الرأي

نظرية المؤامرة: حقائق وأوهام (1/2)

التهامي مجوري
  • 1336
  • 0

نظرية المؤامرة، وكما يستشهد بها أصحابها، عبارة عن صورة ذهنية للمهزوم أمام القوى التي لم يستطع التأثير فيها، أو التي يخاف من تأثيرها عليه، فكل حدث يقع لهذا المهزوم يفسره على أنه تآمر عليه، فيزداد بذلك هزيمة على هزيمته، وتزداد تلك القوى المهيمنة قوة في التحكم فيه وعرقلة ما يريد فعله في مسيرته النضالية، مما يساعده على تخطي الصعاب.

هذه الصورة تظهر وتُثبَّت وترسَّخ عندما يفقد الإنسان جميع وسائل المقاومة التي تحت يديه، أو يشعر بفقدانها وهي تحت سلطانه، ولكن سوء تصرفه حرمه الإفادة منها، فيبحث له عن مبررات عملية تعفيه من القيام بالواجب، فلا الحقيقة التاريخية للأحداث التي يمر بها، إلا مؤامرات يديرها الأقوياء ويكون ضحيتَها الفقراءُ والمستضعفون.

وقد لاحظنا هذا في جميع الشعوب التي استبدت بها أنظمتها التي تحكمها وطال أمدها على ذلك، استعمارية كانت أو حكاما فاسدين من أبنائها، إذ أصبحت ترى كل حركة في المجتمع تريد الخروج عن المألوف، مؤامرة على الشعب وفعلا يصب في خانة الأعداء، فيزيد ذلك من هيمنة الاستعمار، أو تمديد عمر النظام المستبد… ورأيناه كذلك في الذين قرأوا كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، الذي أظهر اليهود على أنهم الفئة المتحكمة في كل العالم، والتي لا غالب لها؛ بل إن لها صلة مباشرة بكل حركة وقعت في العالم؛ فهم الذين صنعوا الثورة البلشفية في روسيا، وهم الذين روّجوا للشيوعية ووضعوا أصولها ومبادئها، وهم من كان وراء الثورة الصناعية في الغرب، والعلمانية كذلك هم من وراءها، وحركة الاستعمار هم من وراءها، والماسونية هم من وراءها… وفي كل قضية من هذه القضايا يسوِّق الكتابُ من المعلومات الكثير مما يثبت هذه الحقيقة وتلك.

كما لاحظ أبناء العالم العربي الأمر أيضا، في تفسير أحداث الحراك الذي شهده العالم العربي ابتداء من سنة 2011 فيما عرف بالربيع العربي، إذ تبنى الكثير من أبناء الأمة الإسلامية ونخبها أن ما وقع كله لا يتجاوز المؤامرة على العالم العربي والمقصود هو التمهيد للتطبيع العربي العامّ، إذ لم ير البعض من المبررات لهذا الحراك إلا المكائد الأمريكية!

وفي المقابل توجد صورة أخرى كرد فعل على ذلك، تكاد تجمع فيها الشعوب المغبونة ونخبها، على أن المؤامرة وَهْمٌ من صنع خيالات أصحابها، وأن ما يعانون منه مجرد أخيلة صنعها عجزهم عن اللحاق بالركب، فأصبحوا يرون العالم المتقدم مجرد مؤامرة عليه!

والسبب في هذه الوضعية النفسية الحرجة المضطربة للشعوب المغبونة، أن القضية متعددة المنافذ والمداخل، وكل نافذة ومدخل فيه جزء من الحقيقة… فالضعف والتخلف واللافاعلية منفذ ومدخل لمثل هذه الاختلالات النفسية، والمنبهرون بالمتآمر الغربي منفذ ومدخل أيضا، والشبه التي تحيط بالواقع منفذ ومدخل كذلك، وخضوع المنظومة الدولية للأقوى بدل الأكثر عدلا وإنصافا منفذ ومدخل، وكل هذه المنافذ والمداخل متظافرة قادرة على قلب الحقائق، وجعل كل تصور مقبول، فمن يقول إن نظرية المؤامرة وهمٌ لا حقيقة له محق بقدر ما، والواقع شاهد على ذلك سواء في صورة الضعف الذي تعاني منه الأمة والغثائية الغالبة عليه منذ قرون، أو في صورة قوة الخصم الذي لا غالب له منذ قرون أيضا، لأن الأصل في الموضوع وجوهره موازين قوة.

ومن يمتلك القوة هو الذي تكون له الغلبة بقدر ما، ومن ثم فإن ما يصيب هذه الشعوب المغبونة مُسْتَحقّ بسبب افتقادها للقوة، ولا حق لها في أن يكون لها أو لبعضها القول إن هذا الأمر حق أو هذا باطل، بما في ذلك التآمر والتلاعب بمصائر المستضعَفين عموما.

