-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

طوفان الأقصى: فلسطين لن تصير ذكرى أيّها المطبّعون

بقلم: فريد حاجي
  • 459
  • 0
طوفان الأقصى: فلسطين لن تصير ذكرى أيّها المطبّعون

تثير قضيّة فلسطين، عند كلِّ عربيٍّ ومسلم مواجع ذكرى تضييع العرب والمسلمين للأندلس في 02/01/1492م، وما أنجزوه من حضارة، حضارة أخرجت –ومعها صقلية- أوروبّا من لحظتها البربريّة، ومكّنتها من الأخذ بأسباب التقدّم، لكنّ التعصّب الديني خلال العصور الوسطى مسح كلّ فضل أدّاه المسلمون في إسبانيا. وقد ردّ “خوليو رييس روبيو”على هذا الإنكار بقوله: “… في هذا الإقليم تشكّلت حضارة أشعّت بضوئها على الغرب والشّرق لكونها منطقة التقاء وتقابل ثقافي وبشري، نسيتها أوروبا، لكنّها بقيت دائمًا في الذّكرى الخالدة للعالم الإسلامي”.

ومذاك، بدأت أوروبّا تتربّع على المشهد العالمي اقتصاديّا وعسكريّا وعلميّا، بينما انقسم المسلمون في الأندلس إلى نحو 22 دُوَيْلة تتنازع فيما بينها وتستنصر هذه على تلك بعدوّهم المشترك، في الوقت الذي كانت ممالك الشّمال “قشتالة وأراغون” تتوّحد لتنقضّ على الجميع. وما حدث لفلسطين العام 1948م، كأنّه تكرارٌ لمأساة الأندلس؛ وهن عربيّ، عالم عربي بعضه في قبضة الاستعمار والباقي لا وزن سياسي له، وكأنّه انزاح خارج التاريخ.

كان اليهود جماعاتٍ من البدو الرحّل الذين انتقلوا من العراق إلى جنوب تركيا، ثمّ إلى جنوب فلسطين، حيث مكثوا هناك لبعض الوقت قبل انتقالهم إلى مصر التي أقاموا فيها نحو 4 قرون (1300 ق. م حسب تقويمهم) ثمّ غادروا مصر واستطاعوا تدريجيّا احتلال معظم –وليس كلّ- فلسطين المأهولة. وقد ادّعى الصهاينة الحقّ في فلسطين، ووفق زعمهم هذا، فمن حقّ الإيطاليين المطالبة بانجلترا التي هيمن عليها الرّومان لمدّة 367 عاما، ومطالبة إنجلترا بفرنسا “الوطن الأصلي” للفاتحين النورمانديّين، ومطالبة المكسيكيّين بإسبانيا “وطن أبائهم” وربّما بتكساس التي ظلّت مكسيكيّة إلى غاية 1847م، ومطالبة الهنود الأمريكيّين بوطنهم بصفتهم أصحاب الأرض الأصليّين حتّى العام 1497م… الخ.

تناسى اليهودُ أنّهم هُجّروا عنوة من الأندلس إلى شمال إفريقيا، وآلام التّهجير التي اكتووا بها، وتناسوا من أنقذهم من اضطهاد الأوروبيّين لهم في الأندلس، فاقترفوا الجريمة نفسها حين اغتصبوا فلسطين العام 1948، فقاموا بتهجير الفلسطينيين عنوة إلى الشّتات، وكانت بريطانيا منذ عشرينيات القرن الماضي تدعم هجراتهم المكثّفة إلى فلسطين بذرائع إنسانيّة، وبدأت تتحدّث منذ 1936م عن تقسيم فلسطين قبل “الهولوكست”.

لقد قام الصهاينة تَحتَ شعار “دولة نقيّة لليهود” بترحيل العرب من فلسطين قسرا وبالقوّة، كما نادى بذلك “جابوتنسكي” (1880-1940م) أحد مؤسّسي الحركة الصهيونيّة؛ أي ترحيل الفلسطينيّين من داخل فلسطين إلى خارجها، وترحيل اليهود من خارج فلسطين إلى داخلها، وكانت النتيجة فقدان العرب لفلسطين.

