-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غزة العزة والعزائم نسخت آثار أمّ الهزائم

غزة العزة والعزائم نسخت آثار أمّ الهزائم

ودّعنا شهر مايو، غير آسفين على فراقه، فللأيام في هندسة المبنى، وفلسفة المعنى، إيحاءات، ودلالات، واعتبارات. فهناك اليوم البئيس، التعيس، الذي يظلم نهاره، وتتلاحق أوزاره، ويشتد أوّاره، وتأفل كواكبه وأقماره.

وهناك، من الأيام –على العكس- اليوم المشمس الأنيس، الذي تضاء في لياليه الفوانيس، وتزف فيه العروسة للعريس، ولذلك يُتفاءل ببعض الأيام، ويُتشاءم ببعضها الآخر، لأن الأيام مرايا عاكسة لواقعنا، وتطورات حياتنا.

ومن هذا المنطلق، تعايشنا مع شهر مايو، فكانت أيامه مثقلة بأحداث التاريخ، منها الأيام البيض، شديدة الضياء، المطبوعة بالزينة والبهاء، وهناك الأيام الملبدة بالشقاء، الملطخة بالدماء، المجللة بالأوشحة السوداء.

ونظلم شهر مايو، إن نحن حشرناه في أفق الأرق والعرق، والدماء والدموع، فهو لم يخلُ من الضياء والشموع، ومن الصعود والطلوع.

يتفاءل الكادحون بالفاتح من مايو فيستيقظون على معزوفة الحصاد، حصاد الحقل، وحصاد العقل، فخُلّد هذا اليوم بيوم العرق والأرق، وفاء لعضلات الكادحين المفتولة، ومنتوجات الفلاحين المعسولة.

كما يصحو المؤرخون والمثقفون على فجر يوم الخامس من مايو، فتطالعهم ذكرى ميلاد خير جمعية أخرجت للناس، جمعية العلماء، رمز الإباء والنماء، بما زرعته في الجزائر من أمل بعد يأس، وما أحدثته من بداية وعي في عقول الناس.

ويُطل على الجزائر، في شهر مايو، يوم الثامن منه، فيذكرنا بشمس الربيع التي أظلمت، وخصوبة الحقول التي أجدبت، وجفون الأناسي التي اغرورقت، وما ذلك إلا بسبب بطش الأقوياء، وإراقة الدماء، وعروج آلاف الشهداء إلى أبراج السماء.

وتتوالى أحداث شهر مايو، فيحل علينا فيه يوم الخامس عشر، يوم شؤم النكبة الكبرى، نكبتنا في فلسطين، وعدوان الصهاينة المعتدين ومن شايعهم من المتواطئين، والمتخاذلين، إذ أعطى فيه الذي لا يملك، وهو بلفور الإنجليزي، إلى الذي لا يستحق، وهو بن غوريون الصهيوني، رمز شذاذ الآفاق، وشتات مختلف الأعراق.

وإذا عدنا بعد يوم النكبة إلى يوم النخبة، إلى يوم التاسع عشر من مايو، تراءى لنا الأمل والعمل، في يوم الطالب الجزائري، يوم هجر الطلبة المئزر والطبشور، وقرروا الصعود إلى الجبال، التحاقا بالنسور، وكفاحا لحماية الثغور.

إن يوم التاسع عشر من مايو –في الجزائر- سيظل يمثل النداء الخالد للضمائر الحية، من أجل إيقاظ النخبة الطلائعية، للتكفل بالمصير ونبل القضية.

ولا نغادر شهر مايو، دون تسجيل وقفة اعتبار، وتذكار، أمام اليوم العشرين من مايو، اليوم الذي أفل فيه نجم عالِم الجزائر، ورائد نهضتها العلمية والوطنية، الإمام المجاهد محمد البشير الإبراهيمي، الذي ترك بصماته الخالدة، في كل منحى من مناحي الوطن الجزائري، وحتى الأمة العربية والإسلامية.

في هذا السياق –إذن- نستعرض، هذه الأحداث كلها –هذه السنة- في ظل الحدث الأبرز، وهو ميلاد ملحمة غزة العز والعزة، بقيادة كتائب القسام، وزعامة الرمز النبراس، حركة حماس، هذه الملحمة التي قلبت الموازين، وأذلت النياشين، وقضت على أسطورة جيش الغالبين.

فقد رفعت المقاومة الفلسطينية رؤوس المستضعَفين، وأبانت عن وجه المؤمنين الحقيقيين، وإعادة صياغة حقيقة المواطنين، فلم يعُد في غزة أطفال ذكور وإناث، وإنما هم جميعا رجال ونساء في حزم وعزم، الشجعان الباسلين.