ومن يقول إن الشعوب تتعرض باستمرار للتآمر المتواصل محق بقدر ما، لأن هذه الشعوب على ما فيها من ضعف وهوان وغثائية، فهي تجتهد وتصيب وتنمو، ولكن صور التآمر التي تتعرض لها من قبل الأقوياء الذين يستثمرون في كل شيء، إضافة إلى خذلان نخبها لها، تعيق إرادة النمو فتتحول انتصاراتها إلى هزائم، من ذلك الانتفاضات التي شهدتها بعض البلاد العربية، التي جعلت من ثورتها على أنظمتها الفاسدة، في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، بفعل قوى مضادة لها، هزائمَ لا تقل سوءا عما هي عليه من هوان في ظل أنظمة استبدادية فاسدة.

والشعور بالغبن والظلم، المتولد عن الضعف والتخلف واللافاعلية، يجعل كل حركة تصدر عن الخصم والعدو الذي هو الاستعمار الغربي عموما، لا يرجى منه خير، ولو كان ظاهره فعل خير؛ لأن هذا الاستعمار عوّدنا على أنه لا يفعل خيرا من أجل الشعوب، وإذا فعل شيئا من ذلك فإنما يفعله من أجل الحصول على الأفضل له، مثل الشيطان تماما لا يأمر إنسانا بمعروف أبدا، وإذا فعل فإنه يفعل ليعطِّل المؤمن عن فعل الأفضل من الأعمال والأقوال.

من يقول إن الشعوب تتعرض باستمرار للتآمر المتواصل محق بقدر ما، لأن هذه الشعوب على ما فيها من ضعف وهوان وغثائية، فهي تجتهد وتصيب وتنمو، ولكن صور التآمر التي تتعرض لها من قبل الأقوياء الذين يستثمرون في كل شيء، إضافة إلى خذلان نخبها لها، تعيق إرادة النمو فتتحول انتصاراتها إلى هزائم.

هذا المنفذ والمخرج حقيقة لا يجادل فيها أحد، بما في ذلك الغرب نفسه؛ لأن علاقاته مع الغير مبنية على المصلحة –البراغماتية- فاستعمر الشعوب لما كانت له القدرة على التحكم فيها، ولكن لما أصبح وجوده في هذه المستعمرات يكلفه أكثر مما يجني منها، فضَّل الانسحاب ووضع الخطط البديلة التي تضمن له الاستمرار… وهنا تظهر فكرة المؤامرة التي يختبئ خلفها هذا الشيطان المريد.

ورغم أن هذه الشعوب بالمستوى الذي هي عليه، من جهل وضعف وفقر وتخلف، بمنطق التاريخ تستحق الكثير مما أصابها؛ لأنها متسببة في ذلك بشكل مباشر، راضية بما يُفعل بها، وغير مباشر بسبب عدم شعورها بمضار الاستعمار ومكائده ومفاسد الاستبداد الذي ينخر هياكلها، ولكن هذه الحقيقة ينبغي أن لا تتجاوز حجمها، إذ تستباح هذه الشعوب من قبل خصومها وأعدائها، فيظهر التآمر عليها وكأنه الرحمة المنزَّلة.

والواقع بما هو عليه من اختلالات في موازين القوى لا يسمح بالنهضة لهذه الشعوب، بسبب غياب الكثير من شروطها، ولكن هذه الأسباب لا تبرر التآمر والاعتداء الذي تمارسه القوى الاستعمارية على هذه الشعوب الضعيفة.

ومن هنا وجب الانتباه إلى الخلط والشُّبه المشار إليها آنفا، التي ربما استساغتها بعض نخب هذه الشعوب، التي توهمت أن كل ما يفعله القوي والمتقدم للشعوب الفقيرة، يكون في صالحها بموجب القرارات الدولية، والجانب الأخلاقي الإنساني الذي يفرض على الاحتلال قيما أخلاقية تجاه شعوب مستعمراته، وبالتالي لا وجود للمؤامرة التي تتوهمها الشعوب من فرط بغضها للاستعمار، إذ لا تثق في كل ما يأتي منه، وأغلب من يتبنى هذا التوجه المنبهرون بما يفعل الغرب في المناطق الفقيرة، وهو منفذ ومخرج أيضا فيه من الحقائق ما فيه، ولكن لا يوجد فيه ما ينفي حقائق تآمر القوى الاستكبارية وظهور ذلك للعيان على مسرحية علاقات التعاون بين الشعوب.

والحصيلة الماثلة للعيان هي أن المتآمرين من الأقوياء على الضعفاء قد امتلكوا من القدرة على حبك مكائدهم، إذ قلّبوا الحقائق إلى أوهام كما قلبوا الأوهام حقائق، ومن ثم صعب على الشعوب المريدة للحق والحرية المقاومة بالأساليب التقليدية؛ بل صعب عليها التفريق بين التطور الطبيعي للمجتمع المفضي للإنعتاق، والمؤامرات الحقيقية التي تعمل على استنزافه وتحريف حركته ونشاطه الاستقلالي عن مساره الطبيعي.

يتبع

مقالات ذات صلة