الرأي

وزارة للتعليم العالي وأخرى للبحث العلمي.. حان وقت الفصل! (الجزء الأول)

بقلم: محمد قحش
  • 2140
  • 0

تجتهد الجزائر لجعل البحث العلمي من أولويات برامج الحكومة. وفي الحقيقة، ليس لها خيار آخر غير هذا، إذا ما أرادت فعلا فرض نفسها في مشهد الاقتصاد العالمي، ومجابهة تحدياته ورهاناته المطروحة على أكثر من صعيد، إذ لا تزال بعيدة كل البعد عما تنفقه الدول المتقدمة وحتى بعض الدول السائرة في طريق النمو من أموال على الأبحاث العلمية التي حرصت على إخراجها من وصاية الجامعة، وجعلتها سياسة مركزية في عمل حكوماتها، هذا ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية، وما تفطنت إليه الصين لاحقا، وبدأت بعض الدول في سلك هذا المسار، ومنها الهند وتركيا وحتى الكاميرون…

من هنا جاء اهتمام الدولة بالبحث العلمي، من منطلق أنه العمود الفقري الذي يرتكز عليه جسد المجتمعات المتطورة والمقياس الذي بات يحدد مدى تطور وتقدم وكذا قوة أي دولة في العالم، قدر اهتمامها أيضا بالتعليم العالي، وحرصها الشديد على إصلاح المنظومة الجامعية، والسهر على عصرنتها بهدف تحقيق الجودة والنجاعة في التعليم العالي وكذا البحث العلمي، واستدراك التأخر المسجل في هذا القطاع المهم والحساس، حتى تتمكن الجامعة الجزائرية من استعادة عافيتها وإيجاد تصنيف لها ضمن المراكز المتقدمة في الترتيب العالمي.

ماذا حققت البحوث الجامعية؟

إن تسليط الضوء على البحث العلمي في الجامعة الجزائرية، يحيل بالضرورة إلى طرح سؤال مهم وهو: ماذا استفاد الاقتصاد الوطني والمجتمع من وراء هذه البحوث؟ والمقصود هنا طبعا النتائج الملموسة التي حققتها مشاريع البحوث العلمية المنجزة على أرض الواقع حتى اليوم، وهل ساهمت فعلا في تفعيل ديناميكية التنمية؟

المفروض هذا هو الدور المنوط بالجامعة ومخابر البحث العلمي في الدول المتقدمة، التي بلغت الرفاه والرقي بالعقول والعلوم وإنتاج المعرفة، وصناعة النخب والكفاءات التي يحتاجها المجتمع والدولة… بل إن بحوث التخرُّج الغزيرة لشهادات الماستر والدكتوراه المكدسة في مصالح الأرشيف، من دون التفكير في العودة إليها وتحويلها إلى مشاريع إقتصادية مفيدة، يؤكد مدى حجم الفجوة الكبيرة القائمة بين التعليم العالي وكذا البحث العلمي، وبين إستراتيجية التنمية الاقتصادية التي تراهن عليها الدولة من أجل تحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وإلا أيُّ دور للجامعة والبحث العلمي، إن لم يساهما في تحقيق التطور وتنمية البلاد والعباد؟

استقلالية البحث العلمي والابتكار

أولا، من باب الإنصاف، وحتى نعطي كل ذي حق حقه من الاهتمام والدعم والمتابعة، وبهدف بلوغ النجاعة وتحقيق النتائج الإيجابية المرجوّة، ورفع المردودية في العمل، وجب فصل البحث العلمي عن التعليم العالي، وتخصيص وزارة للبحث العلمي تكون مستقلة عن وزارة التعليم العالي، لأن أهمية البحث العلمي تقتضي ذلك ولا يجب اختزالها في مخبر للبحث تابع لجامعة أو لأخرى. وعليه، فإن جمع البحث العلمي والتعليم العالي في وزارة واحدة، لن يؤدي إلى تحقيق النتائج التي نتطلع إليها جميعا، شعبا ودولة، بالنظر إلى أهمية البحث العلمي من جهة، الذي يتطلب التفرغ التام والدعم والتركيز والمواصلة، والتعليم العالي الذي يتطلب بدوره المتابعة والاهتمام في عملية الإصلاح من جهة أخرى، علما أن العديد من الدول قد سارعت إلى استحداث وزارة للبحث العلمي والابتكار، مستقلة عن التعليم العالي، ومنها بعض الدول الإفريقية مثل الكاميرون وأوغندا، وفي أوروبا هناك بريطانيا وإسبانيا وبولندا، وكذا العديد من الدول الآسيوية مثل الصين والهند وإيران والفيتنام وماليزيا، وفي أمريكا الجنوبية، نجد الأرجنتين والتشيلي والبرازيل والأمثلة كثيرة.

