الرأي

سؤال القرن: “لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرُهم؟”

التهامي مجوري
  • 1379
  • 0

في سنة 1929 تلقى الأستاذ محمد رشيد رضا، صاحب مجلة “المنار” رسالة من أحد تلاميذه في شكل أسئلة حول مشكلات العالم الإسلامي، مفادها لو أن الأستاذ شكيب أرسلان يكتب لنا عن سبب تأخر المسلمين، وكيف تفوّق الغربيون عليهم، بحكم أن الأستاذ شكيب أرسلان واسع الاطلاع على التاريخ العربي والإسلامي، وملمٌّ بحركة النهضة في الغرب وعارف بأسباب تفوقها، وبحكم وجوده في الغرب أيضا، فهو على احتكاك مباشر مع حركة الفكر والثقافة بشقيها الغربي والإسلامي.

وبالفعل، فإن تأثير شكيب أرسلان على النخب الإسلامية السياسية والمثقفة يومها كان ملاحَظا، وقد لمسنا نحن الجزائريين ذلك في تأثر الزعيم مصالي الحاج به، الذي أسس “نجم شمال إفريقيا” في عشرينيات القرن العشرين وفق منظور ثوري يساري، ولكن بمجرد زيارته لشكيب أرسلان تغيرت نظرته فاسترجع ماضيه وانتماءه بتبنّي المحتوى العربي الإسلامي للحركة الوطنية الجزائرية.

وفعل الأستاذ محمد رشيد رضا ما طلب منه تلميذه، الذي راسله من جزيرة جاوة بأندونيسا، فأرسل الأسئلة إلى شكيب أرسلان وطلب منه الإجابة عنها فكان مقال “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدَّم غيرهم؟” ثم أتبِع بمقالات أخرى في مواضع كثيرة من مجلة “المنار” رافعة لواء الإصلاح يومها.

واليوم بعد ما يقرب من قرن من الزمان، لست بصدد مناقشة ما قال شكيب ارسلان، كما لا يعنيني أنه أصاب أو أخطأ، بقدر ما يهمني أن هذا التساؤل لا يزال قائما إلى اليوم، أي أن المسلمين لم يستفيدوا مما قال الرجل وغيره في الموضوع، كما لم يُثبتوا خطأه إذا كان مخطئا؛ لأن هذا التساؤل ليس وليد اللحظة التي تساءل فيها “طالب جاوة”، وإنما كان مسبوقا بتساؤلات حركة الجامعة الإسلامية التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، وتساؤلات تجربة أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي وكتابه “طبائع الاستبداد” بعد ذلك، وتساؤلات حركة الإصلاح التي أسس لها الشيخ محمد عبده، متبوعة بتساؤلات حركات الإصلاح والاحياء كلها بجميع أذرعها المترامية الأطراف [الوهابية في الجزيرة العربية، الإخوان والحركة السلفية في مصر، جمعية العلماء في الجزائر والهند، الجماعة الإسلامية في اندونيسيا وباكستان بعد ذلك… إلخ]؛ بل كل ما أُنْشِئ من حركات وجماعات في إطار النهضة والإحياء الإسلامي والصحوة الاسلامية بعد ذلك كان يتلمس المسائل والمشكلات ليحاول الإجابة عنها ومعالجتها، وجوهرها بطبيعة الحال “لماذا تأخر المسلمون؟”؛ بل إن الحركات الاستقلالية السياسية القومية واليسارية كان يعنيها هذا التساؤلُ بحثا عن الحل لأزمات الأمة، وإن نهجت طريقا مختلفا في نظرتها للأزمة.

والعنوان كما وضعه صاحب الكتاب هو “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدَّم غيرهم؟”، وليس كما توارثناه وردّدناه على مر الأيام “لماذا تأخر المسلون وتقدَّم غيرهم؟”، والفرق واضح أن “لماذا” مكررة، والبلاغة تقتضي الاكتفاء بواحدة!، ولكن لا أظن أن مثل هذه اللفتة تغيب عن أمير البيان شكيب أرسلان رحمه الله، الذي هو ضليعٌ في اللسان العربي وفنونه؛ بل لقِّب بأمير البيان لتمكّنه من فنون آداب العرب.

