الرأي
في الذكرى الثامنة لنسف أبراج 11 سبتمبر

دروس بداية التأريخ لأحجية نهاية التاريخ

حبيب راشدين
  • 5901
  • 0

فيما الأمريكيون والغربيون منشغلون باستخلاص الدروس والعبر من حرب المرابين على اقتصاديات العالم، ويذرف زعيمهم الجديد أوباما دموع التماسيح عند أطلال الأبراج التي أسس بنيانها على شفا جرف هار.

يحسن بنا  في الذكرى الثامنة لأحداث 11 سبتمبر، أن نقف عند بعض الدروس من هذه المواجهة التي فرضها علينا الغرب، ودارت رحاها على شعوبنا، ثم لا ننسى أن بين الشرق والغرب ما يسميه المؤرخون بالمسألة الشرقية التي دشن فصولها الدامية الإسكندر  الأكبر المقدوني وانتهت إلى قيادة بوش الصغير  المعمداني الذي زعم أن الرب يكلمه. 
من يستطيع اليوم الإدعاء أن الشعوب غير قادرة على تغيير مسار التاريخ لصالحها، بعد الذي جرى في السنوات الثماني التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر؟ ومن يكابر اليوم حيال حقيقة الهزائم التي لحقت بقوى الاستكبار في أكثر من مواجهة ومن ساحة، حين انطلقت القوة العظمى الأوحد، مثل الفيل الشارد داخل دكان خزف، تريد الانتقام من أمة عريقة، على أفعال لم يثبت حتى الآن أن جماعة من أبناء الأمة الإسلامية كانت وراءها؟ وهل يحق اليوم لتلك النخب الخائرة في العالمين العربي والإسلامي، أن تتمادى في التسويق لأساطير الامتثال للأمر الواقع، والتسليم لأحكام موازين القوة، والتنازل عن الحقوق الطبيعية والمشروعة للشعوب؟ وأين نحن اليوم، بعد مرور ثماني سنوات على الاجتياح الصليبي الغربي لأفغانستان، وست سنوات على دخول جحافلهم عاصمة الرشيد، أين نحن من خرافة إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير، كما زعمت كوندليزا رايس، يوم كانت القوات الصهيونية تجتاح لبنان مجددا، قبل أن تقبر أحلامها فئة قليلة من المقاومين مرتين في لبنان وفي غزة؟

 .
 
من أوربان الثاني إلى أوباما الأول 
سوف ندع للغربيين مسؤولية تقييم حصيلة هذا العدوان المفتوح على أمة، تشكل ربع سكان المعمورة. ولهم أن يستخلصوا ما شاءوا من الدروس والعبر، ولنا أن نستخلص الدروس والعبر في سياق التدبير لإدارة المواجهة المستمرة مع الغرب، والتي لن تتوقف بخروج الجيوش الغربية من العراق وأفغانستان، ولا حتى باستعادة الفلسطينيين لحقوقهم المشروعة، أو حتى بزوال الكيان الصهيوني المبرمج في منطق التاريخ، إن عاجلا أو آجلا. 
ففي كل ساحة من ساحات المواجهة المفتوحة، أكثر من درس وأكثر من عبرة، وقد تعرّت لنا فيها مواطن الضعف ومواطن القوة عندنا وعند الخصم، وتكشفت لنا البطون الرخوة في هذا الجسم العربي الإسلامي المترامي الأطراف، وسقطت أوراق التوت عن مكامن الخيانة، ومرابض طوابير العمالة التي تقاول من الداخل ضد مصالح الأمة، كما تعرّت لنا سوءات الكثير من الخيارات والمقاربات التي ضللت الشعوب وقادتها إلى متاهات.

 .
  
