الجزائر
"فيسبوك" يتصدّر في مُمارسة الوعظ خلال السنتيْن الأخيرتين بالجزائر

دُعاة رقميّون.. من محراب المساجد إلى فضاء التّواصل الاجتماعي

نادية سليماني
  • 2125
  • 0
أرشيف

أتاح التحوّل الرّقمي وانفتاح المنصّات الإلكترونية، مُواكبة جميع فئات المُجتمع للتطور الحاصل بمن فيهم الدّعاة والمشايخ، الذين وجدوا في الرّقميّة فُرصة لتجديد الخطاب الدّيني، لما له من قدُسيّة وتأثير مُجتمعي بعيدا عن محراب المساجد ومنابرها، وبما يتناسب مع تطوّر “المُجتمعات الرّقميّة”. فكيف تحقق التفاعل بين الخطاب الديني وعملية التحوّل الرقمي؟ وما نوعية هذا الخطاب ليكون “رصينا” مُحققا رسالته بمنأى عن التعصّب والفتنة؟
ظاهرة “الدّعاة الجُدد” أو “الشيوخ مشاهير الرقمية” ظهرت في الجزائر منذ جائحة كورونا إثر إغلاق المساجد والمُصليات، فنقل أئمة نشاطهم إلى منصّات التواصل الاجتماعي ولكن باحتشام. وتطوّرت الظاهرة مع وجود أئمة ودُعاة شباب يفقهون في التطور التكنولوجي، فاستغلوا الوسائط المتاحة لاستقطاب جمهور أكبر من الجزائرييّن وحتى العرب، بعدما أنشؤوا حسابات إلكترونية وفتحوا قنوات رقميّة لإرشاد الشباب والتعبير عن رأيهم في قضايا مجتمعهم، وتوجّهوا نحو مخاطبة الشباب بلغته ومن منابره، أي عبر التكنولوجيات الاتصالية الرقمية، وكسبوا الرهان إلى درجة بات موقع ” فيسبوك” يحتلّ الصّدارة في الممارسة الدعوية السنتيْن الأخيرتين، بحسب دراسة جزائرية.

تواصلٌ رقميّ انتشله من إدمان 10 سنوات!
“نبيل. ل”، 35 سنة، يقف اليوم نادما على تضييعه أجمل سنوات عمره في لحظات إدمان زائفة زيّنتها له جرعات المخدرات، التي أدخلته في نشوة وهمية سُرعان ما سحبه منها شيخ واعظ.
الحكاية التي تنقلها “الشروق” على لسان صاحبها، انطلقت بعد إدمان “نبيل” على المخدرات من مختلف أنواعها وهو في سن الـ26، بإيعاز من أبناء حيّه بباب الوادي بالجزائر العاصمة، فأنهكه الإدمان نفسيا وجسديا ومهنيا، وهجره المقرّبون لسوء سلوكه.
ولأنّ المثل يقول: “أن تأتي مُتأخراً خير من ألا تأتي أبداً”، فمنذ سنة وبينما كان الشاب عائدا إلى منزله، شاهد تجمّعا شعبيا في حيّه كان عبارة عن ندوة إرشاديّة دينية نظمها أئمة للتحسيس من خطر المخدرات.. ووجد “نبيل” كرسيا فارغا فجلس.. وقال عن هذه اللّحظة: “جلستُ لتمضية الوقت لا غير.. لكنني انجذبتُ إلى كلام الشيوخ عن خطر المخدرات، وحفّزتني دعوتهم لعلاج المدمنين مجّانا”.
بعد انتهاء الندوة، عرض “الشيخ علي” على الحاضرين متابعة دروسه عبر “فيسبوك” للاستفادة أكثر.
ومن هنا بدأت رحلة الشاب مع “العلاج الرقمي”، إذ تواصل مع الشيخ علي الذي عرّفه على مختص نفساني قدّم له علاجا سلوكيا ونفسيا وساعده على دخول مركز علاج من الإدمان ببلدية شراقة. والنتيجة خروج محدثنا من نفق الإدمان الذي دخله منذ 10 سنوات كاملة.
ويقول متحسرا على ضياع سنوات عمره وصحّته: “ندمتُ على كل يوم تعاطيتُ فيه المخدرات، وعلى عمر خسرته ولم أنجز بحياتي شيئاً”.
قصة محدّثنا، لا تختلف كثيرا في تفاصيلها عن قصص عشرات بل مئات الشباب الجزائرييّن الغارقين في عالم الانحراف، والباحثين عن قطرة أمل في بحر الضياع، وكثير منهم وجد الخلاص في الدروس الدينية والمواعظ التي تُبثّ عبر منصات التواصل الاجتماعي، بعدما كانت مُقتصرة على روّاد المساجد فقط.
وتنبّه عشرات الشيوخ والأئمة في الجزائر مؤخرا، إلى أهمّية وُلوج عالم الشباب “العازفين” عن المساجد، مادام التواصل الرقمي متاحا للجميع، وإن حصل اختلافٌ في الأمر.
فئة تستنكر وضع الدين و”الرقمية” وحتى الذكاء الاصطناعي في جملة مفيدة واحدة داعين إلى الفصل بينهم، لأن التحول الرقمي– بحسبهم- قد يتسبب في تمييع الدين ويفتح المجال للتعصب والتطرف. وآخرون يرون بأن الرقمية خدمت الدين بعدما أخرجته من محراب المساجد إلى فضاء الشبكة العنكبوتية، فاستفاد منه ملايين الأشخاص.
“الشروق” التقت أئمة باتوا مشاهير على الرقمية ولهم جماهير عريضة بلغت عشرات الآلاف، لاختيارهم مخاطبة الناس بلغة سهلة ومفهومة. فما هي عناصر تفوُّق خطابهم الدّعوي وسرّ الإقبال الشعبي الشّبابي على دروسهم؟