وكأني به فصل بين لماذا الأولى ولماذا الثانية، لما بينهما من اختلاف؛ لأن ما تسبب في تأخر المسلمين ليس بالضرورة هو السبب في تقدم غيرهم، كما نتوهم نحن اليوم؛ إذ لكلٍّ أسبابه، هناك أسبابٌ للتأخر، وأسباب أخرى للتقدم، من حقّقها حصَّل ثمارها.

هل بلادنا مثلا تحتاج إلى الديمقراطية لمجرد أن غيرنا تقدَّم بها؟ ونحتاج إلى التكنولوجيا لأنها كانت سببا في تقدُّم غيرنا؟ ونحتاج إلى نهضة اقتصادية لأن غيرنا تقدم بالرفاه الاقتصادي؟ ونتخلى عن الدين لأن غيرنا تقدموا بتخليهم عنه…؟

وهل الغرب تقدم لمجرد أن الحضارة الاسلامية سقطت؟ وأن الأمة تخلت عن القيام بواجبها؟

يبدو الأمر هكذا في الظاهر، ولكن الحقيقة ليست كذلك؛ لأن ما تقدم به غيرنا ليس الثمار التي نراها اليوم مجسدة في الواقع، وإنما هناك أمور أخرى تجسدت قبل الديمقراطية والتكنولوجيا؛ لأن ما سبق الثمار التي يتمتع بها غيرنا من الشعوب المتقدمة، أن هناك انشطة قاموا بها، كانت سببا في نهضتهم وليس سقوط الحضارة الإسلامية، ولذلك لم تتقدم الشعوب الناشئة من غير المسلمين، وإنما تقدمت الشعوب النشطة والعاملة.

ما زاد عن ذلك يحتاج إلى تشخيص لواقع المجتمع والثقافة والحضارة، فربما كان الأمر سببا في نهضة مجتمع، يراه مجتمعٌ آخر سببا في التخلف، مثل الدين وممارسته في الواقع، لقد كان يمثل العمود الفقري لنهضة الأمة الإسلامية في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بينما في النهضة الغربية تقرر التخلي عنه واستبعاده من قيادة الحياة، هل المشكلة في الدين أم في المتدينين؟

إن فكرة التقدم والتأخر لها قاسمٌ نفسي مشترك بين جميع الأمم والثقافات والحضارات، وهي التي أشار إليها ابن خلدون في عرضه لكيفية سقوط الدول عبر أجيال متتالية، تعقب الجيل الأول الذي ضحّى فبنى بجد واجتهاد، المتمثلة في الجيل الثاني الذي يرث البنيان ولا يكون على علم بالجد والاجتهاد الذي كان عليه البُناة، فيجتهد في فهم ما نُقل إليه من معلومات وأخبار عن ذلك الجيل الذي لم يلحق به ولم يعرفه، أما الجيل الثالث فإن مستواه لا يرتقي إلى مستوى سابقه فيتحول إلى مقلِّدٍ لمن سبقه؛ لأنه يفقد الصلة بالبناة تماما ولكنه يُحدَّث عن إيجابيات المقلدين، أما الجيل الرابع وهو الوارث عن المقلدين فيفقد أهمية العلاقة بالسابقين؛ لأنه يرى ما بين يديه مستحق لا فضل فيه لأحد غيره. [مقدمة ابن خلدون] كما أشار مالك بن نبي رحمه الله إلى مراحل وأساسيات التقدم والتأخر في نهضة الأمم وفي بناء الحضارات في رسمه البياني المعروف الذي يبدأ بالدفعة الروحية –مرحلة البناة- ثم إلى استقرار العقل ورتابته –المجتهدون والمقلدون- وأخيرا السقوط عبر غلبة الغريزة –الحال التي يكون عليها “المستحقون!” [شروط النهضة].

