الرأي

يا فرنسا قد مضى وقتُ العتاب

عمار يزلي
  • 2100
  • 0

يبدو أن فرنسا الاستعمارية، لا يزال يمينها يتغلب على شمالها ووسطها، ولا تزال الأقدام السوداء، تتبجّح بالأيام البيض والفردوس الضائع بشمسه ومياهه وبحره وصحاريه، وأن المغادرة المكرَهة لجحافل المعمِّرين والعساكر لبلادنا غداة الخامس من جويلية 1962، التي سنحتفل بذكراها الـ61 بعد أسبوعين، بات اليوم عنوانا لكتاب تاريخ لا يريدون أن يقرأوه على حقيقته، بل ويعملون على تزويره، بدءا وانتهاء بالسلام الوطني لهذا الوطن، المسلم والمسالم إلا مع المعتدي ومن لم يسلِّم بحقيقة أن البلد مستقلّ منذ أن خرج آخر جندي فرنسي من هذا التراب المفدَّى، المروي بدماء الملايين من شهدائه عبر مراحل التاريخ الطويل الزاخر بالثورات والانتفاضات وأشكال رفض الأجنبي المحتل أينما حل وارتحل، وغيّر لونه وانتحل.

فرنسا اليوم، تنحو أكثر فأكثر نحو اليمين، ذي الخلفية الاستعمارية الاستيطانية والذي لم يستسغ ولم يهضم بعد أن الجزائر صارا بلدا ووطنا ندا، منافسا قويّا وعنيدا وصلبا بعد فبراير 2019، له امتداداته وتمدُّده العابر للقارات وللأوطان، وأنه لا مجال اليوم للتعامل مع الجزائر تعاملها معه قبل الأمس، ولا قبل أول أمس، يوم أن مدَّت السلطة يدها منتصف الثمانينيات لطيِّ الصفحة ومجاملة محتل الأمس بعدم “جرح مشاعره” عبر تذكيره بتاريخ إجرامه الدموي الذي ارتكبه طيلة 132 سنة، واختصار السلام الوطني في المقطعين الأولين فقط، واعتبر وقتئذ ذلك بمثابة بوابة للتنازل على الذاكرة والتاريخ، من دون أي مقابل فرنسي سوى الرغبة في الهيمنة من جديد على التوجه والقرار السياسي، الذي كان حذرا منه الرئيس الراحل هواري بومدين عندما نبه إلى أن استعمار الأمس الذي خرج من الباب، يريد أن يعود من النافذة.. هذه المجاملة التي لم تكن سوى محاولة تجميل وجه غير جميل بمساحيق عطار لم يعد الدهر قادرا على محو ما علق به من عار. كانت فرنسا غالبا ما تفتح بابا من هذا القبيل حتى ترغب في التوغل أكثر في الداخل بطرق أبواب موصدة وطلب فتح أرتاج أبواب أخرى نحو العمق، بلا حدود وأحيانا بلا وازع أخلاقي ولا دبلوماسي.

زاد من بلل هذه الحقبة، طين التسعينيات، وإلى غاية نهاية العشرية الثانية عندما خرج الشعب الجزائري برمَّـته داعيا في حراكه الوطني الأصيل إلى لجم ممارسات بقايا أحفاد الماضي الاستعماري وأياديه وأرجله وأقدامه وألسنته وأفئدته، والتي بقيت لسنوات تحرك سكاكين باريس من خلاف البحار، في الجرح الغائر في الجسد الثائر، سكاكين الذبح والسلخ والتعذيب.. تُمنِّي نفسها وتتمنى العودة يوما إلى هذا البلد الذي طلَّق فرنسا ثلاثا وإلى الأبد.

لقد قال ميتران مرة في لقاء جمع مديري نشر وسائل الإعلام الفرنسية من “أصول جزائرية”، أي “الأقدام السوداء واليهود”، قبل أشهر من أحداث أكتوبر 1988، ما يلي: “سأعيد لكم الجزائر من دون أن أدفع سنتيما واحدا”، وهذا من دون علمه بحضور الزميل الصحفي، المجاهد الراحل عبد الملك واسطي الذي كان وقتها مدير مكتب وكالة الأنباء الجزائرية في باريس.

اليوم، فرنسا، رغم رغبة ماكرون في تقسيم التُّفاحة إلى نصفين، إلا أن اليمين المتشدد، يدفعه إلى عدم تقسيمها أصلا، مما يجعل العلاقات الجزائرية الفرنسية، ما إن تبدأ في الحبو، حتى تنكبّ على ظهرها لتعود حفيدة روما إلى عادتها القديمة.

فرنسا اليمينية التي لا تعرف مصالحها، ينطبق عليها اليوم المثل القائل: “من أراد الحصول على الشيء كله، فقده كله”، لأنها لا تعرف أنها، مع الجزائر الجديدة، ستفقد كل شيء أرادته، برغبتها في أخذ كل شيء تريده.

مقالات ذات صلة