دروسنا “الرقمية ” فرضها واقعنا المعيش
الشيخ الطاهر ضروي من مواليد 1972 بالجزائر العاصمة، متحصل على دكتوراه حفظ القرآن، طلب العلم وأنواع العلوم الشرعية على يد مشايخ وأئمة وأساتذة بالجزائر والمدينة المنورة ومكة ودمشق، عمل إماما متطوعا بزرالدة إلى 1999، ثم التحق بالمعهد الوطني لتكوين إطارات الشؤون الدينية والأوقاف، وتكوّن إماما خطيبا مُعيَّنا منذ 22 سنة بمسجد “فتح القلوب” بوادي الرّمان بلدية العاشور، وهو اليوم برتبة إمام أستاذ رئيسي.
الشيخ ضروي اسمه مشهور على “فيسبوك” و”يوتيوب” بفضل دروسه الدينية حول مختلف ظواهر المجتمع التي تلقى رواجا وتفاعلا كبيرين.
يقول عن تجربته الرقمية لـ”الشروق”: “كنا نقدّم دروسا للعشرات من مرتادي المساجد من الذكور غالبا، أما اليوم فمتابعونا بالآلاف من مُختلف الشرائح والأعمار ومن الجنسيْن ومن مختلف الدول”.
وقال إن صوت الدعاة والشيوخ وفي ظل التطور الرقمي، بات يصل ويحتضن جميع أطياف المجتمع من المصلي وغير المصلي، المرأة المتحجبة والمتبرجة، القاطن بالجزائر وللمغتربين”، وهذا دليل- بحسبه- على انتشار الدروس الدينية بالاستعانة بالوسائل التكنولوجية العابرة للقارّات.

11 ألف مشاهدة لدروس 15 يوما رمضانيا
أعطانا الشيخ ضروي مثالا متعلقا بالإحصائيات الرقمية لـ15 درسا دينيا ألقاه خلال شهر رمضان المنصرم عبر تقنية البث المباشر، ووصل عدد المتابعين اليومييّن لدروسه كاملة إلى 11 ألف مشاهد من فرنسا فقط، وهذا الرّقم يملأ 5 مساجد مُكتظة عن آخرها، على حد قوله.
والأسئلة التي يتلقاها الشيوخ عبر مختلف المنصات الرقمية وعبر تقنية “الخاص” هي “جريئة” لأنها مباشِرة ومفصّلة لا حياء فيها، بحسب المتحدث، منها قصص لأشخاص غارقين في معاصي وأخرى لتائبين، ومنها اعترافات مذنبين ومذنبات، وأسئلة حول مشاكل خاصة بعيدا عن الفتوى والمسائل الفقهية.
وذكر الشيخ ضروي، أن ما يُميِّز الدروس الدينية عبر “السوشل ميديا” هو تحوُّلها إلى استشارات نفسية أكثر منها شرعية، عكس دروس المسجد التي يتلقون فيها غالبا أسئلة فقهية أو استشارات بسيطة من الحاضرين في الدّرس.

