-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نظرية المؤامرة: حقائق وأوهام 2/2

التهامي مجوري
  • 620
  • 0
نظرية المؤامرة: حقائق وأوهام 2/2

نظرية المؤامرة في حد ذاتها حقيقة كونية، تقتضيها سنّة التدافع وقانون الصراع بين الحق والباطل وتزاحم الخير والشر، ذلك أن المدلول اللغوي للفظ “تآمر”، أمر الناس بعضهم بعضا، فكل إنسان يأمر غيره ويأتمر بأمر غيره، فيحمل بذلك معنى الاجتماع على الأمر الواحد والتشاور حوله: فكرةً كان هذا الأمر أو موقفا أو معتقدا أو رأيا، والمتآمرون يأمر بعضهم بعضا بما يرونه مناسبا لهم ويحقق لهم ما يريدون..

ولذلك يمكن أن يكون التآمر بالخير فيما بينهم، كما يمكن أن يكون التآمر على الغير بالشر للإضرار به، لمواجهة أمر آخر مماثل له أو دونه أو أعلى منه، وكأني باللفظ هنا ينحو منحى المفاعلة، أي أمر القوم بعضهم بعضا في أمر ما، إذ تتشكّل لدى الجميع قناعة واحدة تفرض عليهم الذود عنها بموجب غريزة البقاء، وذلك يقتضي مدافعة كل ما يخالف هذه القناعة، دفاعا وهجوما ومراوحة.

لكن للناس صورا متباينة في الموقف من هذا المصطلح، أخذت الكثير من الحقائق والأوهام والمبالغات من هذه الجهة أو تلك، التي تنفي وجود المؤامرة أو تثبتها وتقررها بمجرد الشعور بوجود نسمات ريح تهب على الإنسان.

والسبب في ذلك -في تقديري- يعود إلى تشخيص الواقع كما هو.

إن هذا الواقع مكوَّن من مجموعات بشرية فيها من يمثل الخير ويعمل على تعميمه، وفيها من يمثل الشر ويعمل على تعميمه أيضا، وفيها المعلق بينهما أو المصطف هنا أو هناك.

أما الوجود من حيث هو –تكليف ومسؤوليات ومسخرات ومصير- ففيه حقيقة ثابتة وهي فكرة الخير الذي ينبغي أن يعمل الجميع على الوصول إليه وتحقيقه، والناس في ذلك مستويات، متقدم ومتخلف، فالمتقدم ينمو ويتطور ويصل إلى الحقائق بالتفاعل الإيجابي مع الطبيعة وبالاستفادة المستمرة من الخبرة التاريخية، أما المتخلف فعاجزٌ عن ذلك بطبيعته القاصرة عن التفاعل مع الطبيعة والعجز عن الاستفادة من الخبرة التاريخية، ومن ثم فيرى أن المتسبب في قصوره هو الآخر الذي لا يُسمح له بالتقدم والانتفاع من خريطة الوجود إلا في ظل مقرراته المستعلية.

أما التوجه الأول فيمثله جميع أهل الديانات وأهل الثقافات الشرقية عموما، لإيمانهم بوجود الشيطان في مقابل النبوة، ووجود الغريزة في مقابل الروح، وامتدادهما في حركة الوجود، إلى وجود الصراع الممتد بينهما والمفضي إلى ضرورة تغلب كل منهما على الشر وعلى كل سلبي في الحياة، وذلك لا يتحقق إلا بالتشاور والتعاون التكاتف والتآزر بين كل فريق في مواجهة خصمه ومنافسه في الواقع.

وكان التبشير بالدين في مقابل اللاتدين والإلحاد، والفضيلة في مقابل الرذيلة والخير في مقابل الشر، فكانت النقاشات والحوارات والنزاعات والحروب… إذ أن كل طرف من الطرفين أو أكثر لا يرى بقاءه إلا بتحجيم الطرف الآخر أو القضاء عليه، أو بالتعارف والتحاول والتفاوض، لتجاوز الأسوأ المفترض، الذي تبشر به طبيعة الصراعات والدامية منها على وجه الخصوص.

وهذا التوجه بطبيعته غير مرغوب فيه، في العقلية التآمرية؛ لأنه يضع حدا لفكرة الغلبة لطرف على طرف، ولعل هذه الفطرة تطورت أكثر بعد الحرب العالمية الثانية التي كانت سببا في إبادة ملايين البشر، إذ اتجه العالم إلى حل مشكلاته عن طريق الحوار والتفاوض، تجنبا للحروب وإبادة البشر. في هذا الإطار ترفض فكرة التآمر تلقائها من الناحية الأخلاقية؛ لأن هناك اعتراف مشترك بالحق للجميع في أمر ما.

