-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البيعة الخاسرة!

سلطان بركاني
  • 942
  • 0
البيعة الخاسرة!

في هذه الأيام التي ارتفعت فيها درجات الحرارة فوق الأربعين، يستبدّ بأحدنا العطش، ويُثقل كاهلَه الحرّ الشّديد، فما أن يعود إلى بيته حتى يجد الماء البارد الذي يروي عطشه، وقد يجد مع ذلك المكيّف الذي ينعش روحه ويحيي بدنه بعد أن كاد يذبل.. وهكذا إذا دخل إلى مكان عمله، يجد الأجواء منعشة بفضل المكيفات المنتشرة في كلّ مكتب.. ومثله إذا دخل إلى مقهى من المقاهي، حيث يجد الماء والمشروبات الباردة، فيقضي نهمه وينعش نفسه.

هذه النّعم -التي يجب علينا أن نحمد الله عليها- ينبغي أن تذكّرنا بموطننا الأصليّ الذي خرجنا منه وينبغي أن نسعى جاهدين لنعود إليه بالتوبة والأعمال الصّالحة.. موطننا الأصليّ ليس هو هذه الدّنيا -التي مهما حاز فيها العبد من النّعم فإنّها تظلّ مشوبة بالمنغّصات والأكدار- إنّما هو الجنّة التي لا نقص فيها ولا نغص ولا كدر.. نحن ضيوف في هذه الدّنيا، والرّحيل آت لا محالة، وينبغي ألا نرضى إلا برحيل إلى الجنّة.. الجنّة تتزيّن لعباد الله المؤمنين، وتنتظر قدومهم عليها، وليس يليق بعبد مؤمن أن يرضى بدنيا زائلة، نعمها لا تتمّ ولا تدوم، عن جنّة نعيمها لا يفنى ولا ينقص ولا يتكدّر، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. لا يجوز أبدا ولا يليق أن تلهينا الدّنيا الزّائلة عن جنّة عالية قطوفها دانية.

مهما وجد الواحد منّا من وسائل الراحة في هذه الدّنيا، فإنّه لن يجد السعادة الكاملة، لن تكتمل له فرحة أبدا. ما من فرحة إلا وهي ممزوجة بالكدر معرّضة للزّوال، وما من نعمة إلا ولها آفة تذهب كمالها.. وهكذا هي الدّنيا خلقها الله ممزوجة بالأكدار والمنغّصات حتّى لا يركن إليها العباد وينسوا الآخرة.

لو ملك العبد بيتا واسعا فيه من كلّ الأثاث أجوده، وفيه من كلّ وسائل الرّاحة والمتعة، ومن ألذّ أنواع المآكل والمشارب، لكان كلّ ذلك من دون قيمة إذا ألمّ بالعبد مرض جعله لا يجد للطّعام طعما ولا للنّوم سبيلا.. لذلك فإنّ أغبن الغبن أن يرضى العبد بهذه الدّنيا الفانية ويجعلها غايته همّه ومنتهى أمله، ويبيع لأجلها آخرته.. ولنا أن نتخيّل رجلا في أيام الحرّ هذه التي تمرّ بنا، يملك سيارة فارهة مزوّدة بالتكييف وبكلّ وسائل الراحة، مرّ بآخر في يده كوب مثلّجات باردة، فتوقّف عنده، وعرض عليه أن يبدله المثلّجات الباردة بسيارته، فوافق الرجل الآخر والدهشة تغمره من كلّ جانب! ماذا سيقال عن الرّجل صاحب السيارة؟ سيقال عنه إنّه مغبون غبن نفسه، بل مجنون فقد عقله! لأنّه باع الثّمين بلا ثمن، باع نعمة يطول بقاؤها ويعمّ نفعها بلذّة آنية قصيرة عابرة!

إنّنا -إلا من عصم الله منّا- نغبن أنفسنا كلّ يوم أكثر من غبن هذا الرّجل صاحب السيارة نفسه، ونبيع ما هو أثمن من السيارة الفارهة، بما هو أهون وأحقر عند الله من كوب المثلجات، بل أهون على الله من جناح بعوضة؛ نبيع جنّة عرضها السّماوات والأرض بملك محدود ينازعنا فيه المنازعون.. ولذائذَ باقية في الجنّة بمتع وشهوات دنيوية زائلة تقسّي القلوب وتوهن الأبدان! وفي مثل هذه الحال يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: “كيف يكون عاقلا من باع الجنة بما فيها، بشهوة ساعة!”، ويقول: “فيا عجبا من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيّق بين أصحاب العاهات والبليات. ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بدور ضيقة آخرها الخراب والبوار. وأبكارا عُرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بأخريات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان. وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد الدنيا والدين. ولذة النظر إلى العزيز الكريم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم. وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والألحان.. والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت يوم المزيد في مجالس الفسق مع كل شيطان مريد”.