الرقمية أدخلتنا البيوت من أبوابها الضيقة
عيّنتُنا الثانية هو الإمام وخطيب مسجد معاذ بن جبل ببلدية بئر مراد رايس بالجزائر العاصمة، متحصل على ماستر في تخصص مقارنة الأديان، الشيخ تميم بن شطارة أبو رقيّة، الذي تعوّدنا على صورته وصوته عبر منصات التواصل الاجتماعي.. يقول إن الهدف من ولوج رجال الدين إلى الرقمية، هو الدخول للمنازل من أبوابها الضيقة المغلقة، مستهدفين إصلاح الأسرة وتنبيه أفرادها وتعليمهم أمور دينهم، باعتبارها نواة المجتمع.
وتحقيق هذا الهدف، يتوقف حسب قول تميم بن شطارة لـ”الشروق”، على نوعية اللغة والأسلوب الذي يتبعه رجل الدين عبر عالم الرقمية الذي يدخله المثقف والعامّي، وذكر: “لابد من الانتقال من لغة العلم في الخطاب الديني إلى لغة الواقع أو اللغة الشّعبوية والعامّية حتى نمسّ جميع فئات المجتمع”.
وهنا تتحول الرقمية، بحسب قوله، إلى سلاح ذي حدّين، فهنالك شيوخ خدمتهم الرقمية بفضل أسلوبهم الذكي في توصيل الخطاب الديني، وآخرون استغلوها لأغراض شخصية مستعينين بالتمييع في خطابهم.
وتختلف المواضيع التي يطرحها “دعاة الرقمية” بحسب المُستجدات الحاصلة في المجتمع وبحسب طلبات المتابعين، وعنها قال الشيخ تميم “نتحدث في موضوع الزواج والطلاق، وحول المعاملة بين الزوجين، وحول علاقة الأهل والأبناء والعجوز وكنّتها، وحول الصراع على الإرث وقطع الأرحام، وعن الخيانة الزوجية.”
وذكر أنه في بداياته على “الرقمية” طرح فيديو تطرّق فيه لظاهرة انتشار العلاقات غير الشرعية، ومُصاحبة الفتيات شبابا سنين طويلة على أمل الزواج تحت عنوان “الّي يبغيك ما يبْقاش يجرّي فيك”، وهذا الموضوع لقي تفاعلا كبيرا جدّا على الإنترنت.

أسئلة أكثر جرأة وتفصيلا
ويكشف الشيخ تميم أن المواضيع التي يطرحها الأئمة “رقميا” ولأنها تكون أكثر جرأة، فهم يتلقون هجوما من مُعارضيها، قائلا: “نتلقى هجوما، لأنّ الأفكار تتناطح فيما بينها وتختلف قناعات الأشخاص، وهي سنة الله في الكون.. فمثلا عندما أتطرق إلى موضوع حدود المرأة في الإسلام، تهاجمني في التعليقات بعضُ الجمعيات النسوية وتصفني بـ”حقّار المرأة”، وإذا تحدثتُ عن حب الوطن أتَّهم بأنني “شيّات”، وإذا أثنيت على عملية بناء مسجد ما يظهر من يقول: ابنوا مستشفيات ومدارس أفضل.. ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك”.
وعن تقييم إمام مسجد معاذ بن جبل لتجربته حول تقديم الخطاب الديني “رقميا”، فهو يرى بأنها تجربة فرضها واقعنا المُعاش، وحتّم علينا توصيلها بلغة الواقع أو باللغة الشعبوية.

