-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عُرَبَانٌ: من معبد  التّنوير إلى كنيس الصّهْيَنَة

 بقلم: فريد حاجي
  • 596
  • 0
عُرَبَانٌ: من معبد  التّنوير إلى كنيس الصّهْيَنَة

منذ السابع من أكتوبر 2023، وغزّة تقارع منفردة آلة الإجرام، بصمود وجَلَد ليس لهما في التاريخ مثيلٌ، من أجل الدّفاع عن الأرض والشّرف، وهو شيء لا يقبل النّقاش أو المزايدة أو التّمييز. ومع ذلك، اصطفّت أمريكا ومعها الأنظمة الغربية في عداء صريح وفجّ  للفلسطينيّين، فسقطت شعاراتهم وادّعاءاتهم سقوطا مدوّيا أمام مقتلة غزّة، لمخالفتهم منطق الأشياء،  ودوسهم على ما تغنّوا به منذ ما يسمّونه “عصر الأنوار”.

لكن، لا شيء يثير الاستغراب، لأنّ الغرب كعادته يتنفّس الكذب ويعتاش عليه. ومن غير المنطقي، أن يكون مسانِدا ومنصفا للقضايا العربيّة لما يحمله من حقدٍ دفين ليس وليد الرّاهن. لكنّ المأساة تكمن في اصطفاف بعض بني جلدتنا إلى جانب هذا الغرب وموالاته، وشهد بذلك المجرم “نتنياهو” حين صرّح في العام 2017م قائلا: “… إنّ العقبة الكبرى أمام توسيع السّلام لا تعود إلى قادة الدول حولنا، إنّما إلى الرّأي العامّ السّائد في الشّارع العربي، والذي تعرّض سنوات طويلة لغسل دماغ تمثّل في عرض صورة خاطئة ومنحازة عن دولة إسرائيل… حتى بعد مرور عشرات السنوات، وعلى غرار الطبقات الجيولوجية، يصعب جدّا التحرّرُ من تلك الصّورة، وعرض إسرائيل على حقيقتها وبوجهها الجميل والحقيقي.”!
ويبدو أنّ المجرم “نتنياهو” لامس كبد الحقيقة لمعرفته بعض حكّام المنطقة ممّن تعامل معهم وتوابعهم من “المثقّفين المتنوّرين والتّجديديّين”، الذين أصبحوا يحجّون زُرافاتٍ ووُحدانًا إلى تلّ أبيب، وهو ما حدا بوزير داخلية الكيان الصهيوني الحاخام “أريي درعي” أن يتجرّأ على القول إنّ: “… العرب هم دوابُّ موسى ويجب علينا فقط ركوبُهم للوصول إلى الوجهة النهائيّة، فشراءُ سرج جديد وعلف جيّد للدّابة من واجب صاحبها، ولكن يجب أن ينظر صاحبها إليها كوسيلة للرّكوب فحسب. مكان الدّابة في الإسطبل ولا أحد يذهب بها إلى غرفة استقبال بيته”.

يبدو، من مواقف بعض هؤلاء الحكّام، أنّهم باتوا يرون في الكيان “الوجه الجميل”، وكذلك الشّأن بالنسبة لتوابعهم، من خلال ما تخطّه أقلامهم وتلوكه ألسنهم، أولئك الذين كان لهم نصيب من علف “التنوير” وتطليق “التعصّب” استجابة لِفَرَمَانِ “فولتير”  في القرن 18م والتخلّص من الظلاميّة. وفي العقدين الأخيرين، بدا لهؤلاء أنّ العلف السّابق، لم يعد برهان ولاءٍ لأمريكا ومن ورائها للكيان. ومن ثمة، كان لزاما “الارتقاء” فحجزوا موقعا في “منصّة أوسلو” العام 1993م، وبعدها “منصّة كوبنهاغن” العام 1997م.  وقد اجتازوا الاختبار المتمحور حول المقاومة، وحُكم حماس في قطاع غزّة، وتسابق القوم على من يحوز شرف الطّعن في أمّته أكثر، وتسلّم الشّهادة العليا من يد محلّية أو إقليميّة أو دوليّة للاشتغال رسميّا في زريبة “الصّهينة”.

بعد التخرّج، كان المطلوب تبنيّ خطاب عدائيّ ضدّ المقاومة؛ نقد لمرجعيّتها وتسفيه لعمليّاتها وتعييب لاستخدامها الدّين من أجل تحرير الأرض. لكن، غضّ الطّرف عن الأساس الذي قام عليه الكيان، حتّى وإن كان المجرم “نتنياهو” يصدح بما يسمّيه “نبوءة إشعياء” التي تدعو إلى ذبح الفلسطينيّين، وفتاوى الحاخامات بقتل أطفال فلسطين! فقط، تبنّي خطاب الكيان تجاه المقاومة، باعتبارها “إرهابًا”، وليست حركة تحرّر.