ثانيا، إن طبيعة المرحلة الجديدة وتوجه الدولة نحو الاقتصاد القائم على العلم والمعرفة والذكاء الاصطناعي، بات يفرض ضرورة الاهتمام أكثر بالبحث العلمي، وضخ ميزانيات معتبرة لمشاريعه وابتكاراته، وتسويق براءات الاختراعات. وتخصيص وزارة خاصة بالبحث العلمي والابتكار، يعني إدراج هذا المجال ضمن الميزانية العامة للدولة، تكون مكرسة للبحث العلمي فقط، والمشاريع العلمية التي تساهم في التطور والرقي ونمو الاقتصاد الوطني.

ثالثا، إن مهمة وزير البحث العلمي والابتكار الجديد، ستكون في هذه الحالة مكرسة للسهر على المخابر ودعم المشاريع العلمية، وتشجيع مختلف الابتكارات وتسويق براءات الاختراعات والترويج لها، والحرص كل الحرص على توفير بنية تحتية علمية جد متطورة لمخابر البحث، وتشجيع الباحثين وتوفير كل سبل النجاح لهم ومرافقتهم، والسهر على تأطير المخترعين، إلى غاية بلوغ مرحلة تسويق المشاريع العلمية، والعمل على إيجاد السبل الكفيلة باستقطاب واقناع القطاع الخاص للاستثمار في مراكز البحث العلمي، هكذا يمكن رسم خريطة الطريق لمستقبل مستدام، للنهوض بالتنمية وإحداث نهضة اقتصادية حقيقية، من خلال إشراك كل الوزارات في العملية، لاسيما وزارة الصناعة والتجارة والطاقة والمناجم، والعلوم التكنولوجية والزراعة، وحتى العلوم الإنسانية، والتنسيق مع وزارة البحث العلمي والمساهمة في تمويل المشاريع العلمية التي تخدم قطاعها، وترفع من إنجازاته ونجاعته، عن طريق اقتطاع جزء من ميزانيتها وإنفاقها لهذا الغرض.

أبحاثٌ قصيرة النظر

لقد ظل البحث العلمي في الجزائر حبيس الممارسة النظرية من دون الخوض في التجارب التطبيقية الجادة، بمفهومها الحقيقي والعميق، ورهينة الأهداف الضيقة، مما حال دون انفتاحه على القضايا الاجتماعية والتحديات والرهانات التي يشهدها العالم اليوم بشكل متسارع، وهو ما جعل أغلب البحوث، لا تفي بالغرض وبعيدة كل البعد عن متطلبات سوق العمل.

إن بحوث التخرج الغزيرة لشهادات الماستر والدكتوراه المكدسة في مصالح الأرشيف، من دون التفكير في العودة إليها وتحويلها إلى مشاريع إقتصادية مفيدة، يؤكد مدى حجم الفجوة الكبيرة القائمة بين التعليم العالي وكذا البحث العلمي، وبين إستراتيجية التنمية الاقتصادية التي تراهن عليها الدولة من أجل تحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وإلا أيُّ دور للجامعة والبحث العلمي، إن لم يساهما في تحقيق التطور وتنمية البلاد والعباد؟

وعليه، فإن حل هذه الإشكالية المطروحة بحدة، بات يفرض ضرورة التخلص من الذهنيات السلبية السائدة، والتخلي عن الحسابات الضيقة، والتوجه نحو توجيه البحوث العلمية، وتطوير مناهجه ودعم المشاريع العلمية التي تتوفر على معايير الجودة وتخدم المصالح الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، وتتوافق والأهداف وكذا المخططات الإستراتيجية التي وضعتها الدولة، ولا داعي لهدر الأموال في البحوث المتشابهة والمتكررة والفاقدة للفعالية، أو دعم البحوث الهزيلة التي لا تمنح أي قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، ولا تعمل على تطوير وتيسير الحياة العامة للشعب.