من العلميّة إلى العاميّة
وبحسب الشيخ تميم، فإنّ من إيجابيات هذه التجربة الرقمية، وصول الفكرة إلى آذان المستمعين بلغتهم المُعتادة، فلا يستشكلون الكلام، أمّا أعظم سلبياتها ففي صعوبة نقل المصطلحات العلمية والشرعية، أو الفكرة العلمية في حدّ ذاتها إلى قالب اللغة المتعارف عليها بين الناس، لأنّ الفكرة العلمية تحتاج أن يُؤتى بها كما هي، والصّعوبة هي كيف يستطيع المُتكلّم تحويلها من البناء العلمي إلى فكرة يفهمها العامّي وغير العامّي، لأنّ الفكرة الدينية في العموم تحتاج إلى مُستوى في الفهم واطّلاعا على علوم الشريعة.
ومع ذلك، أكد الإمام تميم بن شطارة، أن الدّرس الديني له قُدسيته ولا يخرج به عن طور الآداب والشرع، ولذلك يحاول محدّثنا جاهدا إيصال المادة العلمية بلغة دارجة حتى مع إدخال جو من الطرفة أحيانا، لأن ديننا فيه فسحة، وقال: “الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتقاذفون بالبطيخ، ويوم الجدّ والاجتهاد كانوا رجالا أشداء، فنحن نراعي حال المخاطَب فنُدخل النكتة لنرطّب جوّ الدعوة وهذا من محض الدّعوة إلى الله، والمادة العلمية تكون ثقيلة فنحاول ترطيب الأجواء”.
بينما استنكر دعوة البعض إلى التزام دعاة الرقمية بنموذج معين في تقديم الخطاب الديني، وهذا– بحسبه- مخالف للاجتهاد في الدين، لأن المهم في الخطاب الديني هو عدم الخروج عن مضمون المادة العلمية.

كسرنا الحواجز بين رجل الدين والمنحرفين
ومن الدّعاة مشاهير الرّقمية المدعو محمد فليسي، وهو مختص في علم الاجتماع الديني، الذي أخذ على عاتقه مهمة توعية الشباب وإرشاد العائلات وتقديم نصائح حتى داخل المدارس والثانويات والجامعات، ولأن جميع خرجاته ودروسه منقولة على مواقع التواصل الاجتماعي، فيتابعه الآلاف وبات اسما معروفا على “الإنترنت”.
وتعدّ السيرة الذاتية لمحمد فليسي غنية، فهو حاصل على شهادة ليسانس شريعة إسلامية، وليسانس في علم النفس العيادي، ويملك ماستر في العلاج المعرفي السلوكي، إضافة إلى نشاطاته الجمعوية، فهو داعية متطوع ومشرف على مدرسة قرآنية مدة سنوات طويلة، وهو صاحب مكتب استشارات نفسية وأسريّة.
يقول فليسي لـ”الشروق” عن تجربته في الدروس الدينية الرقمية، إنها “ثرية جدا” وتستهدف شرائح أكبر وأوسع في المجتمع، ويتم التطرق فيها لمواضيع جديدة.
وقال: “الإيجابي في التواصل الرقمي، هو كسر الحواجز بين رجال الدين والمواطنين، وبات تواصلنا معهم مباشرا، خصوصا مع الفئات التي لا تدخل إلى المساجد، خاصة المنحرفون”.
وبحسب محدثنا، فإن بعض دروسهم الدينية التي كانوا ينظمونها في أحياء شعبية تحضرها أعدادٌ قياسية من المواطنين، بسبب شهرة الشيوخ على الإنترنت. أما السلبي في عملية التواصل التفاعلي مع المواطنين، فهو أن بعض الندوات الإرشادية المفتوحة يحضرها شباب في حالة إدمان أو سكر ويتقدمون إلى الشيوخ ويلتقطون صورا معهم، وكثير منهم باتوا من رُواد المساجد لاحقا، كما يحضر إلى الندوات المباشرة أشخاص مخالفون في الرأي، وهذه السلوكات لا نجدها في المسجد.

