-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

فحولة علمية وغيرة إسلامية

فحولة علمية وغيرة إسلامية

من أحب المدن الجزائرية إلى قلبي مدينة تلمسان، لما حباها الله – عزو جل- من موقع ممتاز، ولما آتاها من جمال فتّان، ولما منّ به عليها من خيرات حسان، ولما أخرج من أصلاب رجالها وأرحام نسائها من علماء أفذاذ ونوابغ أعلام رفعوا ذكرها وذكر الجزائر في المشارق والمغارب، لما لي فيها من أحبة كرام لا يشقى بهم جليسهم، ولذلك فأنا أفترص كل فرصة تتاع لزيارة تلمسان.

 

لقد كانت الفرصة الأخيرة يوم الجمعة الماضي حيث تفضلت “قناة القرآن الكريم” فدعتني إلى تلمسان رفقة الأساتذة الكرام: عبد الرزاق ڤسوم، وعمار جيدل، والسعيد معول، وعيسى ميڤاري للمشاركة في ندوة ترسل من هناك عن ذكرى ميلاد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام-، كما تفضلت مديرية الثقافة الإسلامية بوزارة الشؤون الدينية فدعتني لحضور ملتقى دولي عن أحد علماء تلمسان الذي وصفه الإمام محمد بن يوسف السنوسي “بالذكورة العلمية، والغيرة الإسلامية، وعمارة القلب بشرف الإيمان (1)”، ولم يعكر عليّ ميزاجي إلا تصرّف سمج وسلوك خال من أي ذوق قام بهما في مطار هواري بومدين نحو د. ڤسوم ونحوي بعض من سمّاهم الإمام أحمد سحنون – رحمه الله – “وأمن بلا أمن”، وقد قصصت الحادثة على مسؤولين كبيرين فعجبا من ذلك، وأرجوهما أن ينبها المصالح المختصة إلى أن إهانة المواطن العادي، فضلا عن صاحب المقام المعلوم، هي إساءة للأمن الوطني، والجزائر كلها، ومرة أخرى “ابك يا بلدي الحبيب”، ورحمة الله على روح الشيخ العباس بن الحسين الذي كان يردد هذا البيت، ولم أسأله إن كان له أم لغيره، وهو: 

يا دهر ويحك ماذا الغلط وضيع علا ورفيع هبط!؟

إن هذا العالم الكبير، صاحب الذكورة العلمية، والغيرة الإسلامية، المملوء القلب بشرف الإيمان هو الإمام محمد بن عبد  الكريم المغيلي التلمسان، الذي عاش في القرن التاسع الهجري )ق15م)، وتوفاه الله في 909 هـ (1504م.(

لقد عاش الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي في العصر الذي سماه الأستاذ مالك بن نبي “عصر ما بعد الموحدين” الذي تميز بانقسام المغرب الإسلامي إلى ثلاث دول كان بأسها بينها، وبانتشار الفتن داخل كل دولة وبصراع أفرادها فيما بينهم، وبانهيار الوجود الإسلامي نهائيا في الأندلس، وببداية الزحف الصليبي الإسباني والبرتغالي على شواطىء المغرب الإسلامي، وبتدهور التعليم، الذي صار اجترارا لمتون، وتحشية عليها، وبانتشار التصوف السلبي بعدما كان احتسابا فصار اكتسابا، وكان استنارا فصار اشتهارا، وكان اتباعا للسلف فصار اتباعا للعلف، وكان عمارة للصدور فسار عمارة للغرور، وكان تعففا فصار تملّقا، وكان تجريدا فصار تثريدا(2)”..

لقد انعكس ذلك كله على نفسية الإمام المغيلي وشخصيته، وفي حركته الاجتماعية والسياسية، وفي آرائه وأفكاره.

فمن الناحية السياسية ترك عدة مؤلفات بسط فيها آراءه “فيما يجب على الأمير (3)”، و”تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين (3)”، و”أجوبة المغليلي عن أسئلة الأمير الحاج محمد أشكيا (3)؛… ولم يكتف المغيلي بالكتابة؛ بل راح يقوم “بما اندرس في فاسد الزمان من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4)”و »راح ينشد “الأمير الصالح” في السودان« () كما بحث الأفغاني عن “الخليفة” الصالح في مصر واسطامبول وفارس.. فالمغيلي يذكرنا سلوكه بجمال الدين الأفغاني في العصر الحديث (5)”، وخلاصة آرائه السياسية هي أنه “على الأمير أن يعمل على توفير أسباب الخير لرعيته روحيا وماديا، وعليه أن يستأصل الفساد بكافة أشكاله (6)، وقد شن المغيلي حملة ضد يهود منطقة توات وآزره فيها علماء فطاحل، ولم تكن هذه الحملة بسبب دينهم، فهو عالم يعلم أن الله ورسوله حرّما إذاية أهل الكتاب المسالمين؛ واعتبر الرسول – عليه الصلاة والسلام إذاية واحد من أهل الكتاب المسالمين إذاية له، وكان خصما للمؤذي يوم القيامة؛ ولكن سبب الحملة هو استعلاء اليهود على أهل المنطقة، وسيطرتهم بأساليب رخيصة على اقتصادها، واحتكار تجارتها، والإدلاء بالأموال إلى الحكام، وقد شهد على ذلك رحّالة من مدينة جنوه الإيطالية، زار منطقة تمنطيط في سنة 1447م، فقال: “يتكاثر اليهود هنا (تمنطيط) وتسير حياتهم في سلم، وظل الرؤساء الذدين يدافع كل واحد منهم عن أتباعه، ولهذا يتمتع اليهود بحياة سهلة، وتسير التجارة بواسطتهم (7)”، فهم “يؤثرون على ذوي السلطان فيعيّنون ويعزلون (8)، وهذه الصفات القبيحة وغيرها هي التي جعلت بنجامين فرانلكين – أحد مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية – يقوم خطيبا في مؤتمر إعلان الدستور في سنة 1789، ويدعو إلى النص على منع اليهود من الهجرة إلى أمريكا والسكن فيها (9).

