الرأي

ما مهام الأستاذ الجامعي؟!

كشفت قبل بضعة أيام اللجنة الوطنية لترقية الأساتذة المحاضرين عن ترقية أزيد من 1100 أستاذ محاضر إلى رتبة “أستاذ التعليم العالي”. وهذه الرتبة هي أعلى ما يمكن أن يصل إليه مدرّس التعليم العالي. ومن المعلوم أن بلوغ هذه الرتبة يتطلب انتظار 5 سنوات (4 سنوات في بعض المناطق الجنوبية) بعد الحصول على رتبة “أستاذ محاضر أ”. كما ينبغي تقديم ملف يتضمن بوجه خاص الأبحاث المنشورة في مجلات عالمية وإصدارات بيداغوجية فضلا عن الإشراف على رسائل الماستر والدكتوراه. ومع ذلك، لازال الكثير منا يطعن في مستوى أساتذتنا. وواقع الحال يقول إن هؤلاء المنتقدين على حقّ حتى لو كانت منطلقاتهم من فرضيات قد تكون خاطئة.

واقع الحال

ما يلاحظه المرء في الميدان أن الترقيات من أستاذ مساعد إلى أستاذ محاضر إلى أستاذ التعليم العالي لا يراه معظم المعنيين إلا من زاوية الزيادة في الرواتب والزيادة في “الأبهة” بين الزملاء. وهناك جهل أو إهمال لا يوصفان فيما يخصّ جانب الواجبات التي تلقيها هذه الترقيات على أصحابها. فعند عامة الناس الملمّين نسبيا بعالم التعليم الجامعي، ومنهم المنتسبين إلى سلك “الأساتذة-الباحثين” في التعليم العالي، يتمثّل واجبهم الوحيد في التدريس لمدة 9 ساعات أسبوعيا، لا أكثر!

ومصطلح “أستاذ-باحث” هو التسمية الحقيقية للمدرسين في الجامعات بجميع مستوياتهم. وهذا يعني أن مهمة المدرّس الجامعي ذات شقين رئيسيين : شقّ التدريس (نقل العلوم إلى الطلبة وغيرهم)، وشقّ البحث العلمي (إنتاج المعرفة والعلوم) بنشر البحوث وإجراء التجارب المخبرية والميدانية، فضلا عن تعميم المعرفة بكل الأشكال في أوساط المجتمع ومختلف القطاعات.

لا شك بأن شقّ التدريس معروف لدى الجميع، وأن أداءه يختلف من مدرّس إلى آخر، والإدارة الجامعية الجادّة لها من الإمكانيات ما يجعلها تراقب الأداء الحسن لهذه المهمة وتعاقب المقصّرين من خلال عدة قنوات، منها علاوة المردودية التي تمثّل نسبة معتبرة من الراتب.

أما الشق الثاني من مهام الأستاذ الجامعي المتمثل في الأبحاث الأكاديمية فنجد فيه الكثير من الغث والسمين، وهو يتجسد عموما في نشر المقالات في المجلات الأكاديمية التي تعجّ بها ساحة العلوم. وبما أن سوق هذه المجلات خارج السيطرة الأكاديمية فقد امتلأ بالمتلاعبين والمحتالين والمرتزقة عبر العالم. يغري جلّ أصحاب هذه المجلات الباحثين بالنشر على صفحاتها ليتقاضون أجرا… ولا يهمهم المضمون أبدا.

وفي هذا المجال، يمكن أن تكتشف من بين مدرّسي جامعاتنا، سواء منهم من بلغ قمة الترتيب أو الساعي إليه، من يجد فرصته في هذه المجلات ويصطاد منها ما يصطاد من مقالات تدعمه في الترقية. ولو قُيمت منشورات أساتذتنا تقييما دقيقا لوجدنا نسبة منهم لا يستحقون الترقية حاضرا وماضيًا. كم تساوي هذه النسبة؟ هناك من يرفع سقفها عاليا، وهناك من يراها بسيطة جدا، وليس هناك دراسة جادة، حسب علمنا، تحدّد هذه النسبة. ومع ذلك فالمؤكد عندنا أنها ليست نسبة غير بسيطة. وحتى لا نكتفي بجلد الذات فهذه المجلات تستغلها فئات كثيرة من جامعات العالم. والمشكل الكبير هو في كيفية التصدي إليها!

والمهام الأخرى؟

وحتى يدرك القارئ الوضع المحزن الذي يعيشه أحيانا الوسط الجامعي ليس في الجزائر فحسب بل أيضا في كبريات جامعات العالم أن من كبار الباحثين -الذين نالوا الجوائز العالمية عرفانا بكفاءتهم الفائقة- اعترفوا بعد ذلك، من تلقاء أنفسهم، أنهم نشروا في المجلات الأكاديمية نتائج خاطئة عن قصد لربح الوقت والحصول على الترقيات، وقدموا اعتذاراتهم بعد أن كشفوا عن خطيئتهم!