مساحة أكبر للغة الخطاب الديني
الأمر الإيجابي الثاني في التواصل الرقمي، يؤكد فليسي، هو منح مساحة أكبر للغة الخطاب الديني “الذي بات يتضمن عبارات شعبية كنا نتحفظ على قولها داخل المساجد، فبتنا نردّدها وبكل أريحية في الشارع وعلى التواصل الرقمي، وأصبحنا نناقش المواضيع الدينية بطريقة سهلة وسلسة، وأصبحنا دعاة نجوما بسبب تقنية نشر الفيديوهات وتبادلها على أوسع نطاق، والتي تجلب ملايين المشاهدات وملايين المستفيدين من هذه الدروس”.
وهذه المشاهدات الكبيرة، يقول المتحدث، هي أبلغ رسالة خير للمجتمع، لأن الخطاب الديني الرقمي والتفاعلي انتشل عشرات الأفراد من طريق الضياع والانحراف.
وأجمع الشيوخ الثلاثة في خلاصتهم، على أن الفضاء الإلكتروني وحتى الذكاء الاصطناعي والذي بات يطرق أبواب الدعوة الدينية، سيكون نقطة فارقة في خدمة الخطاب الديني الرشيد، في ظل انتشار بعض الظواهر الشاذة والخطابات التي تدعو للكراهية وتزيد من توغل المتطرفين في المجتمع.

زواغي: الخطاب الديني تكيّف مع التكنولوجيا.. ونخشى التمييع
يعتقد الكاتب والإعلامي والمهتم بالتكنولوجيا والدين، عبد العالي زواغي أن بروز عدد من الأئمة كمؤثرين على منصات التواصل الاجتماعي، يأتي في السّياق العامّ الذي أوجدته هذه الوسائط الاتّصالية، والذي يتميز بهجرة جماعية للناس إليها من مختلف الشرائح والهرميّات. وباتت واقعا ثانيا تحدث فيه نفس التفاعلات والمعاملات التي تحدث في الواقع الحقيقي وإن كانت بدرجات مُتفاوتة.
وقال زواغي لـ”الشروق”: إن الوسائط التكنولوجية قادت إلى تكيف الخطاب الديني عموما معها، وتسخيرها لإيصال المضمون الديني والدّعوي لمرتادي هذه الوسائط “فهو يتشكل فيها وبها، ونحن في البدء نؤمن بالقاعدة الشهيرة: الوسائل تأخذ أحكام المقاصد”.
وهؤلاء الأئمّة، بحسبه، لاسيما إن كانوا معروفين بعلمهم الذي يُطابق المرجعية الدينية والمذهبية في الجزائر، ومشهود لهم بالكفاءة الدّعوية “لا ضرر من اقتحامهم مواقع التواصل الاجتماعي وممارسة الدعوة بالأسلوب الذي يفهمه مُرتادوها ويؤثر فيهم تأثيرا حسنا، على مستوى الفهم الصحيح للدّين أولا”.
وكذلك يجب أن يحملهم على التحلي بالسلوك القويم المترجم لهذا الفهم عوضا عن ترك الساحة لأشخاص مغمورين وغير معروفين من حيث الارتباط والولاء، يتّخذون هذه المواقع لبثّ سمومهم وإشاعة الفوضى الدينية والمذهبية، التي لا تأتي بخير أو من خلال التضليل والتدليس على الناس، من خلال استغلال التقنيات الحديثة والخدع البلاغية، على حدّ قوله.
وأضاف المُهتم بالتكنولوجيا والدّين، إلى وجوب التنبيه إلى ضرورة أن لا يتجه هؤلاء الأئمة والدعاة إلى “تمييع كبير للخطاب الديني، ولا تسطيح مخلّ بلغة هذه الخطاب وأسلوبه، بحيث يؤثر على إدراك المتلقي تأثيرا سلبيا ويقود إلى عكس ما يريده الداعية والإمام، واللغة العربية غنية بالمفردات القريبة إلى فهم الناس من أجل تقريب الفكرة إليهم”.

التهكّم والهزل لجذب المُتابعين.. مرفوض
واعتبر زواغي أن الموضوعات والمجالات المركزية المهمة في دين ودنيا الناس “لا يجب تناولها بنفس الأساليب التي يتم التطرق بها عادة إلى مواضيع هامشية وغير ذات أهمية كبيرة، كأسلوب التهكم والهزل لجذب عدد من المتابعين والمعجبين”.
وخلص زواغي، إلى ضرورة مسايرة الدعاة والأئمة للتيار الجديد الذي نتج عن العصر الرقمي، باعتبارهم قادرين على توجيه الرأي العامّ لما له من تأثير قوي على المتلقي، وذلك عبر الاستغلال الصحيح لوسائل التحول الرقمي واستثماره بُغية إيصال رسائل إعلامية سريعة وفق خطاب ديني اجتماعي مدروس بعناية، لحماية المجتمع وإعلاء قيم الدين، ومن ثم خلق حصانة أمنية فكرية ضد الدعاية المعادية والمسيئة للدين وقيم المجتمع. وباختصار عليهم أن يؤثروا فيه لا أن يتأثروا بانعكاسات التحول الرقمي وسلبياته ومنها “مرض الشهرة” الذي ابتلي به الكثير.