منّا من يبيع الجنّة بساعات يزيدها إلى وقت نومه، تضيّع عنه صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الليل والنّهار ويكتب الله بها عبده في عداد من يتولاهم ويحفظهم ويجعلهم في ذمّته.. ومن يبيع جنّة تغنّي فيها الحور بأعذب الأصوات، بنظرة آثمة إلى الأجساد العارية على هاتفه.. ومن يبيع جنّة فيها حور مطهّرات لو أطلّت إحداهنّ على الدّنيا لطاشت عقولهم لحسنها وجمالها، بتقليب نظره في الأسواق بين الغاديات والرائحات.. ومن يبيع جنّة الخلد بدنانير يكسبها من بيع الدّخان والمتاجرة بالمحرّمات.. ومن يبيع جنّة مساكنها لبنة من ذهب ولبنة من فضّة وطينتها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والزعفران، بسكن ضيّق في الدّنيا يأخذه بغير حقّ بالرّشاوى والمعارف والوساطات.. ومن يبيع جنّةً الجارُ فيها محمّد -صلّى الله عليه وآله وسلّم-، بأمتار يخاصم عليها جاره أو قطعة أرض يعادي لأجلها أخاه وابن عمّه.. منّا من يبيع جنّة إذا تمنّى فيها العبد شيئا وجده ماثلا أمام عينيه، وإذا أراد زيارة مكان وجد نفسه فيه في رمشة عين، يبيع هذا بسيارة يقتنيها عن طريق البنك الربويّ.. ومنّا من تبيع جنّة يُحلّ الله فيها رضوانه على عباده فلا يسخط عليهم أبدا، بكلمة ثناء من هذه وكلمة إعجاب من ذاك، ومن يبيع رضوان الله برضا مسؤول ساقط من عين الله، لا يملك موتا ولا حياة ولا رزقا.. منّا من تبيع جنّة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بملقاط ترقّق به حواجبها، وشعر مستعار تصل به شعرها.. ومن تبيع جنّة فيها الذّهب والفضّة واللؤلؤ والزبرجد بمصوغات من الذّهب تشتريها بالتقسيط وبالدّين.. وتبيع جنّة نعيمها لا يبلى ولا يفنى بثياب رقاق مشقوقة قصيرة عارية تلبسها في حفلات الأعراس.

حينما يعود العبد إلى رشده، يحار في أمر نفسه: كيف يبيع الجنّة العالية بهذه الدّنيا السّافلة الفانية، ويتساءل: أين ذهب عقلي حتّى أرضى بهذه البيعة الخاسرة؟! ويعجب لحاله كيف يرضى لنفسه أن تَشرَق وتغرق بعشق الدّنيا الفانية وتنسى الجنّة الباقية؟! والله لو كان للعبد منزلان أحدهما يمكث فيه 5 سنوات فقط، والآخر يمكث فيه بقية عمره، لكان من الغبن والحمق وقلّة العقل أن ينشغل بالبيت الذي يبقى فيه 5 سنوات عن البيت الذي يقضي فيه بقية عمره؛ كيف بمن ينشغل بدنيا لا يدري هل يمكث فيها 5 سنوات أم سنتين أم سنة، عن دار في الآخرة يبقى فيها خالدا مخلّدا إلى أبد الآبدين؟! يقول الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله-: “لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، والآخرة خزفا يبقى؛ لكان ينبغي أن تؤْثر خزفا يبقى على ذهب يفنى، فكيف والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى؟!”.

يحار العبد في نفسه كيف يركن إلى دنيا مليئة بالمشاكل والخصومات والنّزاعات، ويغفل عن جنّة أهلها قلوبهم نقية صافية ووجوههم مشرقة مبتسمة ومحبّتهم صافية صادقة! وكيف يرضى بدنيا حقيرة زائلة عن جنّة فيها رضوان الله الذي يحلّه على عباده المؤمنين! وكيف يؤثر دنيا تقسو فيها القلوب برؤية وجوه عليها غبرة، على جنّة تنعم فيها الأعين والقلوب والأرواح بلذّة النّظر إلى وجه الله الكريم؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!