهم إلا أن قالوا ربنا الله، والأندلس وطننا.. فلماذا هم لا يراعون مشاعرنا وأحساسينا؟

إن أهمية هذا التحرير وقيمة هذا الفتح دينيا، وسياسيا جعلتا أحد كبار علمائنا وهو »أبوراس« محمد بن الناصر العسكري (**) (1735 – 1824) يؤلف »ست مؤلفات في هذا الفتح(1)«، ومنها »الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندلسية«، وهو شرع لقصيدته السينية التي نظمها تخليدا لهذا الفتح وفرحا وابتهاجا به، وكان معاصرا له.

إن الفضل في تحقيق هذا الكتاب يعود إلى الأستاذة المغربية سليمة ابن عمر، حيث نالت به شهادة الماجستير.

لقد راسلتني الأستاذة في سنة 1993 لأبحث لها عن ناشر يتولى نشر هذا الكتاب في الجزائر، لأن موضوعه جزائري، ولأن مؤلفه جزائري، وقد حاولت ولكنني لم أفلح، فالناشرون الخواص آنذاك كانوا يعدون على رؤوس أصابع اليد الواحدة، والناشران التابعان للدولة كان أحدهما يُسْلم روحه، وهي »المؤسسة الوطنية للكتاب (ENAL)، والثاني «ديوان المطبوعات الجامعية» (OPU) كان في الإنعاش.

لقد ظلت منذ ذلك الوقت أسأل بعض الإخوة الذين يزورون المغرب الأقصى عن هذا الكتاب إن كان قد طبع لأسعى لامتلاكه، وكان جوابهم سلبيا، إلى أن أقيم معرض الجزائر للكتب في سنة 2010 فإذا بي أجد نسخة منه في جناح ليبيا، من نشر «جمعية الدعوة الإسلامية العالمية» التي هي حسنة من بين سيئات النظام الليبي السابق..

يقع الكتاب في 599 صفحة، وينقسم إلى جزئين:

*) الجزء الأول يتناول: مشروعية البحث، ومنهج التحقيق، ومنهج الدراسة، والصعوبات، ومصادر حياة المؤلف وحياته، وعصره، ووصف النسخ المعتمدة في التحقيق، وحدود الكتاب (زمانا ومكانا) وشروحه، وأسلوبه، ومصادره، ومنهج الكتاب، قضاياه، ومواده المختلفة، ثم الخاتمة ونتائج البحث.

وأما الجزء الثاني (من ص 195 إلى ص 518) فخصصته الأستاذة لتحقيق المتن وبقية الصفحات لمصادر التحقيق والفهارس العامة.

وأود أن ألاحظ ملاحظة وهي أنني زرت في صيف 2010 القلعة المطلة على مدينة وهران، فوجدت مجموعة من الزائرين ـ أجانب وجزائريين ـ فانضممت إليهم لوجود دليل رسمي يشرح لهم أقسام القلعة وما شاهدته من حوادث، فلفت نظري عدم ذكره لكلمة الجزائريين، حيث كان يردد: جاء الترك من هنا، هاجم الترك الإسبان من هناك، اشتبك الترك مع الإسبان هنالك، فخاطبت ذلك الدليل قائلا إن الذين كانوا يهاجمون الإسبان ويقاتلونهم إنما هم جزائريون مع وجود بعض إخواننا العثمانيين، ورحت أفصل القول حتى لا يقول الذين يسمعون ذلك الكلام إننا ـ الجزائريين نحب أن نُحْمد بما لم نفعل، وأن نفخر بما لم ننجز.. فأجابني ذلك الدليل قائلا: ذلك ما عُلِّمنا.. وضلّ من كانت العميان تهديه.

وأخيرا أشكر الأستاذة سلمة ابن عمر على اهتمامها بتاريخنا، وعلى نشرها لهذا الكتاب الذي شابه كثير من الأخطاء المطبعية، نرجو استدراكها في المستقبل إن أعيد طبعه.

 

*) للشيخ أحمد توفيق المدني كتاب عنوانه: «حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا»

**) عن حياة الشيخ أبي راس انظر كتابه الذي سماه «فتح الإله ومنّته في التحدث بفضل ربي ونعمته» وكتاب »أبو راس الناصري المعسكري» لفضيلة الشيخ أبي عبد القادر عابدين ابن حنفية.

1) سليمة ابن عمر: الحلل السندسية…  لقسم الدراسة. ص. 112.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
17
  • فيصل

    شكرا

  • فيصل

    شكرا

  • أبو عبد الواحد

    بارك الله فيك شيخنا على تذكيرك لنا بأيام الله في بلدنا الحبيب، مصداقا لقوله تعالى:"وذكرهم بأيام الله" ، وليعلم من كان على شاكلة ذلك المسؤول "الجزائري" أن تاريخ الجزائر مفعم بالبطولات ولولاها ولولا تشبث أجدادنا بعقيدتهم لطمسنا كما طمست معالم الإسلام في الأندلس.