نخشى السير بالدّين نحو الابتذال!
ولأن وظيفة الخطاب الديني هي تبليغ دعوة الله تعالى إلى الناس لتكون منهج حياة لهم، وحتى يؤدي هذا الخطاب وظيفته هذه، فلا بد من أن تتوفر فيه مجموعة من السّمات التي تمكّنه من ذلك وتجعله أكثر إقناعاً، وأهمها الربّانية والواقعية والعقلانية والترفع عن البذاءة، وهذا ما ذهب إليه الرأي الثاني، الداعي إلى أن يكون لدعاة الرقمية إلمامٌ بأمور الدين وفقهه، ولا يجتهدون في ما ليس لهم فيه.
وهو ما ذهب إليه المتخصص في علم الاجتماع الديني، أحمد بن العربي عبر “الشروق”، مشددا على ضرورة استناد الخطاب الديني الرقمي إلى مصادر التشريع الإسلامي من قرآن كريم وسنة نبويّة، وقدرة الدّاعي على التكوين والتوجيه والتغيير والتعديل، واحتواء أزمات المجتمع أو التخفيف من حدّتها.
وذكر بن العربي أن كثيرا من دعاة الرقمية وأصحاب الفكر التجديدي باتوا يتعرضون لهجوم حتى من مشايخ دين آخرين، متخوفين مما يعتبرونه “السير بالدين نحو الابتذال، والانحراف به من الوسائل التقليدية إلى فضاءات رحبة وواسعة جدّا لا رقيب فيها ولا حسيب إلاّ الضمير. وهو ما يبث التخوف من بث السمّ في العسل، عن طريق نشر أفكار وإيديولوجيات دخيلة على المجتمعات الإسلاميّة”.

سليم محمدي: نشجع اجتهاد أئمّتنا لمعالجة مشاكل مجتمعنا
ومن جانبه، قال الإمام الخطيب سليم محمدي، بأن نشاط الدعاة والأئمة عبر الفضاءات الرقمية ليس “عشوائيا ودون ضوابط، وإنما هو مراقب من أجهزة رقابة ترصد المخالفات، التي يمكن أن يقع فيها هؤلاء وتتسبب في فتن وتثير نعرات بمجتمعنا”.
ومع ذلك، أكد محمدي أن غالبية الدعاة المشهورين على منصات التواصل الاجتماعي حاليا هم “أئمة ملتزمون.. نحن نشجع اجتهادهم لما فيها من معالجة أمور الشباب ومشاكلهم، ولحدّ اللحظة لم نسجل تجاوزات، ما يجعل ظاهرة دعاة الرقمية محمودة وهي ظاهرة نشجعها لأنها استهدفت فئات جديدة في المجتمع”.