المحاكمة المستحيلة لمدبر جريمة 11 سبتمبر 
لا يمكن بحال من الأحوال، ونحن نستعيد ذكرى أحداث 11 سبتمبر، أن نمر مر الكرام على التهمة التي ألصقت بالعرب والمسلمين دون قرينة أو بينة حتى الآن. فقد رأينا كيف عجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها، حتى اليوم، عن إدارة محاكمة واحدة يساق إليها متهم واحد أو أكثر من أبناء الأمة المتهمة، واحراجه وأحرجنا  معه، بسيل مقنع من الأدلة والقرائن. وحتى لو نجحوا في ذلك، فإن إثبات التهمة على فرد أو جماعة، ما كان له أن يتخذ ذريعة لتبرير ذلك العدوان الغاشم وغير المسبوق على حرمات أمة، واستباحة أراضيها وسيادة دولها، كما فعل الغرب مع المسلمين في أفغانستان والعراق. وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، فإن العدوان القائم حتى اليوم على شعب أفغانستان، وشعب العراق، واستهداف مئات الآلاف من المسلمين سوف يسجل ضد الغرب كجرائم ثابتة غير مبررة، تحتفظ الشعوب العربية والإسلامية بشأنها بحق المطالبة اللاحقة بالقصاص، وفي الحد الأدنى حقها في الاعتذار والتعويض المادي والمعنوي، سواء اليوم إن شاء الغرب أن يكفر بمحض إرادته عن جرائمه، أو يساق إلى مثله وهو صاغر، متى استوفت الأمة شروط القوة، التي تحمي حرمات الأمة وأبنائها. 
غير أنه، وفي انتظار ذلك، فإنه حريّ بنا أن نستخلص من هذه العدوانية الغربية على الأقل درسا واحدا لا سبيل إلى تجاوزه، أو صرف النظر عنه، أبسط تعبير عنه، أنه ما كان للولايات المتحدة الأمريكية أو للغرب التطاول على بلد عربي أو مسلم، واستباحة الأرض والعرض كما فعلت، لو لم تكن دولنا ونخبنا على ذلك القدر من الضعف والهوان، ومن التساهل في حقوق الشعوب، مع ضعف بين في إدارة الصراع، وتضييع للحد الأدنى من التضامن فيما بينها، وسوء التقدير في اختيار الأصدقاء والحلفاء، والخروج عن المبدإ القرآني الذي حذر الأمة من مغبة موالاة غير المسلمين، وقد تعلمنا عبر القرون الخمسة عشر الماضية، أنهم لا يرقبون في الأمة إلاًّ ولا ذمّة متى استأنسوا لضعف فيها.

 .
  
من الأسكندر الكبير إلى بوش الصغير
العدوان على أفغانستان تحت مظلة الأمم المتحدة، قبل أن يفتضح كعدوان لدول الحلف الأطلسي، هو الأول من نوعه منذ تأسيسه، بدأ كحملة انتقامية من حركة طالبان، التي رفضت تسليم قادة القاعدة المتهمين بأحداث 11 سبتمبر، قبل أن يتحول إلى غزو استعماري لدولة مسلمة، له أهداف غير الأهداف المعلنة، كان سينفذ حتى من دون حاجة إلى ذريعة، بل يتضح أكثر فأكثر أن البحث الجاد عن الجاني الحقيقي، ومدبر تفجيرات نيويورك وواشنطن، أو الآمر بها، ينبغي أن يتوجه صوب الجهة المستفيدة من الحروب الإمبريالية التي اتخذت منه ذريعة. وإذا كان لابد لنا من دروس تستخلص من العدوان على أفغانستان، فمن الواجب على الأمة أن تتعلم كيف تقرأ الواقع الجيوسياسي على الدوام، وتنتبه إلى المواطن من العالمين العربي والإسلامي التي تتقاطع فيها مصالح الدول الكبرى، كساحات محتملة للعدوان.
 لا أحد ينكر أفغانستان، هي من أكثر دول العالم فقرا، ليس فيها أي مورد قد يسيل لعاب قوى الاستكبار. فلا نفط ولا غاز، ولا ذهب ولا الماس، ولا أي نوع من المعادن النفيسة، أو الموارد الطبيعية التي قد تبرر حربا مكلفة كهذه، والتي يخوضها الحلف الأطلسي منذ ثماني سنوات، ويتحمّل كلفها وأعباءها. لكن أفغانستان كانت وما تزال دولة مفصلية في لعبة الأمم في هذه المنطقة التي شهدت أكثر من صراع إمبراطوري، منذ الأسكندر الأكبر وحتى بوش الصغير، وكان يفترض من نخبها أن تعتبر بدروس التاريخ، وتكون على الدوام على حذر، هي وجيرانها من الدول الإسلامية.
الدرس الثاني من أفغانستان، هو درس للدول الإسلامية الجارة: باكستان وإيران، فلا الصداقة الباكستانية مع الغرب شفعت لها، ولا أفادها امتلاك سلاح نووي في الحفاظ على سيادة دولة مسلمة جارة، هي جزء من الأمن القومي لباكستان. كما أن تواطؤ إيران، باعتراف قادة الجمهورية الإسلامية، لم يعد عليها بفائدة تذكر، بل صارت إيران محاصرة من جهة الشمال والغرب بقوات غربية قد تنقض عليها في أي وقت، وقد ثبتت القوى الغربية الحق في إقامة قواعد عسكرية دائمة.

