-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

لماذا كان الاختلافُ ضروريًّا؟!

التهامي مجوري
  • 492
  • 0
لماذا كان الاختلافُ ضروريًّا؟!

الاختلاف سنة كونية لا محيد عنها، وكل محاولة للحد منها مصيرها الفشل، أو على أقل تقدير تنتقل المحاولة من الحرص على تقليص مساحات الاختلاف إلى تحجيم الجهد الإنساني وتقزيمه، ومن ثم التحكم في فضائل البشر التي ينتجها الاختلاف والتنوع والتسابق وغير ذلك من مظاهر التفوق التي يحس بها الناس من خلال اختلافهم فيما يتوصلون إليه من  مواقف وقيم في حياتهم.

ولكن الكثير من الناس يستهجنون الاختلاف ويعدُّونه من الرذائل التي تتسبب في تمزيق الشعوب والمجموعات البشرية، فيُرجعون أسباب النزاعات والحروب والتوترات التي بين الناس إلى مجرد وجود الخلاف بينهم في رأي أو في موقف أو ما إلى ذاك من مظاهر الاختلاف، ولذلك كانت فكرة الحوارات والنقاشات التي تظهر بين الحين والآخر في شكل تجمعات ثقافية وفكرية متنوعة، مثل: الحوار الإسلامي– المسيحي، والحوار السني– الشيعي، وحوار الشرق والغرب، وحوار السلطة والمعارضة في كل بلاد العالم… إلخ، وكأني بهذه الأطر أنشئت للعمل على إيجاد إطار واحد يخضع له الجميع، مثلما يفعل البعض فيما يعرف هذه الأيام بـ”الدين الإبراهيمي”، لجمع الناس على دين واحد تجتمع عليه البشرية كما يزعمون، فيلتقي اليهودي والنصراني والمسلم على دين واحد يعبدونه على طريقة يرضى بها الجميع!

ولكن الحقيقة الخالدة التي لا تمحى من الواقع، أن الاختلاف كان ولا يزال وسيستمر قضية أساسية في الحياة، أحبها من أحبها وكرهها من كرهها، لأنها سنة من سنن الله في الوجود. ولذلك لم يسع الأرشدون إلى البحث في كيفية القضاء على الاختلاف بقدر ما اجتهدوا في تقليص مساحات النزاع والحروب والشنآن؛ لأن مشكلة الإنسان ليست في وجود الاختلاف، وإنما فيما بنى عليه الناس من أوهام مثلما قال الرئيس الأمريكي بوش في واقعة 11 سبتمبر 2001: “من ليس معنا فهو ضدنا”.

ذلك أن كلمة اختلاف وصفٌ لواقع يراه كل الناس، لا دلالة فيه على المدح أو الذم، ولا على الحسن والقبح ابتداء، فهذا كبيرٌ وهذا صغير، وهذا جميل وهذا قبيح، وهذا جيد وهذا رديء، وهذا أبيض وغيره أحمر والآخر أزرق… فجميع هذه الأوصاف دالة على اختلاف الموصوفات فيما بينها، والناس مختلفون ابتداء في قبول هذا الشيء ورفضه، ولا دلالة في كل ذلك على الحسن أو القبح، وإنما مجرد وصف، وما يقال في هذه الموصوفات يقال أيضا في تنوع المواقف والقيم التي يتبنَّاها الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وعقائدهم (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود 118-119].

ثم يكتسب هذا الاختلاف صفتي الحسن والقبح بما ينتج عنه أو بسبب ما يحيط به من زوائد حسنة وقبيحة  ليست في أصله، وإنما أضيفت إليه لسبب من الأسباب، ولذلك اختلف الناس في انتماءاتهم العقدية الدينية، وفي قناعاتهم الفكرية، وفي ثقافاتهم المتنوعة، وخياراتهم السياسية والإجتماعية، وكل ذلك من مقتضيات التكليف وضمانات ممارسة الحرية… بل إن وجود بعضهم من لوازم وجود الآخر، فالشر من لوازم الخير، والباطل من لوازم الحق، ولولا الشر ما عُرف الخير ولولا الباطل ما عُرف الحق، ولذلك كانت المحصلة كما قرر الله سبحانه وتعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود 118-119]، ولو اجتمع الناس على عقيدة واحدة أو قناعة واحدة أو ثقافة واحدة أو رأي واحد لبطل التكليفُ وانتفت حكمة هذه السُّنَّة البليغة.