إنّ فلسطين كانت قبل 7500 ق. م في جبل القفرة جنوب الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. وكانت فلسطين الكنعانية في العام 3000 ق. م، وخضعت للاحتلال اليوناني العام 332 ق. م، وللاحتلال الرّوماني منذ العام 63 ق. م، وظلّت عربيّة 2000 سنة ووصلها الفتحُ الإسلامي العام 643 م، وتحرّرت من الرّوم على يد “خالد بن الوليد” في معركة اليرموك الشّهيرة.

 كان الشّارعُ العربي من المحيط إلى الخليج، يعتقد أنّ فلسطين طواها النسيان؛ نسيها العالم، وأدار حكّام عرب ظهورهم لها، وربّما سينسى شعب فلسطين مثل أهل الأندلس بعد هجرتهم إلى شمال إفريقيا. وما زاده يأسا، المشهد الفلسطيني، انقسام في البيت الداخلي، وردّة عن المبادئ والمواقف الوطنية من لدنّ حكّام ومثقّفين وإعلاميّين يملؤون صفحات الجرائد وشاشات الفضائيّات، بالانحياز الصريح للكيان الصهيوني وجرائمه، ومهاجمة المقاومة التي لا طاقة لها في منظورهم أمام عدوٍّ أشدّ قوّة وفتكا، وليس من سبيل إلّا الاستسلام والتّطبيع. هؤلاء، ينسخون بؤس ملوك الطّوائف الذين أضاعوا المنجَز العربي الإسلامي.

كان ممّن سبق هؤلاء -وبالأمس القريب– على الأقلّ لا يعترفون بالكيان الصهيوني مطلقا، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم العام 1967م: “لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل”، ووصفوا الصهاينة بمجموعة من الّلصوص سطوا على أرض ليست أرضهم فاحتلّوها واستوطنوها. لكن بتوقيع اتفاقيّة “كامب ديفيد” في 1979 بدأ الانهيار، ومن تمظهراته أيضا مؤتمر مدريد للصلح بين العرب والكيان، في 30/10/1991م، وخلاله وجّه “شامير” رسالة لهؤلاء الحكّام قائلا: “… خلال ألفي عام من الترحال حطّ الشّعبُ اليهوديّ هنا (أي الأندلس) لمئات السّنين حتى طُرد قبل خمسمائة عام”. وقد اختار توقيع ما سُمّي “اتّفاق السلام” العام 1992م في هذا البلد، بينما كانت المفاوضات تجري في “أوسلو”، وبذلك بدأت “لا الناهية” تسقط الواحدة تلو الأخرى.

تلك كانت رسالة إلى حكّام غلب نعاسهم يقظتهم، فأصبحت فلسطين وطنا للصهاينة، وظنّوا أنّها قضيّة تُسوّى بالجدال، وتصرّفوا مع الكيان كمهزومين كأنّهم خسروا الحرب –كحال ألمانيا في الحربين العالميتين- واعتقدوا أنّ مواجهته تكون بأسلوب ناعم يعتمد على قوّة الحقّ وفضيلة الأخلاق -وهل للكيان والغرب أخلاق أصلا– والوداعة في التّعامل معه.

الفلسطيني لن يتراجع ولن ينكسر ولن يفرّط في أرضه، ولن يرهن قراره لأيِّ جهة حتّى ولو كانت من بني جلدته. ثمّ إنّ فلسطين لن تخون نفسها، ولن تسمح لأحد بأن يفرض عليها هذا العار، كعار أحد من بني جلدتهم حين قال: “.. نحن العرب وخاصّة المثقّفين ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية وسوف نعمل كلّ ما بوسعنا لمساعدة اليهود ونتمنّى لهم وطنا ينزلون فيه على الرحب والسعة”!

إنّه الانكسار والانحدار والسّقوط الأخلاقي، والإذعان المهين لأمريكا، فباتوا لا يملكون لا إستراتيجيّة مواجهة ولا إستراتيجيّة سلام، فقط ما تُملي عليهم أمريكا من محدّدات؛ فبدل أن يكونوا في مقعد إدارة مصيرهم، ومنه مصير فلسطين، تمّ توجيههم إلى المقعد المخطّط له، تسابقٌ على الاعتراف بالكيان، وتبادل الزيارات والوفود، وفتح القنصليات، واستقبال وفود رياضية وثقافية من الكيان…

وعليه، فإنّ فلسطين تعرّضت لأقذر المؤامرات بهدف اغتيال قضيتها ووأد حلم الفلسطينيّين في إقامة دولتهم المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف، وهو مخطّط فيه قلّة وفاء إن لم نقل خيانة للتاريخ بعد أن أصبح هؤلاء لا يخجلون من إسقاط جدار العداء للكيان علنا.