محمّد الشيخ: هذه مزية إيجابية لا يصحّ إنكارها
ومن جهته، اعتبر الإطار السابق بوزارة الشؤون الدينية، الدكتور محمد الشيخ، أن الخطاب الدّيني وجد فضاء جديدا فيه مساحة أكثر وُسعا، لأن المسجد له روّاد محدّدون، أو لنقل له فئة من المجتمع عُرفت بصلاتها، أما غير المصلي أو غير مرتاد المسجد فلا يمسّه الخطاب الديني ولا يصله صوته، أما الفضاء الإلكتروني فشامل لكلّ أطياف المجتمع، وتلك مزية إيجابية لا يصحّ إنكارها.
وأضاف في تصريح لـ”الشروق” أنه لا بدّ من القول بأن فضاء الرقمية مفتوح على مصراعيه لكل من أراد أن يقول ما شاء ولا ضابط له، وفيه تختلط الكلمة الحق بالكلمة الباطلة، وفيه يزاحم سقيمُ الأقوال صحيحها، وقد يولّد ذلك شيئا من الاضطراب لدى العامة من الناس.
وقال محمد الشيخ إن هذا الفضاء مفتوح ولا خيار في تركه أو غلقه، ومع وجود السلبيات لا يصحّ أن تكون دافعة إلى تركه، بل إن استغلاله بالكلمة الطيبة من الأئمة والأساتذة والتوجيه السليم منهم، ومواكبتهم للتطوّر الرقمي الحاصل في المجتمع، أمر ضروري لا مناص منه، بل إنه من فقه الدين.
وأما استعمال العامية بالقدر الذي يحتاج إليه، “فالمصلحة دافعة إليه، لأن الغرض إنما هو إيصال الخطاب، وقد لا يصل أحيانا أو في مناسبات إلا بالعامية”.
أما إدخال النكت والمزاح في الدروس الدينية، فالأصل فيه بحسب محدثنا هو “الإباحة والجواز، ما لم يخرج الخطيب أو الشيخ أو المدرّس بذلك عن هدفه الديني، ليتحوّل إلى “مهرّج ديني” يفقد بمزاحه ونكته هيبة الدرس الديني والموعظة”.
وليكن المزاح والنكتة في الدرس كالملح في الطعام، لا يحتاج فيه إلا لكمية قليلة، لأن كميته التي تزيد فيه على الحدّ المطلوب تفسده.

نخشى “فراغ” المساجد من روّادها لصالح “الرّقمية”
بينما يرى أستاذ علم الاجتماع الديني، رشيد بوسعادة، بأنه ليس كل من يصعد المنبر هو خطيب يصح له نشر دروس دينية على الإنترنت، فلابد من أن يكون صاحبها مُتمكّنا في الدّين وورعا ومشهود له بالكفاءة يتكلم لغة الأمة، كما لا يُمكن أن نبتذل على القضايا الفكرية.
وذكر بوسعادة عبر “الشروق” بوجود جوانب إيجابية وأخرى سلبية في ظاهرة الخطاب الديني الرقمي، “فمن سلبياتها إمكانية تسببها في ابتعاد الناس عن المساجد أو تقديم صاحبها آراء خاصة، ليست بعلمية دقيقة ولا من واقعنا”، مُشددا على ضرورة أن تكون للإمام مكانة علمية ومتبعا للتيار الفكري والمذهب المالكي، الذي تلتزم به الأمة الجزائرية في ظل وجود تيارات دخيلة على مجتمعنا.
وقال: “ليس كُل من هب ودبّ، يمكنه تقديم دروس دينية للمواطنين.. فنحن نريد لمجتمعنا الاستفادة من دور المساجد التي تقدم دروسا مراقبة، بعيدة عن الفتن والتعصب”.
ويرى بأن الدروس الدينية التي تُقدم في المساجد فيها جانب ديني واجتماعي، وتكون بأسلوب لغوي بسيط يفهمه المواطن العامّي والمثقف، وتحاكي الواقع وتتأقلم مع جميع الظروف والأحداث والمناسبات التي تعيشها البلاد، أي إنها تراعي الزمان والمكان والحاصل في المجتمع، عكس بعض الدروس الدينية الرقمية التي لا يهم مضمونها الأمة الجزائرية.
ليخلص بوسعادة إلى أن ظاهرة الخطاب الديني الرقمي “جيدة، ولكن عيوبها كثيرة، أهمها الخشية من نفور الناس من المساجد فتصبح فارغة”.
والخلاصة، أنّ نشر الخطاب الدّيني على الفضاء الإلكتروني، يحتاج إلى استخدام رشيد ومنضبط، مع التنبيه الدائم من مخاطر استغلاله السيئ. فالخطاب الديني جزء مهم في حياة الأفراد، فعلى شيوخ الدعوة الإلكترونية مسايرة طبيعة العصر الحالي، ولكن وفق ضوابط وآليات وتكامل بين جُهد الدعاة عبر الوسائل التقليديّة من خطب الجمعة ودروس المساجد، وفتح نوافذ إلكترونية دعويّة لاستهداف الفئات المبتعدة عن المساجد، مع الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي الذي أصبح واقعا لابد من تقبله في مجال الدّعوة، بدل تركه مفتوحا لمن يستخدمه لهدم ثوابت الأمة.

مقالات ذات صلة