  • متابع متعب

    ماشاء الله عليك و على أسلوبك يا دكتور

  • عبدالقادر مباركي

    مصيبتنا في بعض المسؤولين وخاصة منهم الشبه مقفين دائما هم من يدخل انفه فيما لا يعنيه و يريد فرض غيه على رجال العلم و الثقافة والدين.يظنون بتصرفه ذلك يخدمون الجزائر والجزائريين. لا يامن تفكرون عند ارجلكم ولا تبتعدون شبرا لا الى التاريخ المجيد لهذا الوطن الجريح بسبب عقوق بعض ابنائه الشبه مثقفين ولا الى الامام برؤى ثاقبة تنظر للغد و التخطيط من اجل تحقيق التقدم والنماء والرخاء للبلاد والعباد.فاقد العلم والمعرفة لا يمكنه ان يكون مستشرفا لما نريده في المستقبل لانه جاهل بما قام به الاجداد من امجادللبلاد

  • أبوبكر بن أحمد بوسام

    سيدي الهادي لا فُضّ فوك ولا بُرّ في الحياة من يجفوك

  • أبوبكر بن أحمد بوسام

    سيدي الهادي لا فضّ الله فاك ولا برّ في الحياة من جفاك

  • بدون اسم

    دائما تبهرني بمقالاتك يا سليل الإبراهيمي ، فكلما أمرّ على بيت البشير بالخرزة القبلية باولاد ابراهم أتذكره وأتذكرك، يا من علمتنا أنّ شعبا بلا تاريخ شعب بلا ذاكرة. حبيبك في الله البشير بوكثير رأس الوادي .

  • دزيرية بنت بلاد

    5 جويلية و 1 نوفمبر ما قدرناش او ما اعرفناش نحفلو بيهم وتقول 24 فبراير 1792

  • بلقاسم

    هذا في 24 فبراير 1992 ماذا عن 24 فبراير2012???

  • جمال

    ان الاستاذ محمد الهادي الحسني من الاشخاص القلائل الذين لولاهم لما تذكرنا تاريخنا، فهو لا يمر يوم الا ويذكرنا بما حدث في ذلك اليوم ، او يعرفنا بعلم من علماء الجزائر الافذاذ ، عكس مسؤولينا- و خاصة في قطاع الثقافة-الذين يصرفون الاموال الباهضة حول احياء ذكر ىمغني من المغنيين، و يدرجون ذلك كله انه خدمة للثقافة فهل ثقافة الشطيح و الرديح ثقافة- اسمحولي على هذا التعبير-ونعود لمحمد الهادي الحسني فنقول ان تشبعك بأفكار جمعية العلماء المسلمين الجزائرييين، لهو السمة البارزة لوفائك لرجالات العلم في الجزائر -ومثلما يقول زياد ابن أبيه #انما الناس بعلمه

  • بدون اسم

    واسفاه على ما فرطنا في معرفة تاريخنا جتى لتكاد العيون تبيض حزنا
    وكمدا ...وكم من ....مات في صمت

  • جزائرية في الخليج

    غلى الأخ الكاتب: جزيل الشكر لك وأطال الله في عمرك. الصراحة، قبل قراءة هذا المقال، لم أكن اعرف هذا الجزء من تاريخ بلادي. لما لا نسرد هذا التاريخ في الندوات المختصة الإقليمية والدولية؟ هذا من شأنه ان يحرك ويحي التاريخ وكذلك حكومتنا التي لا ترعيه اهتماما...

  • ليلى

    أنتظر مقالاتك دائما بشوق ؛ إذ اجد فيها المتعة و الفائدة. أدام الله قلمك في خدمة الدين و الوطن و بارك الله فيك.

  • هشام - (قالمة)

    بارك الله فيك استاذنا الفاضل و نفع الله بك الأمة الاسلامية عامة و الجزائريين خاصة و الله اني أحبك في الله

  • حكيمة

    شكرا جزيلا على هذا الموضوع يا أستاذ فما أحوجنا لمعرفة تاريخنا و بارك الله في علمك و عملك

  • يوسف

    كلّما غصنا في تاريخنا المجيد وجدنا دررا برّاقة تحكي لنا صولة الأسد(الجزائر) في عنفوانه وصلابته شكرا سيدي(الحسني)واستسمحك ان تعفو عن هؤلاء المسعولين فإنهم لا يعلمون ، الجهل فتك بهم والإمعية دكّت أوصالهم ،فيرون بعين ما وراء البحر لا من بين ايديهم ولا من خلفهم