آن الأوان لإرساء قاعدة بحثية قوية ومتينة، التي يمكن من خلالها التطلع إلى التطور والتقدم الذي تطمح له الدولة والشعب، وتدفع عجلة التنمية إلى الأمام.

إشكالية الإنفاق

من الصعب تقبُّل حقيقة أن الجزائر تحتل المراتب الأخيرة في الإنفاق على البحث العلمي والتطور التكنولوجي والابتكار على المستوى العالمي، إذ لم تتعدَّ الميزانية المرصودة لهذا الغرض على مدار سبع سنوات الأخيرة (2015 -2022) 57 مليار دينار أي 420 مليون دولار أمريكي، وهو ما يعادل 8 ملايير دينار أي 60 مليون دولار أمريكي سنويا، موزَّعة على 1661 مخبرا و29 مركز بحث و43 وحدة بحث منتشرة عبر الوطن، يضاف إليها 24 محطة للتجارب وعدد من الأرضيات التكنولوجية والمنصات التقنية، (المصدر: وكالة الأنباء الجزائرية 26 مارس 2022 )، في حين بلغ عدد الجامعات الموزعة عبر التراب الوطني 66 جامعة…

للأسف ما أنفقته الجزائر على البحث العلمي خلال سبع سنوات كاملة مازال قليلا مقارنة بميزانيات ببعض الدول المحسوبة على دول العالم الثالث، فأما ما تنفقه الدول المتطورة والقوية، فيفوق ميزانيات دول بأكملها، لأنها تعدّت بكثير ملايير الدولارات، كما أنّ أغلب مخابر البحث العلمي الكثيرة الموجودة في الجزائر، تفتقد للبنية البحثية العلمية، وقد يقف هذا وراء احتلال بلادنا مؤخرة الترتيب، ومبررا لغيابها عن المجلات العلمية العالمية.

القطاع الخاص.. الغائب الأكبر

من المؤسف القول إن البحث العلمي في الجزائر يفتقد لإستراتيجية واضحة المعالم ومحددة الأهداف، ولا حتى ميزانية مستقلة، كما أن مراكز البحوث العلمية لا تملك أجهزة أو بالأحرى أنظمة متخصصة لتسويق ما تنتجه من أبحاث، حتى تتحول إلى مشاريع اقتصادية مربحة ومهمة، تتوافق ومخططات التنمية التي وضعتها الدولة، ناهيك عن هشاشة العلاقة القائمة بين مخابر البحث العلمي والقطاع الخاص، وتلك أهم إشكالية مطروحة في مسألة البحث العلمي.

إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، الرائدة عالميا في البحث العلمي والابتكار، قد اكتفت بعدد قليل من الوزارات في حكومتها، وعمدت إلى جعل قطاع التعليم بمفهومه الشامل، الابتدائي والمتوسط والثانوي وحتى التعليم العالي تحت وصاية وزارة واحدة، هي وزارة التربية، إلا أنها حرصت على أن تجعل من البحث العلمي والابتكار مراكزَ مختصة ومستقلة بذاتها، وأغلبها تابعة للقطاع الخاص، نعم القطاع الخاص الذي لا يزال الغائب الأكبر عن مشاريع البحث العلمي في الجزائر، ويواصل مجانبة فكرة الاستثمار فيه، وتعدّ الجامعات ومراكز البحث التي يزيد فيها دعم القطاع الخاص للبحث العلمي وينخفض بها الدعم الحكومي، هي الدول الأكثر تقدما في مجال البحث العلمي والأكثر تطورا اقتصاديا. من الخطأ أن يظل القطاع الخاص، باعتباره رقما مهما في المعادلة الاقتصادية، منغلقا على نفسه، ودون إشراكه للاستثمار في مشاريع البحث العلمي والابتكارات، وفي تسويق براءات الاختراعات، وعليه، فإن تصحيح هذا الخطأ، يتطلب إقناع وتوعية الخواص بمدى أهميتهما في تنمية وتطوير نشاطهم، وكذا إيجاد آلية داعمة ومحفزة على الانصهار في هذا التوجه، من خلال رسم خطة محكمة تكون كفيلة بجعل الخواص يقبلون على الاستثمار في مشاريع البحث العلمي والابتكارات، ويتسابقون على تمويلها وتسويقها، دون إقصاء المخترعين العاديين، من غير الحاصلين على شهادات جامعية، الذين يتعين تأطيرهم وتمويل مشاريعهم.