نقول لهؤلاء من دعاة السّلام ورومانسيّة التّطبيع، إنّ فلسطين كان اسمها وسوف يظل، وإنّ الشّعب الفلسطيني لن يَطَال النسيانُ ذاكرته، ففلسطين شجرة تباركها الأديان السماوية، وتمثّل لكلّ فلسطيني معنى التجذّر في الأرض، فلا تُذكر أرضُ فلسطين حتى يُذكر الزيتون. والفلسطيني قائمٌ على أرض الرباط، يجاهد فيها ويكابد منذ 75 عاما القتلَ والتنكيل والسّجن والحصار، وتزوير التاريخ، وتهويد القدس وتدنيس المسجد الأقصى المبارك، وهو بذلك دفع وما زال يدفع ضريبةً ما فعلته النازية والفاشية بيهود أوروبا.

إنّ الفلسطيني لن يتراجع ولن ينكسر ولن يفرّط في أرضه، ولن يرهن قراره لأيِّ جهة حتّى ولو كانت من بني جلدته. ثمّ إنّ فلسطين لن تخون نفسها، ولن تسمح لأحد بأن يفرض عليها هذا العار، كعار أحد من بني جلدتهم حين قال: “.. نحن العرب وخاصّة المثقّفين ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية وسوف نعمل كلّ ما بوسعنا لمساعدة اليهود ونتمنّى لهم وطنا ينزلون فيه على الرحب والسعة”!

لقد صدق الشّاعر الفلسطيني الشهيد “عبد الرحيم محمود” (1913-1948م) حين قال:

يا ذا الحَليف سُيوفُنا وَرِماحُنا       لَم تَنثَلِمْ فَاِعلَم وَلَم تَتَكَسِّــــــرِ

بِالأَمسِ أَبلَت في عداكَ وَفي غَدٍ     في كُلِّ قَلبٍ غادِرٍ مُتَحَجِّرِ

 هذي البِلادُ عَرينُنا وَفِدىً لَها     مِن نَسلِ يَعرُبَ كُلُّ أَسدٍ هَصَّرِ

ذلك، هو شعبُ فلسطين طوال سنوات نضاله المديد، الشّعبُ الحيّ الذي لا يموت، وأنّه صاحب الحقّ الذي لا يُساوم عليه. وها هو اليوم يثبت ذلك بملحمة “طوفان الأقصى” وكان هو المبادِر، ووصف الكيان ما حدث أنّه “هجومٌ مفاجئ” وغير متوقّع، وكأنّه يريد القول أن لا حقّ للفلسطيني للقيام بذلك، وينسى أو يتناسى أنّه هجومٌ متوقّع من الناحية الإنسانيّة، وضدّ من يهدّده بالموت البطيء.

أخيرا، فإنّ “طوفان الأقصى” قال لــ”شامير” ومن كان يصغي له من بعض حكّام العرب إنّ فلسطين لن تكون هي البديل عن الأندلس مهما طال الزّمن، وإنّه حطّم ما كاد يصبح مسلّمات، إذ رمّم الوعيَ العالمي، بمن فيه الشّعوب العربيّة والإسلاميّة عموما، وكشف طبيعة وصورة مغتصب أرضه، ومن يقف وراءه من دول الغرب، وبعث رسالة لملوك طوائف القرن 21 مفادها: استحوا، إن كان لكم بقيّة من النّخوة العربية، وكفاكم تآمرا لأنكم لن تفلحوا في تحويل فلسطين إلى ذكرى مثل الأندلس، فهذا الفلسطينيُّ استطاع بفضل مقاومته جرّ الكيان الصهيوني إلى أروقة محكمة العدل الدوليّة صاغرا، وهي سابقة أولى في تاريخه، إنجازٌ لم يتحقّق على مدى 75 عاما، فطوبى لشعب فلسطين بعامّة، ولغزّة هاشم بخاصّة.

للمقال مراجع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!