ومن الناحية العلمية فقد علّم المغيلي في تلمسان، وفي توات، وفي السودان الغربي، وقد عرف عنه التحرر العقلي ونصرة علم المنطق، وقد جادل جلال الدين السيوطي الذي كان من المعارضين لتدريس علم المنطق، وقد ألف المغيلي رسالة في هذا الشأن يوحي مبناها بمعناها وهو: “فتح الوهاب في رد الفكر إلى الصواب”، وقد أسّس المغيلي بعد عودته من السودان زاوية لتدريب العلوم الشرعية واللغوية، وتحفيظ القرآن الكريم، وهي ماتزال عامرة إلى اليوم بنواحي أدرار.

وفي الميدان الديني، فالبرغم من تصوف المغيلي وقيامه بدور هام في نشر الطريقة القادرية في منطقته وفي بلاد السودان الغربي فإن تصوّفه محصّن بالعلم الشرعي، ولا يسترهب أعين الناس ولا يستغفل عقولهم.

وقد ألّف رسالة في التشنيع على الخرافات والدجل، وسماها: “تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى مقامات العارفين”، فكان بهذه الرسالة من السابقين في التصدي لأدعياء التصوف، المتاجرين به، وقد سار على نهجه كل من الشيخ عبد الرحمن الأخضري، والشيخ عبد الكريم بن الفكون، والشيخ عبد الحليم بن سماية في رسالته التي سماها “السر المدفون والكنز المكنون”، يفضح فيها من “اشتكت منهم الجيوب إلى علام الغيوب” كما يقول الإمام الإبراهيمي.

إن الإمام المغيلي شخصية علمية ذات تأثير واسع وإشعاع فكري كبير امتد على مساحة واسعة، و”من علماء الأنجليز والأمريكان والفرنسيين وغيرهم من كتبو حولها رسائل وأبحاثا (10)”. وإذا كانت هذه هي مكانة المغيلي عند غيرنا وقيمته خارج وطننا فهو يكاد يكون نكرة عند مواطنيه الجزائريين الذين “اشتهروا منذ القديم بأنهم لا يقيمون وزنا لعلمائهم، ولا يعترفون لهم بحرمة أو عهد، وهي ظاهرة كانت أقسى على هؤلاء العلماء من ظلم الحكام وظلم العصر (11)”.

ومن عداوة بعض الجزائريين للعلم وأهله ما أخبرني به إخوة كرام من أن رئيس حزب في ولايتهم – التي تعج بالمثقفين – أقسم أن “يطهّر” الحزب في ولايته من كل من “يفك الحرف” فضلا عن “الفاهمين”، ورحم الله الإمام المغيلي القائل: “إن الجهل عمي، وبصير يغلب ألف أعمى، وأعظم كل بليّة صيحة الغفلة على الرعية (12)”، وما ردّ الجزائر أسفل سافلين إلا الجهّال.

وأغتنم هذه الفرصة فأدعو من كان له قلب أو ألقى السمع من المسؤولين لإطلاق اسم الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي على جامعة أدرار حتى لاتسمى كبعض جامعاتنا باسم أمّيّ أو باسم أحد “يفكّ الحروف“..

1) ابن مريم: البستان.. ص 253

2) هذا القول للإمام الشعراني، انظر يحيى هويدي: تاريخ فلسفة الإسلام في القارة الإفريقية. ص 346.

3) أسماء مؤلفات للإمام المغيلي..

4) ابن مريم: البستان.. ص 253

) المقصود بالسودان هذا هي بلدان غربي افريقيا (مالي، النجير، نيجيريا…).

5) سعد الله، تاريخ الجزائر الثقافي ج1. ص 57 58.

6) مجلة كلية الدعوة الإسلامية. ع3، طرابلس 1986. ص 373.

7) يحيى بوعزيز: الأعمال التاريخية مجلد 8. ص 67.

8) سعد الله: مرجع سابق 1 / 134.

9) انظر نص الخطاب في: عبد الله التل: خطر اليهودية العالمية، المكتب الإسلامي. ط 3. ص 209 210.

10) سعد الله: 1 / 74.

11) نفسه 1 / 59.

12) المغيلي: فيما يجب على الأمير، إعداد محمد باغلي. ص21.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • kamel

    يا أخي عن أي علماء تتحدث هداك الله تلك أمة قد خلت لهاما كسبت و عليها ما إكتسبت إعلم يا أخي و أسمع ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (معن الحديث ) في آخر الزمان لا يبقى في الاسلام الا اسمه ولا في القرآن إلا رسمه مساجدهم عامرة و هي خراب من الهدى علماؤهم شر من تحت أديم السماء منهم تخرجالفتنة وفيهم تعود صحيحالبخاري باب الفتن .لمن يريد التأكد و السلام عليكم ورحمةالله و بركاته.