لا شك أن اختلاف هذه المعتقدات والقناعات الفكرية والثقافات، لا يعني أن الكل على حق أو الكل على باطل، وإنما هذا الكل المتناقض والمتضاد والمتنوع من سنن الوجود ومن مقتضيات التكليف الذي يسمح للمكلَّف باختيار ما يريد، والاستعداد لتقبُّل ما ينتج عن اختياره؛ بل إن ذلك من سنن التدافع والتداول التي تمثل أحد المخارج السننية في حياة البشر (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران 140]، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج 40]. فلو لم يختلف الناس، كيف يكون التدافع بينهم؟ ولماذا يكون التداول وهم يمثلون صورة واحدة لا فرق بينهم؟

وانطلاقا من هذا الاختلاف الواقع والطبيعي، يأخذ الاختلاف شكلا آخر وصورة أخرى يستمد منها حسنه وقبحه من الفضائل والرذائل التي يتصف بها أو تنتج عنه، وذلك بسبب نسبية ما ينتج عن الجهد البشري؛ لأن الجهد البشري متفاوت ومختلف اختلافا كبيرا، إذ ينتج عن هذا التفاوت والاختلاف، تباينٌ في النتائج المحصَّل عليها، في المستوى وفي النوعية وفي الكلية والجزئية وفي المنهجية أصلا… وهذه النسبية أيضا تفرض بدورها صورا للحياة والقيم والآراء والمواقف، منها المقبول عند البعض والمرفوض عن البعض الآخر، ومع ذلك لا بد من بقائها كلها، لمجرد وجود من يتبناها ويعتبرها قيمة أو رأيا أو موقفا.

وعندما نقول إن في مسألة ما عشرة أقوال مثلا، فهل يعني بقاء الراجح منها واستبعاد غيره، ومن ثم لا قيمة للمرجوح؟ مما يعني أن جميع تلك الآراء التسعة باطلة لا يُعمل بها، رغم أنها آراء محتملة، بل ربما عمل بها أو ببعضها أناس آخرون، أم أن الكل يعمل بما اطمأن إليه، ومن ثم ضمان جميع الآراء المحتملة، تحسبا لفعل الزمان ومراعاة لجميع الاجتهادات البشرية ومبرراتها؟

ووجهٌ ثالث للإختلاف يمارسه الناس ولا يشعرون به سببا في الاختلاف، وهو الزاوية التي ينظر منها كل فرد أو مجموعة؛ لأن الناس مختلفون في طبائعهم ومتنوعون في تخصصاتهم ومتباينون في الحرص على مصالحهم، ومن ثم فكل فرد أو مجموعة تنظر إلى الأمر المعروض للنقاش أو لاتخاذ الموقف منه أو إبداء الرأي فيه، ينظر إليه من الزاوية التي تساعده على فهم الموضوع أو المصلحة التي يتوقعها، فتكون الآراء مختلفة ومتنوعة بقدر تلك التقديرات والتوقعات، فلو طلبنا من أشخاص أن يصفوا لنا بيتا وكانوا موزَّعين على جهاته الخمس وهي الجهات الأربع والسقف، وكان لكل جهة لونٌ مثلا، لوصف كل واحد منهم الجهة التي يراها بلونها؛ لأنها هي بطبيعتها مختلفة عن غيرها من الجهات في لونها وطولها وعرضها وما يقابلها من الجهة التي هي فيها، فتكون النتيجة انهم اختلفوا ولكن اختلافهم ذلك كان نوعا من الإدراك الجزئي للموضوع، وإذا ضُمَّت الآراء الخمسة إلى بعضها البعض، اكتملت الصورة، أما إذا احتفظ كل بما عنده واعتبره الحق المطلق فإن الخلاف يحتد وربما تحول إلى نزاع وعناد… أما إذا أصر الكل على ما عنده من غير إلغاء للآخر، فربما استفاد الجميع من بعضهم البعض؛ لأنّ من فضائل نسبية الأفكار والآراء في الأمور المحتملة من القضايا الخلافية وأهمّها، أنها تترك الباب مفتوحا للإجتهاد بوصفها أمورا غير محسومة، فيضيف كل جيل بما فتح الله عليه من إضافات ذات قيمة.