دعنا نشير إلى الشق الثالث من مهام الأستاذ الجامعي، وهو الإشراف على الرسائل الجامعية : هنا أيضا نجد من المشرفين من يجدّون في مهمتهم ويبذلون قصارى جهودهم مع طلابهم ليتعلم هؤلاء أصول البحث ويتوصلون إلى نتائج علمية تؤهلهم إلى المضي قدما في مسارهم الأكاديمي. وعدد هؤلاء الأساتذة قليل إذ الغالب من الأساتذة أنهم لا يخصّصون المدة الكافية لمتابعة أعمال طلابهم ويوافقون على مناقشتها، في آخر المطاف، وهي في أمسّ الحاجة إلى المراجعة والتنقيح. والمؤسف أنه ليست هناك آلية قانونية لردع هذا النوع من الإهمال. وبطبيعة الحال، فالطالب يتحمل في هذا الموضوع نصيبا من المسؤولية مع أستاذه.

وأما الشق الرابع من مهام الأستاذ الجامعي الذي لا يوليه عموما المدرّس عندنا اهتماما لأنه غير “مثمّن” -أي لا يفوز صاحبه بترقيات ولا ينال به مقابلا ماديا- فهو واجب تعميم المعرفة ونشرها في المجتمع وفي صفوف المواطنين. ويتم ذلك في وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، وكذا في المجلات غير الأكاديمية، وأيضا عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

وما يساعد ذلك اليوم أن كثرة وسائل الإعلام وتداخل الاختصاصات العلمية تجعل الأساتذة الجامعيين قادرين على تنوير الرأي العام حتى في مجالات ليست مطابقة لاختصاصاتهم. فأستاذ الرياضيات مثلا قادر على تقديم تعقيب أو رأي في مواضيع طبية بحكم أن هناك فرعا من فروع الرياضيات يُعنى بالطبّ والبيولوجيا. كما أن أستاذ الاقتصاد يمكنه الإدلاء برأي حول الرياضيات لتطوّر العلاقة بين الاقتصاد والإحصاء والرياضيات المالية والبحوث العملياتية، إلخ. وما العيب في يقدّم أستاذ الرياضيات رأيا في الشعر؟ ألا يخضع العَروض إلى قواعد رياضية دقيقة شأنه شأن الموسيقى التي كانت تعدّ فرعا من فروع الرياضيات؟ !

وبطبيعة الحال، فالآراء من هذا القبيل التي يدلي بها أصحابها في وسائل الإعلام لا تعدّ أبدا ابتكارات أو أبحاثا أصيلة في مجال الاختصاص لأن هؤلاء ينشرون أبحاثهم الأصيلة في مجلات مخصصة وليس في وسائل الإعلام العمومية. والنشر في وسائل الإعلام يعدّ عملية تندرج في نشر الثقافة العلمية في جميع التخصصات المتداخلة.

وقد لاحظنا في هذا الموضوع الخلط الذي يقع فيه مثلا عديد المعقّبين على ما نكتب من حين لآخر في منبر الشروق ضمن صفحة “الرأي”. فهذا المنبر ليس مكان استعراض نتائج وإبداعات رياضياتية أو علمية بحتة ! فعلى سبيل المثال، يستهجن بعضهم أن نورد رأيا حول اختيار مصطلح علمي في حين أن المصطلحات ترد أول ما ترد في الأبحاث الجامعية، وأحيانا يكون فيها تداخل لا يتم البتّ في أمرها إلا إذا تدخّل أهل الاختصاص من مختلف الفروع العلمية. كما يستهجن البعض الآخر حديثنا في قضايا الجامعة والتربية في حين أن هذا الموضوع في صلب اهتمامات أي جامعي مهما كان اختصاصه. ففي الأسبوع الماضي، عندما تناولنا موضوع “النوموفوبيا” رأى أحد المعقبين أنه موضوع لا ينبغي أن يتناوله أستاذ لمادة الرياضيات لأنه بعيد عن اختصاصه… في حين أنه داء يمس طلبة كل الجامعات بمن فيهم طلبة الرياضيات! فكيف لا يهتمّ به أي أستاذ جامعي مهما كان اختصاصه؟

خلاصة القول إنه من المستحسن، بل من الواجب، أن يدرك أفراد سلك “الأساتذة الباحثين” مهامهم المختلفة حتى لا يتوهّمون بأنهم يؤدّون واجباتهم على أكمل وجه؛ بينما الواقع يقول غير ذلك، وكذلك المتتبعون ! أوصي نفسي وإياكم !

مقالات ذات صلة