-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غزوٌ مزدوج وأمّةٌ تائهة !

بقلم: محمّد الغزالي
  • 399
  • 0
غزوٌ مزدوج وأمّةٌ تائهة !

لم يرسل الله أنبياءه ليعلموا الناس كيف يحيون أرضا مواتا، أو كيف يضاعفون إنتاج أرض صالحة، أو كيف ينشئون صناعات خفيفة أو ثقيلة، أو كيف يحسنون إدارة الأعمال في أقصر وقت وأقل تكلفة، أو كيف يعرفون خصائص النباتات الطبية والعقاقير المشابهة ويقيمون مؤسسات كبرى لشتى الأدوية… إن ذلك كله وأمثاله – وهو كثير-  موكول إلى عقول البشر وجهودهم؛ يتنافسون فيه كيف شاءوا، ويبتدعون فيه ما أعانهم الذكاء، وواتاهم الحظ. فإذا تخلف كسول فعلى نفسه جنى وهو وحده الملوم، وإذا سبق نشيط فلنفسه بغى الخير، وهو يُغبط على نجاحه وأرباحه.

وقد أدرت بصري في ميادين عديدة ووازنت بين عمل وعمل ونتائج ونتائج، ورأيت أن أصارح قومي بما لهم وما عليهم؛ فلا معنى للإدهان والمواربة؛ رأيت مطاراً في إحدى المدن نظيفاً رائقاً، وآخر مترباً كدراً، فسألت: ما السبب؟ فقيل: هذا تتولاه شركة وطنية والآخر تتولاه شركة أجنبية؛ فسرى الغيظ في نفسي، وقلت: لم هذا التفاوت؟ إن عيونهم كعيوننا وأيديهم كأيدينا؛ فلماذا يرون ولا نرى، ويعملون ولا نعمل؟ لعل هناك تلفاً في الملكات النفسية، أو لعل الملكات واحدة، والطاقة المحركة موجودة هنا مفقودة هناك، وأياً ما كان الأمر فلابد من معالجة سريعة لهذا البلاء وإلا ضاعت أمتنا.

ورأيي أن التربية الفاسدة والثقافة المغشوشة لهما أثر عميق في هذا التبلد السائد، وكل تربية تقاوم الفطرة، وتشوه الأجهزة الإنسانية الأصلية فهي خصم للإسلام، وكل ثقافة تحجب البصيرة وتقوم على التجهيل بالكون والحياة فهي خصم للإسلام. وقد وجد في أعصار شتى من ادعى العلم بالإسلام، ومع ادعائه العريض أنشأ أجيالاً منسحبة من الحياة، معصوبة العينين أمام آيات الله في ملكوته معطوبة الخواص الدافعة إلى الترقي والتوسّع والاكتشاف. ما أبعد الإسلام عن هؤلاء الناس! وما أبعد هؤلاء الناس عن كتاب يقول عن خصومه: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)). أقال الإسلام للعرب: ارعوا أغنامكم فوق مناجم النفط ولا تفكروا فيما تحتها، ولا تستخرجوا قطرة منها؟! أقال الإسلام للعرب ازرعوا القطن والكتان ولا تحسنوا إنشاء مصانع النسيج والغزل؟! أقال لهم: قفوا على الشواطئ وارمقوا الجواري في البحر كالأعلام يصنعها غيركم، وتعجزون أنتم إلا عن ركوبها متى يشاء؟! إن الانهيار الحضاري في الأمة الإسلامية جاء وليد تخفف عقلي اجتاح أرجاءها بعد خيانات علمية وتربوية واجتماعية وسياسية شملتها من القمة إلى القاع، وجعلت الإسلام فيها أثراً بعد عين! وكانت العودة الساذجة إلى الإسلام تمثل أطفالاً لا يحفظون المصحف لا يفقهون منه حرفاً، ويكبرون على ذلك !ورؤساء تُباغَت بهم شعوبهم لا تدري من أين جاءوا؟ ولا كيف؟ والغريب أن ناساً من العاملين في الحقل الإسلامي هذه الأيام لا يذهبون أبعد من هذه الصورة، وهنا الطامة على مستقبل الأمة. والذين يستقبلون الغزو الثقافي برضا أو بحماس ينظرون إليهم ثم يفتحون الباب على مصراعيه لهذا الغزو، فهو في تصورهم إنقاذ من التخلف والضياع.

ونحن -ولله الحمد- نكره هذا العوج وذاك الشرود، وما نتعصب لخطأ تورط فيه من قبلنا، وما نتجهَّم لصواب اهتدى إليه غيرنا، وما نحب أن نظلم أحداً، كما نحبّ ألا يظلمنا أحد. ولو أن ما يجيئنا من الغرب هو العلم وحده لعددنا من يعترض طريقه خائناً أو كافراً! إن التقدم العلمي ما يجيئنا منه إلا النزر اليسير، أما الطفح الحيواني والشتات الاجتماعي فسيل دافق. وهنا مكمن الخطر. بل إنني أعرف من أبناء أمتنا مَنْ تفوق في بحوث الذرة؛ فقتله اليهود قبل أن يجيء إلينا، أومن استبقي حيث هو عن طريق شراء العقول مهما غلا السعر.. ترى أكان يلقى هذا المصير لو كان فناناً خليعاً؟ أو كان أديباً يحمل جراثيم التبشير والاستشراق؟!