كان هؤلاء، يخبّئون ما يكنّونه تجاه الكيان الصّهيوني، لكنّهم اليوم باتوا يختصمون بحثا عن شوارد اللّغة –كما قال المتنبّي– بحثا عن ما يليق بــ”الوجه الجميل” للكيان، برهانا على تصهيُن الفكر، وامتثالا لما يريد، ناهيك عن المساندة المادّية، كذاك الذي راح يقدّم المساعدات لآلاف الأُسَرِ من الكيان إنقاذا لهم من المجاعة، فأيّ إنسانيّةٍ هذه؛ وجهتها لمُستَعمِرِ غاشم يطحن شعبا مُسْتَعْمَرا منذ 75 عاما، إذا وضعنا الأخوّة في الدّين جانبا!؟

بات بعضُهم، يردّد من دون خجل: “… الشّعب الفلسطيني سيهزم في النهاية “الإرهابيّين” في فلسطين، وسيمدّ أيديه بالسلام إلى جيرانه بدلا من الأحزمة الناسفة”. وينسى هؤلاء أنّ مثل هذا الكلام هو إثارة للفتنة بين أبناء الشّعب الفلسطيني، وهو ما يحلم به الكيان. وبات بعضُهم يعتبر المقاومين “شرذمة” يجب اجتثاثها، وأنّ ما يقومون به هو نوعٌ من الانتحار المجّاني، وهو جزءٌ من خطاب النخب الحاكمة المطبِّعة.

لا ننسى، أنّ هؤلاء من أدعياء الليبراليّة والتنوير، والمنادين بالحريّة وحقوق الإنسان؛ إذ كتب أحدهم مقالا في العام 2015م تحت عنوان: “لك العُتبى يا نتنياهو حتى ترضى”. ورغم أنّ صاحبه اعتذر وادّعى بأنّ القارئ لم يفهم سياق عنوانه، لكنّه عاد ومجّد المجرم “نتنياهو”: “… سيخدم مصالحنا أكثر من غيرها… وأنا لا أحمل لليهود أيَّ كره، ولا أشعر بأيّ تعاطف مع الفلسطينيين”!
كذلك، كتب آخر قائلا: “… اليهود يُكنّون لنا الاحترام ولم يعتدوا علينا أو يفجّروا في بلدنا، وأدعو الملك إلى فتح سفارة وتمثيل دبلوماسي عالي”. وغرّد آخر أثناء الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، مخاطبا الإسرائيليين: “…نحن معكم بقلوبنا، لا نقبل أن تمتدّ الأيادي الملوَّثة بالإرهاب في غزّة ضدّ الشعب الإسرائيلي… إسرائيل لها الحقّ بالردّ على الإرهابيّين بجميع الوسائل التي تحمي شعبها… نحن معكم بقلوبنا ولا نقبل بإرهاب غزّة ضدّ الشعب الإسرائيلي، فنحن وإيّاكم في خندق واحد” !

أصبح “المثقّفون المتنوّرون والتّجديديّون” العرب يحجّون زُرافاتٍ ووُحدانًا إلى تلّ أبيب، وهو ما حدا بوزير داخلية الكيان الصهيوني الحاخام “أريي درعي” أن يتجرّأ على القول إنّ: “… العرب هم دوابُّ موسى ويجب علينا فقط ركوبُهم للوصول إلى الوجهة النهائيّة، فشراءُ سرج جديد وعلف جيّد للدّابة من واجب صاحبها، ولكن يجب أن ينظر صاحبها إليها كوسيلة للرّكوب فحسب. مكان الدّابة في الإسطبل ولا أحد يذهب بها إلى غرفة استقبال بيته”.

الأدهى، أنّ بعض المشايخ، ركبوا الموجة، مثل ذاك الذي التقى سفيرَ الكيان “تسفي مازئيل” ثمّ مع حاخام الطائفة الأشكنازية “يسرائيل لاو” في القاهرة العام 1997م. وفي العام 2005م أفتى بالقول: “… لا يوجد في الدّين الإسلامي ما يحرِّم التطبيع مع الدول الأخرى، خاصّة إسرائيل، طالما كان التطبيع في غير الدين، وفي المجالات التي تخدم شؤون الحياة، واحتياجاتها.” ولسنا ندري كيف سيكون موقفه من “اتفاقيات أبراهام” لو ما زال حيًّا يُرزق.