وأما التوجه الثاني فيمثله الحداثيون، الذين يرون أن فكرة الدين والصراع بين أتباع الشيطان وأتباع الأنبياء تجاوزها الزمن، بانتهاء صلاحيتها عند عتبة الحداثة التي توصلت إلى الاستغناء عن كل قديم، وبالتالي فإن الصراع الحقيقي فهو بين العلم والجهل، وبين التقدم والتخلف، وبين الحضارة والبداوة…إلخ، وبين القديم والحديث، بل بين الحديث والأحدث.

ذلك أن ما توصل إليه العلم -كما يزعم الحداثيون- لم يعد يعترف إلا بالمقررات العلمية، ومن ثم فإن ما يُذكر من أن هناك مؤامرات تحاك من البعض على البعض الآخر، كلام فارغ لا قيمة له! وهذا الاتجاه هو الذي يصب في التشكيك في نظرية المؤامرة؛ لأن الذين يُشهِّرون بالمؤامرة هم الشعوب الضعيفة والمتخلفة، أما الشعوب الغنية والمتقدمة، فلا تشعر بذلك؛ لأن أمتها مشبعة بالقيم المانعة للتآمر عليها؛ بل وتمتلك من القوة ما يغنيها عن الشعور بالمؤامرة!

ما توصل إليه العلم -كما يزعم الحداثيون- لم يعد يعترف إلا بالمقررات العلمية، ومن ثم فإن ما يُذكر من أن هناك مؤامرات تحاك من البعض على البعض الآخر، كلام فارغ لا قيمة له! وهذا الاتجاه هو الذي يصب في التشكيك في نظرية المؤامرة؛ لأن الذين يُشهِّرون بالمؤامرة هم الشعوب الضعيفة والمتخلفة، أما الشعوب الغنية والمتقدمة، فلا تشعر بذلك؛ لأن أمتها مشبعة بالقيم المانعة للتآمر عليها؛ بل وتمتلك من القوة ما يغنيها عن الشعور بالمؤامرة!

ولا تزال هذه الفكرة تسوَّق حتى غدا الواحدُ منا يخشى التلفظ بلفظ المؤامرة، رغم أن التآمر واقعٌ ويلمسه كل من يملك عقلا، بسبب ما يحيط بالأحداث من قضايا ذات صلة، إذ أصبحت المظلمة التي يراد تمريرها، لا يُكتفى بفرضها بالقوة وإنما تغلَّف بالكثير من الأغلفة التي تحوِّلها إلى فكرة لا بد منها… مثلما تفعل الدول العظمى مع الدول الضعيفة، وتفعل الأنظمة الاستبدادية بشعوبها؛ بل بلغ الأمر حدا من الحبك التآمري أن يشكك فيمن بلغ مستوى من القدرة على كشف هذه الخفايا، فمالك بن نبي رحمه الله كتب كتابا في بداية الستينيات ونشره بعنوان “الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة”، وكشف فيه عن المستويات التي بلغها الغرب في تطوير مهاراته التآمرية في استغلال الشعوب وثرواتها، ومحاربة النخب الوطنية الواعية ومؤسسات المقاومة فيها… فهذا الرجل اتُّهم في آخر حياته بالوسواس؛ لأنه يشكك في كل فضيلة تصدر عن غير أهلها؛ لأنه انطلق من مسلَّمة ألا يمكن أن يأتي يوم نقول فيه للشيطان “رضي الله عنه” كما يقول الرافعي رحمه الله.

إن التآمر بمعناه السلبي لا يُلجأ إليه إلا عند العجز؛ فعندما ييأس الشخص أو التيار أو الفكرة من الانتصار بالآليات العادية وبمنطق الأشياء أو بالقوة، فإنه يلجأ إلى أساليب التأثير المتنوعة ومنها الظهور بمظهر الخير والحرص على النفع، وذلك باللجوء إلى القليل من الحقيقة من أجل زرع الكثير من الأوهام، إذ إن وجود المؤامرة إذا لم يعتمد شيئا من الحقيقة لصناعة الكثير من الأوهام، لا تكون المؤامرة مؤامرة؛ لأنها ستكون حقيقة محضة أو وهما خالصا. ومثال ذلك قصة مسجد الضرار الذي بناه المنافقون وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تدشينه بحجة أن هناك من المسلمين من لا يستطيع اللحاق بالجماعة في المسجد الذي بناه الرسول صلى الله عليه وسلم… ولكن تأخر التدشين مدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج لغزوة، ووعدهم بتدشينه بعد العودة… وفي طريق العودة من الغزوة نزل القرآن يكشف ما كان يخطط له المنافقون ببناء ذلك المسجد، الذي زعموا أنه لأجل من لم يلحقوا بالجماعة في مسجد رسول الله، ليكشف المؤامرة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ  وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ* أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة 107-110].

والوجه الأخطر للمؤامرة، عندما تتلقى الشعوب المؤامرة وتستسلم لها، بحجة الوقوف في وجه “نظرية المؤامرة” وفسادها لمحاربتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!