المأساة التي نشكو منها أن القوى المعادية للإسلام استغلت التفوق الحضاري الحديث كي تنال منا، أو تجهز علينا إن استطاعت. وهذا التفوق وإن لم يكن من صنع يدها فقد تمّ في أرضها، وتأثر بدعايتها ضدنا، ونحن لن نرتد عن ديننا ولو فنينا إلى آخر رجل.. والعبرة السريعة من هذا الوضع أن التخلف الحضاري جريمة عانينا منها الكثير وما نزال، وأن هذا التخلف يشمل للأسف ميادين شتى مادية وأدبية. وأن المتدينين الذين لا يعون هذه الحقيقة هم بقية من عصور الانحطاط، أو من هزائم الماضي. وأن على قادة الصحوة الإسلامية أن يكونوا منهم على حذر؛ فليسوا أقل خطراً من قادة الغزو الثقافي المصمم على إهانتنا وإضاعتنا.

من المفيد أن أنقل هنا بعض المعلومات التي استمعت إليها من الدكتور صبحي الطويل عن “الحرمان والتخلف في ديار المسلمين”: قال: إن خبراء هيئة الأمم المتحدة صنفوا دول العالم إلى ثلاث فئات: غنية، وفقيرة، ومعدمة. وأن الفئة الأولى تشكل 25% من سكان العالم وباقي السكان يتوزعون على الفئتين الأخيرتين. وفي سنة 1978 كان ثمانمائة مليون يعيشون في فقر مدقع؛ فيهم جماهير هائلة من المسلمين تعيش دون مستوى الكفاف، منهم على سبيل المثال نصف سكان بنجلاديش “92 مليوناً” ونصف سكان نيجريا “80 مليوناً”، 70% من سكان الصومال و60% من سكان تنزانيا و80% من سكان إندونيسيا “130 مليوناً”… الخ.. إن جلد المرء يقشعر وهو يسمع أن تسعة أعشار المسلمين بين فقير قد يجد القوت وفقير يصرعه الحرمان. ونتيجة هذا الضياع أن الوفيات بين الأطفال في العالم المتقدم 2% أما في بقية العالم فهي 20%!

يقول المحاضر: ليس في قاموس الطب مرض لا تعرفه بلاد المسلمين، ويموت في الشرق المسلم (من تونس إلى باكستان) أحد عشر مليوناً منهم مليونان في سن الرضاعة.

ورحم الله مالك بن نبي حين قال: “التخلف الذي يعاني منه الشرق الإسلامي لا دخل لديننا فيه ولا يتحمل الإسلام وزره، بل هو عقوبة إلهية أوقعها الإسلام بأتباعه جزاء تخليهم عنه. إن المسلمين تأخروا لأنهم تركوا الإسلام لا لأنهم تمسكوا به، فحق عليهم قوله سبحانه: ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى))”.. وهذا كلام صادق جيد فالإسلام رفع المنتمين إليه في الأعصار الأولى حتى أضحوا الدولة الأولى في العالم، وكان سبقهم الثقافي والسياسي والحضاري بعيد المدى في النواحي المدنية والعسكرية جميعا.. أما ما يقع الآن فهو نتيجة ثقافات سامة وتربيات فاسدة وسياسات خائنة يلعن الإسلام أصحابها ويقصيهم عنه.. ن ركاماً من تقاليد القرون المنحرفة تجمَّع في هذه الأيام العجاف، وأنزل بالمسلمين هزائم ساحقة، وهي تقاليد ماجنة وغبية، ما أنزل الله بها من سلطان. ومع ذلك فيوجد من يتمسَّك بها ويدفع عنها.. وقد بدأ إحساس بالجريمة والندم يخامر الجماهير التائهة، بيد أن هذا الإحساس لا يؤتي ثماره إلا إذا تخلصنا بصرامة من هذه التقاليد وإلا إذا حاكمنا سلوكنا العلمي والعملي إلى صميم ديننا.. ولنعترف بأن هذه الموروثات ملتصقة حتى بقيادات المقاومة الأفغانية للزحف الشيوعي، فهي تفرق القادة، وملتصقة حتى بالجماعات المهاجرة إلى أوروبا وأميركا ابتغاء الرزق، فهي تفسد ذات بينهم، وقد تتدخل الشرطة الأجنبية لفض الاشتباكات التي تقع!

وقد نظرت إليها -بعقل علمي مجرد- فرأيت بعضها عادات لا عبادات، والبعض الآخر وجهات نظر فقهية غير ملزمة، أو طبائع شعوب لا تعاليم دين، وقد تكون اعوجاجاً فكرياً، أو أخلاقياً أطال عمره التهاون فتلقاه الرعاع بالقبول ونشأت عنه فوضى واسعة النطاق.. ويعتمد الغزو الثقافي على هذه الأحوال في اجتذاب أنصاره وبذر أفكاره.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!