ومذاك، بدأت الفتاوى تتهاطل، وكلّها تتمحور حول المقاومة –ما دامت تلك رغبة السلاطين– فهي، لا تمثّل الشّعب الفلسطيني، وعملها يعدُّ “عنفا وإرهابا”، وأنّها تتحمّل مسؤولية إزهاق أرواح ساكنة غزّة وما لحق بها من دمار، والإسلام لا يسمح بالدّفاع عن النّفس في حال خشية الضّرر. وبالتالي، فإنّ البديل هو القبول بالأمر الواقع. وهناك من راح يتّهمها بالعمالة، وتشويه صورة الإسلام، فمثلا، كتب أحد الشيوخ على الإنترنت العام 2014م قائلا: “… لا يوجد في القرآن الكريم شيءٌ اسمه فلسطين، والله تعالى كتب الأرض المقدّسة لبني إسرائيل إلى يوم القيامة؟!”. ولمّا زار الكيان، والتقى رجالَ دين يهود، قال: “… إنّ سبب انفتاحي على الشّعب اليهودي نابعٌ من اعترافي لهم بسيادتهم على أرضهم، وإيماني بالقرآن الكريم الذي أخبر، وأقرّ ذلك في مواطن كثيرة منه، كما في سورة المائدة:21 “يا قوم أدخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللهُ لكم” وفي سورة الشعراء:59 “كذلك وأورثناها بني إسرائيل”. وهنا نترك الردّ لأهل الاختصاص.

من جهته، علّق “شُوَيْخ”، في 16/8/2020، في مقطع فيديو لفلسطينيّين في القدس، داسوا بأحذيّتهم على صورة وليّ عهد أبو ظبي ردا على تطبيعه مع الاحتلال، بقوله: “… أنتم لا تستحقّون القدس، الحقيقة، إنّكم بلا أخلاق، اليهود أشرفُ منكم”!. ثمّ راح ينتقد العرب الرّافضين للتطبيع، في 16/9/2020، بقوله: “… إسرائيل لم تدمِّر سوريا، لم تحرق ليبيا، لم تُشتِّت شعب مصر، لم تُمزِّق لبنان، قبل أن تعيبوا إسرائيل، أنظروا إلى أنفسكم بالمرآة، يا عرب، فالعلّة بكم”!. هذا الشّويخ، يعتقد أنّه يُحسن صُنعا، وينسى أنّه يسير على درب من ينتقدهم، وعلى رأسهم البلد الذي يأويه، نتمنّى له أن يستعيد وعيَه يوما.

بدوره، أطلق شيخٌ مغربي، سهامه على من عارضوا التطبيع، في فيديو على صفحته على فيسبوك، في 13/12/2020، إذ قال: “… لماذا فلسطين فقط التي يجب أن نقاطع من احتلّها، وننسى باقي الدول”؟! ودعا معارضي التطبيع إلى الاهتمام بعباداتهم، وأحوالهم الشّخصية، لأنّ الله سيسألنا عن الصّلاة، وليس عن فلسطين!. ونسيّ أيضا ضرورة “الجهاد بالسّنن” كما قال أحدٌ من شاكلته. فأنّى للمجرم “نتنياهو” أن لا يكون مُنتشيا، وهو يسمع لمثل هذه التخريجات، وغيرها كثير، ففي مؤتمر صِحافيّ عقده في غرب إفريقيا في جوان 2017م قال: “… الكثير من الدول العربية لم تعد ترى إسرائيل عدوّا لها، حتى إنّني سأقول إنّهم يرون في إسرائيل حليفا لهم، حليفهم الذي لا غنى عنه، في حربهم ضدّ الإرهاب، واغتنام مستقبل التكنولوجيا، والابتكار”. فأيّ بؤس هذا، في وقت يعادي بعضُنا بعضا ونؤيّد العدوَّ ونسالمه ونصالحه؟!

لا ننسى، أنّ هؤلاء من أدعياء الليبراليّة والتنوير، والمنادين بالحريّة وحقوق الإنسان؛ إذ كتب أحدهم مقالا في العام 2015م تحت عنوان: “لك العُتبى يا نتنياهو حتى ترضى”، ورغم أنّ صاحبه اعتذر وادّعى بأنّ القارئ لم يفهم سياق عنوانه، لكنّه عاد ومجّد المجرم “نتنياهو”: “… سيخدم مصالحنا أكثر من غيرها… وأنا لا أحمل لليهود أيّ كره، ولا أشعر بأيّ تعاطف مع الفلسطينيين”!