إن جمع البحث العلمي والتعليم العالي في وزارة واحدة، لن يؤدي إلى تحقيق النتائج التي نتطلع إليها جميعا، شعبا ودولة، بالنظر إلى أهمية البحث العلمي من جهة، الذي يتطلب التفرغ التام والدعم والتركيز والمواصلة، والتعليم العالي الذي يتطلب بدوره المتابعة والاهتمام في عملية الإصلاح من جهة أخرى، علما أن العديد من الدول قد سارعت إلى استحداث وزارة للبحث العلمي والابتكار، مستقلة عن التعليم العالي.

لقد لجأت بعض الدول إلى إجبار القطاع الخاص على المساهمة في تمويل الأبحاث العلمية، عن طريق تخصيص نسبة معينة من أرباح الشركات الخاصة، وجعله طرفا مهمًّا في نجاحها، أو فرض رسوم وضرائب إضافية موجهة لفائدة البحث العلمي، في حين عمدت بعض الدول الأخرى إلى تخفيف الضرائب على الشركات الخاصة التي تساهم في تمويل الابتكارات ومراكز البحث العلمي، أو فرض ضريبة صغيرة على مكالمات الهاتف المحمول، موجهة خصيصا إلى الأبحاث العلمية، وهي وسيلة تجعل حتى المواطن العادي مساهما في نهضة البحث العلمي، وشيئا فشيئا تترسخ ثقة وإيمان القطاع الخاص بمؤسسات البحث العلمي، وتتوطد العلاقة بينهما بمرور الوقت، بعد أن أدرك الخواص مدى أهمية مراكز ووحدات البحوث العلمية في حل مشاكلهم الفنية والتقنية وحتى الإدارية، وتطوير إنتاجهم وتحسين نوعيته، فيزيد الإحساس بالمسئولية الوطنية، وينمي لديه حس المواطنة وروح المسؤولية إزاء المجتمع، فيدفع به ببذل مزيد من المشاركة والدعم على البحث العلمي والابتكار والذي يؤدي إلى النمو الاقتصادي وتحقيق الرفاه الاجتماعي.

مهمة وزير البحث العلمي والابتكار الجديد، ستكون في هذه الحالة مكرسة للسهر على المخابر ودعم المشاريع العلمية، وتشجيع مختلف الابتكارات وتسويق براءات الاختراعات والترويج لها، والحرص كل الحرص على توفير بنية تحتية علمية جد متطورة لمخابر البحث، وتشجيع الباحثين وتوفير كل سبل النجاح لهم ومرافقتهم، والسهر على تأطير المخترعين، إلى غاية بلوغ مرحلة تسويق المشاريع العلمية، والعمل على إيجاد السبل الكفيلة باستقطاب واقناع القطاع الخاص للاستثمار في مراكز البحث العلمي.

لابد أن تنصهر البحوث العلمية في المخططات الإستراتيجية التي سطرتها الدولة، وتساير عجلة التنمية في جميع القطاعات الحيوية، وتساهم في تطويرها وحل مشاكلها، وأن يكرس الوعي بأهمية البحث العلمي لدى القطاعين العام والخاص، وأن يكون مقياس التفوق في الأبحاث العلمية قائما على مدى نجاعتها وجودتها ومكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، ونشرها في المجلات العلمية العالمية المتخصصة والمشهورة، وكذا الأموال والجوائز التي تحصدها، وخاصة إذا كانت براءات الاختراعات مسجلة ومحمية دوليا، بطبيعة الحال المنتوج المسوق سيكون منتوجا عالميا، على هذا الأساس يحدد ترتيب جهة البحث وطنيا وعالميا.

.. يُتبع

مقالات ذات صلة