 .
  
فصل جديد من حرب استرداد قديمة
وفي العراق، يكون حريّ بنا أن نتوقف أولا عند البعد الصليبي الصهيوني للعدوان الذي استباح عاصمة الرشيد، وأذلّ عموم العرب والمسلمين، وفي طليعتهم الشعوب والدول الجارة للعراق التي راهنت طوال نصف قرن على صداقة كاذبة مع الولايات المتحدة والغرب. 
فقد حاول بعض أبناء جلدتنا إيهامنا أن الغزو كان بدافع السيطرة على منابع النفط والتحكم فيه، وقد نسلم جدلا أنه كان فعلا هدفا من الأهداف، حتى وإن كانت كلفة العدوان حتى الآن تفوق بكثير ما سوف تجنيه الولايات المتحدة من السيطرة المباشرة على كامل نفط العراق. كلفة بشرية ومادية غير مسبوقة في أي حرب إمبريالية سابقة، فضلا عن كلفتها على صعيد القوة الناعمة التي تآكلت أمام مقاومة الشعب العراقي. ولا أعتقد أن الولايات المتحدة كانت على استعداد، هي وحلفاؤها، على دفع هذه الفاتورة، لو لم تكن تضمر أهدافا أخرى أكبر وأعظم، ومنها توجيه ضربة قاصمة لقلب العالمين العربي والإسلامي، وموطن دار الخلافة الإسلامية، التي أعلت شأن المسلمين، وكانت مهدا لقيام حضارة عربية إسلامية أنارت العالم لأكثر من ثمانية قرون. فالبعد الصليبي كان حاضرا، باعتراف الرئيس بوش الابن، وما هو متداول في أدبيات اليمين المسيحي في الولايات المتحدة وعموم أوربا، ولا سبيل إلى إنكاره. 
أما البعد الصهيوني في العدوان، فهو بيّن لا يحتاج إلى برهان، ويكفي الصهاينة مغنما، أنهم تخلصوا، لعقود من الزمن، من دولة عربية كانت مؤهلة لتعديل ميزان القوة في الصراع العربي الصهيوني، لتتحول اليوم تحت الاحتلال إلى كيان يشغل البقية الباقية من دول الممانعة، كما رأينا مؤخرا في دعوة حكومة بغداد إلى قيام محكمة دولية تحاسب الجارة سوريا. 
 فالدرس الاستراتيجي الذي ينبغي أن نتعلمه من محنة العراق، أن علاقاتنا مع الغرب المسيحي سوف تظل مرتهنة برغبة القوى المسيحية في الانتقام من الأمة التي أطاحت بروما، وهدمت أسوار القسطنطينية، وهزمت ثماني حملات صليبية، وقد وجدت هذه الرغبة في الحركة الصهيونية الحليف والأداة لاستكمال حرب الاسترداد التي بدأها القشتاليون بالأندلس منذ ثمانية قرون، وتواصلت مع الحقبة الاستعمارية، ونرى لها اليوم أكثر من وجه في هذا العدوان الغربي المكشوف والمتواصل على العالمين العربي والإسلامي، وتحالفه مع الحركة الصهيونية التي سوف يكتشف معها اليهود، أنهم مجرد وسيلة لحرب فرنجية تسكن الوجدان الغربي المسيحي حتى بعد تطليق الغرب للكنيسة والكهنوت. 

جناؤها أبناؤها والحال هل يكفينا الإقرار بهذه الحقيقة، التي لم تكن بحاجة إلى جهد ذهني كبير، أم أن سقوط العراق، بهذه السهولة وهذه الكلفة البشرية والمادية والحضارية، يملي علينا البحث عن دروس أهم، بدءاً بالبحث عن مسؤولية النخب والحكام عما جرى، سواء حكام العراق قبل الغزو، أو حكام الدول العربية والإسلامية الجارة.