بعد كلّ هذا، خليقٌ بنا الإشارة إلى سيرورة هذا النّوع من الخطاب، إذ بدأت رحلته مع مطلع القرن 20م جرّاء الوجود الاستعماري العسكري والثقافي في البلاد العربية. وفي خضمّه، ظهرت تيّاراتٌ فكريّة وسياسيّة ذات ولاء وتحيّز كامل للنّظم الغربية، ثمّ راحت هذه التيارات تتناسل جيلا بعد جيل، ولم تعد تكتفي بما آمن به الأوائل، بل تبنّى طوفان المفاهيم والأفكار والفلسفات الموجّهة للقيم والسّلوك والأذواق والرّغبات في نهاية القرن 20م، طوفان انعدمت فيه -كما يقول المسيري- الثّوابت والمطلقات، وتحلّلت الثّنائيّات إلى واحديّات صلبة أوّلا، ثمّ سائلة ثانيا في ظلّ القيم الإمبريالية العلمانية الشّاملة، وحيث انتهى الإنسان إلى أن ينسحب من عالمه الإنساني الاجتماعي، لينخرط كلّيا -وفي سباق محموم- في عالم الطبيعة والمادّة ليسري عليه قانون الأشياء، ويتحقّق بكمال اللذّة والمتعة في “الفردوس الأرضي” كما نظّرت له الدّاروينية والفرويدية والفلسفات الوضعيّة الحديثة.

نذكّر بما قاله “ابن رشد”: “… إنَّا ألفينا لمن تقدَّمَنَا من الأمم السَّالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسبِ ما اقتضتْه شرائطُ البرهان أن ننظرَ في الذي قالوه من ذلك، وما أثبتوه في كتبِهم، فما كان منها موافقا للحقّ قبلناه منهم وسُرِرْنا به، وشكرناهم عليه، وما كان غيرَ موافقٍ للحقِّ نبَّهْنا عليه”. ثمّ، لماذا لا يأخذ هؤلاء بحكمة “المهاتما غاندي”: “أفتح نوافذي للرّيح من كلّ جانب، ولكنّي لا أَدَعُها تقتلع جذوري..”.

غرّد آخر أثناء الغارات الإسرائيلية على غزة، مخاطبا الإسرائيليين: “…نحن معكم بقلوبنا، لا نقبل أن تمتدّ الأيادي الملوّثة بالإرهاب في غزّة ضدّ الشعب الإسرائيلي… إسرائيل لها الحقّ بالردّ على الإرهابيّين بجميع الوسائل التي تحمي شعبها… نحن معكم بقلوبنا ولا نقبل بإرهاب غزّة ضدّ الشعب الإسرائيلي، فنحن وإيّاكم في خندق واحد” !

أخيرا، يبدو أنّ مشايخنا ومتنوّرينا لا يرون إلاّ ما رأى السلطان، لأنّ الأخير لا ينطق عن الهوى، بل بوحي يوحى من إمبراطورية آل روتشيلد وآل مورغان وآل روكفلر. هؤلاء وأولئك ينسون أنّ التاريخ يُخبر بأنّ أيّ حركة تحرّر، لا بدّ أن تضمّ فصيلا متشدّدا أيّا كان لونُ هذا التشدّد، فمقاومة حركة “فتح” مثلا في فترة الستينيات وما بعدها، كانت بقيادة تيّار يساري، وذلك تمشّيا مع واقع العالم يومها، وكان لزاما عليها ومن حقّها الدّفاع عن الأرض والعرض ضدّ المحتلّ. فما الشّيء الذي تغيّر اليوم عن الأمس؟ أم أنّ قيادة بلون لا يروق للمتنوّرين، حرام عليها الدفاع عن ما دافع عنه تيّارٌ سابق لأكثر من ثلاثة عقود، وأصبحت محلّ  ذمّ ومعاداة من طرف المطبّعين، بل، ضدّ من لا يحذو حذوهم من الدول العربية!؟ إنّها المفارقة العجيبة، فَبَخٍ بَخٍ لشيخ كويتيّ حين خاطب ًامرأة فلسطينية، أراد من خلالها الردّ على هذه الأصوات، إذ قال: “… امنحيني خيطًا من حذائك لِأَخيطَ به أفواهًا نَجِسَةً، تنافق أمريكا وتغازل إسرائيل”. وقد سبق للشّاعر الفلسطيني “محمود درويش” أن قال عن الصهاينة إنّهم “عابرون في كلام عابر!” والأكيد أنّهم ومن والاهم من بني جلدتنا سيخرج من جرحنا غدًا أو بعد غدٍ.

للمقال مراجع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!