ولكن ما زاد عن ذلك يحتاج إلى تشخيص لواقع المجتمع والثقافة والحضارة، فربما كان الأمر سببا في نهضة مجتمع، يراه مجتمعٌ آخر سببا في التخلف، مثل الدين وممارسته في الواقع، لقد كان يمثل العمود الفقري لنهضة الأمة الإسلامية في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بينما في النهضة الغربية تقرر التخلي عنه واستبعاده من قيادة الحياة، هل المشكلة في الدين أم في المتدينين؟

وهذا المشترك النفسي، هو الأساس في التعبير عن مقدمات التقدم والتأخر كما جاء في القرآن الكريم قول الله تعالى (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال 53]، فلا العلم ولا المال ولا الكثرة العددية تصنع النهضة والانتصار للمجتمعات، وإنما الجانب النفسي له، هو الذي يصنع المعجزات، قد يكون المجتمع لا يملك شيئا ولكن إيمانه بقضيته يحرك فيه الطاقة الكامنة فيحولها إلى منتج معين يكون سببا في الحركة والنهضة بعد ذلك بفضل ما يملك من قدرات نفسية عالية، وليس بالممتلكات المادية وكثرة البشر، مثلما هو الحال مع اليابان الذي لا يملك من المواد الأولية ما يرشحه للنهضة، ومع ذلك فهو اليوم في موقع ريادي،  كما قد يسقط المجتمع الغني عندما يفقد تلك الجذوة النفسية العالية، كما هو الحال في عالمنا العربي الذي انطلقت نهضته في نفس الزمن مع اليابان، فرغم تربعه على كم هائل من الثروات، لم يفعل شيئا لأنه فاقد للعامل النفسي والدافعية التربوية التي تصنع من اللاشيء أشياء لا تخطر على البال.

ولفهم المفعول النفسي للحراك الاجتماعي، يحسن هنا استحضار التجربة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، فلو نظرنا إلى واقع احتلال الشعب الجزائري من طرف الجيش الفرنسي لرأينا أن نسبة الأمية في بداية الاحتلال كانت صفرا، بينما الفرنسيون كانوا “يتمتعون” بقدر كبير من الجهل والأمية، ولكن المجتمع الجزائري من الناحية النفسية كان وجوده ضمن إطار أمة فقدت الكثير من مبررات وجودها واستمرارها بما طرأ عليها من القيم السالبة لفعاليتها، فرغم ما تتمتع به من علم وبطولات لم تستطع الصمود أمام القوة الحية الصاعدة رغم ما تحمل من أمراض وجهالات؛ لأنها وجدت في وسط ارتقى به مستوى الفاعلية إلى هذا القدر العالي من التضحية والإصرار على ذلك مهما كلفه الثمن.

ولما انقلبت الأمور في منتصف القرن العشرين وبعد 130 سنة من الاحتلال، نمت قوة جديدة وهي قوة الحركة الوطنية التي حققت استرجاع السيادة الوطنية.

والشعب الجزائري في الخمسينيات لم يكن يملك شيئا؛ بل لم يكن يملك سيادته على أرضه، وإنما يملك قوة نفسية عالية وإرادة على الفعل وإيمان بعدل قضيته، لم يمنعها الفقر والجهل من الإقدام، فأشعل حربا وحقق ما يريد في مواجهة أعتى قوة يومها وهي قوة الامراطورية الفرنسية، بفضل ما كانت تتمتع به الحركة الوطنية من صدقية وتضحيات عالية.

ويتفرع عن القوة النفسية التي ينبغي أن تتوفر في كل مجتمع يريد النهوض، قضايا أخرى تعبر عن هذه القوة، من نشاط متواصل وفاعلية دائمة وتضحية مستمرة، ويقابل هذا أن تكون الجهة المقابلة في مستوى من التراجع يمهد تلقائيا للهزيمة المنتظرة التي ستُحدثها القوى الصاعدة.

لقد تأخّر المسلون لأنهم تخلوا عن تلك القوة النفسية الدافعة، فضعُفت الهمم وانهارت القوى وضعُفت الفاعلية واستُبعدت التضحية من الحياة، وكما جاء في حديث القصعة “يوشكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعَى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: من قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنَّكم غُثاء كَغُثَاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قُلُوبكم الوَهْنَ، قيل: وما الوْهنُ يا رسول الله؟ قال: حُبُّ الدُّنيا، وكراهيَةُ الموتِ” (رواه أبو داود عن ثوبان). وصادف أن كان ذلك في وقت تحرك فيه غيرهم في اتجاه النهضة فعملوا على تغيير ما بنفوسهم فاختطفوا وسائل النهضة من غيرهم وأحدثوا التغيير وتقدَّموا.

مقالات ذات صلة