يجيء هذا، ونحن نستقبل الخامس من يونيو، ذكرى أم الهزائم، التي مرغت كرامة الجيوش العربية في الوحل، وكشفت في الساسة العرب، خطاب التضليل والدجل، ومكنت من احتلال الأرض العربية من السهل إلى قمة الجبل.

سبحانك اللهم، أخرجت، من أم الهزائم، فيالق العزم والعزائم، وهاهم، بعد أن تعلموا من مرارة الخطاب العربي العقيم، وسياسة المساومة، والتطبيع، والمسالمة، هاهم يجددون نوع السلاح، ويغيّرون قيادة الكفاح، ويلقّنون العدو، أنبل معاني الشجاعة، والصمود، والبطولة في ميدان البطاح.

خلق الله للجهاد رجالا     ورجالا لقصعة مثاريد

لم يكتف مجاهدو المقاومة الفلسطينية على اختلاف فضائلها، بإيقاع جيش العدو، رغم تدجيجه بأحدث أنواع السلاح، في أشنع الهزائم، ولم يقتصروا على تمريغ جيش ضباطه وجنوده، في أروع الكمائن، بل أضافوا إلى ذلك، حسن التعامل مع الأسرى، والمعتقلين، مما جلب لهم احترام وتقدير كل العقلاء الإنسانيين.

أظهر المقاومون الفلسطينيون، للعالم أجمع قيم الإسلام المتسامح، في إعداده، لحراس الذمم، ورعاة الأمم، وإعلاء العلَم، بكل إباء وشمَم.

جاءت هذه الدروس القسامية الفلسطينية لتمحو آثار أم الهزائم، التي فتح الجيل الصاعد عينه وعقله عليها، مرسَّخة فيه –بطريق الخطإ- أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وأكذوبة العرب الذين “اتفقوا على ألا يتفقوا”.

إن هذه الوقفات التي تتراءى لنا اليوم، ونحن نودِّع شهر مايو، ونستقبل شهر يونيو، لتوحي إلى النفوس بالكثير من التألم والعناء، وعلينا أن نستخلص منها الدروس والمعاني، وأهمها:

  • إن أولى المعاني المستقاة من المعاناة والمحن، هي التركيز في عقول أبنائنا من الجيل الصاعد، على محو الصورة القاتمة التي رسمتها مناهجنا، ومنظوماتنا، على قبول الأمر الواقع بمساوئه، والرضى بمرارة الهزائم على أكثر من صعيد، واعتبار الاحتلال الصهيوني قضاء وقدرا، والاكتفاء في كل ذلك بالتسلي، بمقولة “الجهاد بالسنن”.
  • إعادة قولية وصياغة العقل العربي والمسلم على أسس قيم الوفاء، والاقتداء للّذين يصنعون المعادلة الجديدة في غزة العزة مبرزين لهم طريق النصر ومقدماته، وطريق الهزيمة وأعراضه ومسبباته.
  • العمل على إخضاع تجارب سياسة أمتنا العربية الإسلامية الماضية، على اختلاف أنواعها، للتحليل والتعليل، كي نعيد تخطيط السبيل، والنأي بأمتنا عن كل أنواع التضليل، والتقتيل والتنكيل.
  • استنساخ تجربة كتائب القسام، وتعميمها على كل ركن، للاستفادة منها، وأخذ العبرة من إيجابياتها، لتمحو بمعادلتها سلبيات التجارب الانهزامية السابقة، فليس العيب أن نسقط، ولكن العيب كل العيب أن نبقى ساقطين.

﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، ومن الأيام أيام لنا، ويوم علينا، فمن واجبنا أن نتعلم الدروس من تجاربنا الماضية.

وإذا كانت الحكومات والجيوش قد وقفت عاجزة عن مد يد العون إلى المقاومة الفلسطينية، لمعاضدتها، كما يفعل الغرب مع الصهاينة، فلتقم الشعوب العربية بواجب النصرة للمقاومة ولشعب غزة المحاصَر، وذلك بتقديم كل أنواع الدعم.

إنه لحرام –في فقه الدين اليوم- أن نُقدِم على أضحية العيد، في زمن تضحية المجاهد الفلسطيني والشهيد.

المطلوب من علماء الأمة وفقهائها، أن يفتوا بالجهاد بتعطيل السّنة، في سبيل ما هو واجب، وأضعف هذه الواجبات تقديم ثمن الأضحية إلى الجائعين والعراة في غزة، والجرحى والمعطوبين، الذين سلط عليهم العدو الصهيوني كل أنواع التنكيل والتقتيل، والتدمير والتهجير، ولا ذنب لهم، إلا أن يقولوا ربنا الله، ووطننا فلسطين.

فلنغرس في وعي أمتنا، مقولة أنه مهما اسودّ الليل، فلابد من طلوع الفجر، وأن البقاء في النهاية، سيكون للأصلح، والأصلح هو الحق الفلسطيني.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!