 فبالنظر إلى ما تحقق على يد المقاومة العراقية، بما توفر لها من وسائل بسيطة، وتقاعس الأشقاء عن دعمها، وتمكنها مع ذلك من إحباط المشروع الإمبراطوري وتحميله كلفة مالية فاقت كلفة حرب فيتنام، بالنظر إلى كل هذا، ألا يتحمل نظام الشهيد صدام حسين مسؤولية تاريخية كبرى، بتقاعسه عن إعداد الشعب العراقي لمواجهة العدوان الذي كان مبرمجا سنوات قبل أحداث 11 سبتمبر، وكان يملي عليه أن يبادر إلى بناء مقاومة شعبية، كان ينبغي أن تبدأ بمعالجة الوضع الطائفي المذهبي الذي سوف يلعب على وتره العدوان الأمريكي بنجاح، ثم يستلهم من تاريخ المقاومة عند الشعوب العربية في المشرق والمغرب، ويعتبر بالنجاحات التي حققتها المقاومة الإسلامية في لبنان، وفي ذلك دعوة مازالت قائمة لمعظم الدول العربية والإسلامية، المهددة بالعدوان، للإسراع بتحقيق السلم الداخلي مع مكونات شعوبها، وإعدادها للدخول الفوري في مقاومة الغزاة، وتحويلها إلى قوة رادعة للعدوان، كما صارت المقاومة الإسلامية في لبنان قوة ردع حقيقية للعدوانية الصهيونية.

 .
  
بداية النهاية لأسطورة نهاية التاريخ

بقي لنا أن نستوعب درسا آخر على أطراف وهوامش هذه الحرب المفتوحة على العرب والمسلمين، والتي غيّرت تكتيكاتها مع الرئيس الأمريكي الجديد، ولم تحد قيد أنملة عن الأهداف الاستراتجية، بالوقف لحظة عند الجزرة التي أسالت لعاب بعض النخب المستنيرة، ودفعت بها إلى طوابير العمالة ضد الأمة ومصالحها، وأعني بها أسطورة نشر الديمقراطية على ظهر الدبابة وفوق جماجم الأبرياء. وربما يكون من الأفضل في هذا السياق أن تستفتى الشعوب العربية والإسلامية التي دارت عليها رحى الحرب في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين حول أفضال الديمقراطية الغربية المدعومة بالصواريخ الذكية والمعتقلات السرية. فالدولة الناشئة في أفغانستان على رماد الأرض المحروقة لم تخرج بعد ثماني سنوات من العاصمة كابل، ولن تقوى على الصمود ساعة واحدة أمام شعبها بعد انسحاب قوات الحلف، وهي مع ذلك تستنسخ بأسوإ مسارات التزوير بتزكية من الغرب ومؤسسات الأمم المتحدة. أما شقيقتها في العراق فهي ليست بأحسن حال، وكانت كلفة تنصيب نظام شبه ديمقراطي بمكونات طائفية مذهبية انتكست إلى العشائرية البدائية فوق ما يمكن لشعب أن يتحمّله. وفي ساحة قريبة من العراق شهدت إعلان ميلاد الشرق الجديد، نشاهد لبنان الصغير يراوح منذ ثلاثة أشهر مضت عن انتخاباته التشريعية بحثا عن حكومة لم تسمح بعد بتشكيلها القوى المتصارعة في المنطقة. وفي كل شبر من العالمين العربي والإسلامي نشهد تراجعا وانتكاسة في الاتجاه المعاكس لبناء مسارات ديمقراطية. 

والحال ينبغي للغرب أن يعترف بهزيمته النكراء كيفما كانت الساحة التي يريد أن يقيم فيها عدوانه على العالمين العربي والإسلامي. فعلى المستوى العسكري، وباستثناء قتله بدم بارد لمئات الآلاف من العرب والمسلمين، لا نراه يحقق انتصارا عسكريا واحدا على مقاومات شعبية محاصرة ومقاطعة من الشقيق قبل العدو، وعلى مستوى ادعاءاته نشر الديمقراطية، فينبغي على أدعياء الديمقراطية الغربية من أبناء جلدتنا مما راهن عليه أن يرفع عليه دعوى بتهمة وأد الأمل في قيام مسارات ديمقراطية ربما لعقود كثيرة قادمة. وعلى المستوى الأخلاقي، لم يسبق للغرب، في تاريخه الحافل بالجرائم ضد شعوب العالم أن افتضح كما افتضح في السنوات الثمانية التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر التي يحق لنا أن نتخذها تأريخا لبداية السقوط الفعلي للحضارة الغربية وهيمنتها المتوحشة، وبداية الأمل في أن يفسح انهيارها المبرمج آفاقا جديدة للبشرية.   

مقالات ذات صلة