-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الانتخابات بين الإيديولوجيا ومصالح النّاخب

الانتخابات بين الإيديولوجيا ومصالح النّاخب

الانتخابات موعدٌ للمحاسبة والمكافأة وربّما حتى العقاب، ولا يمكن أن تتّصف الانتخابات بهذه الصفات ما لم تتوافر فيها جملة من الشروط السابقة والمُصاحبة لها واللّاحقة. ومهما اجتهدت الجهات المعنية بالتّنظيم والمراقبة فإنّ جانبا أو جوانب أخرى تستعصي على الشكل القانوني والتّنظيمي.
وبما أنّ العملية الانتخابية تنافسية ابتداءً، وسياسية بطبيعتها، ومتعدّدة الأطراف في تركيبتها فإنّ نقاط الاستفهام والتّعجب حولها تطغى على فقرات وفترات الوضوح والاطمئنان.
وعندما يزيغ العمل السياسي عن مساره المُتمثِّل أساسا في إعداد البرامج البديلة وتوفير الكفاءات المُقتدِرة والأمينة على تحقيق أهداف هذه البرامج، ينزلق المسار السياسي إلى اعتماد الولاءات والتمترُس من أجل المناصب وما تُحقِّقه ربما من مكاسب آنيّة قد تنفع الأشخاص مؤقتا ولكنّها لا تُسعِف الصالح العامّ في تحقيق أهداف التّنمية واليُسر المعاشي.
كنت أعتقد في مرحلة ما وأنا أتابع الانتخابات والمنافسة السياسية بين الأحزاب أنّ الارتكاز على البُعد الإيديولوجي في العمل السياسي لم يَعُد ذا أولوية لدى جمهور النّاخبين، وأنّ ما يعنيهم بالدرجة الأولى هو تلبية مطالبهم المعاشية من عمل وسكن وعلاج وأمن وتعليم، وسوى ذلك لا يعدو أن يكون إلّا شعارات بالنسبة لهم.
ورُوِّج إلى هذه القناعة إلى الحد الذي لم تعد معه الإيديولوجيا إلّا خطابا نظريا أو حُجَّة يختبئ وراءها العاجزون عن تقديم برنامج واضح مُحقِّق للغاية وقابل للتّنفيذ.
غير أنّ ما تعرفه أوروبا مؤخرا من خلال الانتخابات يكشف أنّ المرجع الإيديولوجي مازال يُمثّل حجر الزّاوية في المنافسة الانتخابية. إنّ الميل نحو اليمين واليمين المتطرف الذي كان يعُمُّ أكبر الديمقراطيات الأوروبية مؤخرا شَكَّل مُؤشِّرا قويا لعودة السّاسة في الغرب إلى الاحتماء بقيمهم وقناعاتهم الإيديولوجية الاستعلائية والعنصرية.
والحقيقة الثّابتة في العمل السياسي الجاد والذي مُؤدّاه الارتقاء بالدولة والمجتمع إلى تحقيق التّنمية الشّاملة في كل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية والثّقافية لا يمكن أن يتحقّق ما لم تكن له مرجعية فكرية وقناعات اعتقادية، لأنّه بخلاف ذلك يصبح العمل السياسي تنافسا مصلحيا فئويا أو شخصيا، وبذلك تنحرف السياسة عن مسارها الصحيح لتصبح نشاطا يتصيّد الفُرص للوصول إلى السلطة والعمل على البقاء فيها بأيّ ثمن، وبذلك تُشرِّع للوعود الكاذبة والخطابات الجوفاء، وقد تتعداها إلى التخوين والتبديع والتصادم.
الانتخابات إذن مواعيد جادّة، ومرآة عاكسة لمستوى تطوّر الوعي الاجتماعي، كما هي عاكسة لمدى جدّية السّاسة في المجتمع وكفاءتهم. وكلّما اقتنع الناس أنّ الساسة جادّون في مساعيهم أقبلوا على صناديق الاقتراع، وهجروها كلّما لاحظوا أنّها لا تعدو أن تكون مناسبات للاستمرار في التّمكين لأنفسهم من دون اعتبار لطموحات الشعوب ومصالحها.
قد يرى البعض أنّ المصلحة الأولى بل والكبرى للنّاخب هي الحماية والتّمكين لقناعته الإيديولوجية، وهو ما يعمل على ترسيخه دعاة اليمين واليمين المتطرّف عموما. في حين يرى آخرون أنّ تحقيق وتوفير المصالح المعاشية هي الهدف الأول لاختيار النّاخبين، ذلك أنّ النّاخب يمنحُ ثقته لأولئك الذين يقَدِّمون له خارطة طريق واضحة في تحقيق مآربه المعاشية ويقدّمون لذلك أشخاصا يمتلكون القدرة والخبرة على الوفاء بوعودهم. والدليل على صحة هذه القناعة أنّ الناخبين لا ولاء دائم لهم لشخص أو فئة أو تنظيم، بل تؤكّد التجربة أنّ ولاءهم مقترن دائما بالأقدر على تحقيق مصالحهم المعاشية. ولعلّ إجراء العملية الانتخابية بشكل دوري، وما تُفرزه من نتائج متباينة وغير مستقرّة على خيار واحد دائما دليل آخر على حيوية العملية الانتخابية.
إنّ الانتخابات التي لا تستنفر النّاخب، ولا تدفعه لمسايرتها والمشاركة فيها هي انتخاباتٌ جوفاء من حيث الشّرعية السياسية حتى ولو تمّت وِفقا للإجراءات التّنظيمية التي ينصّ عليها القانون.
إنّ علماء الاجتماع السياسي يولون أهمية كبرى لسلوك الناخب في الإقدام أو الإحجام، وكِلا التّصرّفين دليلٌ على قناعة سياسية في مدى شرعية من تُسنَد له أمور إدارة الشّأن العامّ.
إذن فالعملية الانتخابية عملية سياسية وليست إجراءات مادية خالية من الرّوح، بل هي صدى حقيقي لنفسية النّاخب وقناعاته، ولذا وجب إيلاء أهمية قصوى في تحرِّي أسباب الإقبال عليها والعزوف عنها ومعالجتها بجدّية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي الضّامن الأساس للتّنمية الشّاملة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!