-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

عولمة الثقافة

محمد قيراط
  • 4293
  • 0
عولمة الثقافة

تكلمنا في مقال سابق عن تداعيات وانعكاسات العولمة على اللغة العربية والتحديات التي تواجهها لغة الضاد في عصر لا يرحم، عصر تسيطر فيه الصناعات الإعلامية والثقافية العالمية على الصورة وعلى الدلالة وعلى المعنى وعلى الرأي العام.

  •  
  • تاريخيا ارتبط تطور البشرية وازدهارها ارتباطا وثيقا بوسائل وقنوات الاتصال التي استعملها الإنسان وتفاعل معها عبر العصور والأزمنة، فقد تأثر تاريخ الحضارة تأثرا كبيرا بوسائل الاتصال، ففي كل مرحلة كان يستعمل فيها الإنسان وسيلة اتصال جديدة كان يترتب عنها احتكار للمعرفة ومن ثَم السلطة. وهكذا عرف الإنسان البردى ثم الورق ثم الطباعة ثم اخترع التلغراف ثم الهاتف، ثم جاء عهد الإذاعة ثم التلفزيون وبعدها جاء عهد الثورة الاتصالية بمفهومها الحقيقي والكامل، وذلك باستعمال الحاسوب الآلي، والأقمار الصناعية ودمج الصوت والصورة واستعمال التفاعلية والبعد الافتراضي من خلال الانترنت الذي تخطى كل التوقعات عن طريق “الفايس بوك” و”تويتر” وغرف الدردشة وغيرها، حيث أصبح الإنسان يستعمل أكثر من وسيلة لتخزين المعلومات ومعالجتها وإرسالها عبر الأقمار الصناعية في ثوان معدودة. فإذا كان آخر القرن الثامن عشر يسمى بـ “الثورة الصناعية الأولى” وآخر القرن التاسع عشر أطلق عليه اسم “الثورة الصناعية الثانية” أما الربع الأخير من القرن العشرين فسمي بـ “الثورة الاتصالية”.  
  • والثورة الاتصالية في الحقيقية لم تأت هكذا فجأة وإنما تعود جذورها وإرهاصاتها الأولى إلى مطلع القرن العشرين، فهي بمفهومها الحديث أحدثت ثورة شاملة وجذرية في المعرفة وحجمها وقنوات توزيعها والسيطرة عليها. والصراع العالمي الذي تشهده البشرية في القرن الحادي والعشرين هو صراع حول من يملك المعلومة ويسيطر على صناعة المعرفة.    
  •       ففي الواقع جاءت الثورة الاتصالية لتكرس تفوق الشمال على الجنوب ولتزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا، فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور ما يسمى بالصناعات الثقافية، هذه الصناعات التي غمرت العالم بإنتاجها وأدت بذلك إلى توحيد الرؤية والفكر حسب المعطيات والمبادئ والقيم التي يفرضها صاحب السلطة والجاه والمال. والإشكالية المطروحة في الثورة الاتصالية هي أن الدول الصغيرة والفقيرة قد قدمت على شراء التكنولوجية والوسائل والقنوات لتواكب التطور، لكنها عجزت عن إنتاج المعرفة والمادة الإعلامية التي توزع عبر هذه الوسائط التكنولوجية، وهكذا فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى اقتناء البرمجيات والمادة -الرسالة والمحتوى- التي تُبث وتُوزع عبر الوسائل والتكنولوجيات المختلفة. والتناقض القائم هنا هو أن هذه البرمجيات وهذه المادة التي تُقبل معظم الدول في العالم على اقتنائها من حفنة من الشركات العالمية لإنتاج البرامج تحمل في طياتها قيما ومبادئ قد تتنافى وتتعارض مع قيم معظم الدول في العالم، وهذه السيطرة على الإنتاج تؤدي كذلك إلى عولمة الثقافة وتؤدي إلى السيطرة على الرؤى والقيم والمبادئ. 
  •       فالثورة الاتصالية أدت إلى ظهور فضاء إعلامي عالمي عابر للدول والقارات سواء عن طريق البث الفضائي المباشر أو الانترنت، وهذا ما أدى إلى عولمة الثقافة التي تعتبر نتيجة حتمية للثورة الاتصالية وللتطور السريع في وسائل الاتصال. 