ووجهٌ آخر للاختلاف أيضا، وهو أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، فيما عدا ما قرّره الوحي من مطلقات ليست من الشأن العقلي الخاضغ للتفاعل مع الطبيعة والخاضع لحركة التاريخ، أو القليل من المسلمات البشرية؛ لأن الجهد البشري نسبي ونتائجه نسبية، وذلك بسبب اختلاف الزمان والمكان والحال. والكثير من القضايا الإنسانية لم تكتمل صورتها النهائية، وهي في تطور دائم إلى أن يشاء الله، فكل جيل وكل ثقافة وكل عصر يجود بما فتح الله عليه في الموضوع، فتكون الإضافة المطلوبة؛ لأن المسخَّرات التي وضعها الله بين يدي الإنسان لا حدَّ لها (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية 13]، وكذلك طاقة الانسان كبيرة جدا، بل إن التكليف الإلهي والشعور بالمسؤولية المفترض في البشر المكلفين، تحمل من القدرات على الإضافة والإمكانات العالية ما يفرض اختلاف الأجيال والعصور، بعضها عن بعض، وكل ذلك مُشاهَد ومرئي.

الإنسان بطبيعته التي جُبل عليها أيضا، يحب من غيره أن يؤمن بما آمن به، وأن يكون على ما هو عليه، سواء بسبب أنانيته ليكون غيره تابعا له، أو لفضيلة أنه يحب لغيره ما يحب لنفسه، ومن ثم نجده تلقائيا لا يقبل الرأي المخالف لرأيه، ولا يحب من يخالف رأيه، ورأيه بطبيعة الحال لا يمثِّل بالضرورة الحقيقة المطلوبة كما مرَّ معنا، وربَّما كانت كراهية الاختلاف بسبب الخوف من التنازع.

وما دام الاختلاف بهذه البساطة وهذه الموضوعية المقررة في التاريخ الإنساني والطبيعة البشرية كسنة كونية مطردة، لماذا يخاف الناس الاختلاف؟ ولماذا لا يحبّونه؟ ولماذا يحاربونه ويحاولون القضاء عليه؟

إن الإنسان بطبيعته التي جُبل عليها أيضا، أنه يحب من غيره أن يؤمن بما آمن به، وأن يكون على ما هو عليه، سواء بسبب أنانيته ليكون غيره تابعا له، أو لفضيلة أنه يحب لغيره ما يحب لنفسه، ومن ثم نجده تلقائيا لا يقبل الرأي المخالف لرأيه، ولا يحب من يخالف رأيه، ورأيه بطبيعة الحال لا يمثِّل بالضرورة الحقيقة المطلوبة كما مرَّ معنا، وربَّما كانت كراهية الاختلاف بسبب الخوف من التنازع؛ لأن الاختلاف يؤدي إلى الخصومات والتنازع، خاصة إذا كان هذا الاختلاف في أمور ومصالح مادية عاجلة، أو مواقف مصيرية معينة ينبني عليها انتصارات وإخفاقات (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 46].

لقد فهم علماؤنا قديما ان الاختلاف ضرورة في الحياة، فلم يدّع أحدٌ منهم أنه صاحب الحق المطلق، وأن غيره يمثل الخطأ المطلق، بسبب ما يوجد من فسحة وسِعة، يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.

ولعل هذه التخوفات والتوجسات المفرطة أحيانا هي لتي تفرض على المختلفين الالتقاء والنقاش والحوار، وذلك ما سنناقشه في مقال لاحق إن شاء الله.

لقد فهم علماؤنا قديما ان الاختلاف ضرورة في الحياة، فلم يدّع أحدٌ منهم أنه صاحب الحق المطلق، وأن غيره يمثل الخطأ المطلق، بسبب ما يوجد من فسحة وسِعة، يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ويروى عن الإمام البنا رحمه الله أنه قال “فلنعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بهضا فيما اختلفنا فيه”، وكذلك أثر عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله أنه قال: نحن اخترنا الذب عن السنة ومحاربة البدعة الملصَقة بها، وربما اختار غيرنا مجالا آخر، كلٌّ ميسَّرٌ لما خلق له، المهم هو الدفاع عن الاسلام والعمل عليه (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) [الروم 22].

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!