  • من جهة أخرى نلاحظ ضعفا في الإنتاج الإعلامي والثقافي في غالبية دول العالم خاصة النامية منها، مما أدى إلى تربع الولايات المتحدة الأمريكية   على إنتاج الثقافة المعولمة أحادية البعد والرؤية والقيم، ثقافة تهيمن وتسيطر على معظم القنوات التلفزيونية العالمية وعلى معظم الوسائط والمنافذ الاتصالية. وأصبح المنتج في ميدان الإعلام والثقافة يفكر في سوق عالمية وليس في سوق محلية، لكن هذا لا ينفي أنه يفكر بقيم ومعتقدات وبأفكار وأيديولوجية لا تخرج عن الإطار المرجعي لثقافته وبيئته ومجتمعه. وهذه المعادلة تؤدي من دون شك إلى تبعية معظم دول العالم وشعوبها إلى الحفنة القليلة من الدول التي تنتج ما يبث عبر تلفزيونات العالم.  
  • الإشكالية المطروحة هنا في ما يتعلق بالثورة الاتصالية والعولمة الثقافية أن الشركات متعددة الجنسيات التي تسيطر على الإنتاج السمعي البصري على المستوى العالمي هي مؤسسات تحكمها المادة والربح، وهكذا نلاحظ ظهور البارونات في هذا الميدان أمثال “تاد ترنر” و”روبرت موردوك” و”روبر هيرسان” وتجمعات كبيرة جدا مثل “جانات فونداشن”، و”سكريبس هوارد” و”تايم وارنر-أي.أو.أل”… الخ، فهذه التكتلات تنعم برأس مال يقدر بمليارات الدولارات ومستعدة لإنفاق مئات الملايين من الدولارات على إنتاج المواد الثقافية والإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها (أفلام، مسلسلات، أفلام وثائقية، دراسات، تحاليل… الخ). أما بالنسبة للدول النامية، التابعة، المغلوب على أمرها فإنها لا تستطيع أن تنتج المادة الثقافية التي هي بحاجة إليها، وهذا نظرا لقلة الإمكانات المادية ولنقص الإطار البشري، كما أن شراء المادة الثقافية المعلبة يكون أقل تكلفة بنسبة كبيرة من لو أن هذه الدول أقبلت على الإنتاج بنفسها. وتنسحب هذه القاعدة على غالبية الدول في العالم الثالث ما عدا القليل منها مثل الهند ومصر. 
  • يقدر الإنفاق الإعلاني في الولايات المتحدة الأمريكية بأزيد من 500 مليار دولار سنويا، وهذا الرقم يساهم بدرجة كبيرة في تمويل الصناعة الإعلامية والثقافية الأمريكية وفي تمويل الكم الهائل من المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها وأشكالها. هذا الحجم الإعلاني الكبير يوفر المستلزمات الضرورية للصناعات الإعلامية والثقافية الأمريكية لتفرض نفسها وتبسط نفوذها على العالم، إذ نلاحظ أن سعر المنتجات الثقافية يكون معقولا وفي متناول أي دولة في العالم مهما كانت مخصصاتها المالية للبرامج والمنتجات الإعلامية والثقافية. وبطبيعة الحال فإن الصناعات الثقافية الأمريكية ليست صناعات محايدة وإنما هي صناعات تعكس النمط الأمريكي في مختلف جوانب الحياة كما تعكس القيم والمعتقدات والأيديولوجية الأمريكية. وكنتيجة لكل هذا أصبحت مطاعم “الماكدونالد” موجودة في مختلف عواصم ومدن العالم -أكبر مطعم ماكدونالد في العالم يوجد في موسكو- وأصبح “رامبو” و”ميكي ماوس” وكرة السلة الأمريكية عناوين للنجاح والشهرة والعالمية والقوة.
  • وهكذا نلاحظ أن الهوة بين الدول المالكة لتكنولوجية الاتصال وللصناعة الثقافية والدول المستهلكة سواء للتكنولوجية أو لمحتواها تزيد عمقا يوما بعد يوم ولصالح الحفنة القليلة التي تهيمن وتسيطر وتفرض ما يحلو ويطيب لها وما يخدم مصالحها وأهدافها. وهكذا فإن ظهور المجتمع المعلوماتي في الربع الأخير من القرن العشرين يرفع تحديات كبيرة ومصيرية أمام الدول العربية حيث الحاجة إلى إعادة النظر في السياسة الاتصالية والثقافية ووضع استراتيجية تقوم على التكوين والدراسات والبحوث والإنتاج وتخصيص موازنات معتبرة تليق بحجم التحدي والرهانات المستقبلية لصناعة الصورة والرأي العام.      
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!