الرأي

خطوتان للتحرُّر من الوصاية الفرنسية

ناصر حمدادوش
  • 1899
  • 2

منذ وصول “شارل ديغول” إلى الحكم سنة 1958م وقَّع اتفاقًا مع 14 مستعمرة إفريقية، من أجل الحصول على الاستقلال، إلا أنَّه كان استقلالاً ملغَّمًا ومشروطًا باتفاقياتٍ ملزمةٍ بالتعاون الأمني والعسكري مع فرنسا، وبالالتزام بوضع نسبةٍ من النقد الأجنبي تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، وبالحصول على الحقوق الحصرية لأيِّ موادٍّ خام تُكتَشف في أراضيها، وبمنح الشركات الفرنسية أولويةً في أيِّ أنشطة اقتصادية لها، وباحتكار عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية فيها، وبعقد اتفاقياتِ حمايةٍ لحكَّام تلك الدول مقابل تسهيل هيمنة الشركات الفرنسية في استغلال الموارد الإستراتيجية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط ومختلف الثروات الطبيعية.
وفي الحالة الجزائرية، فإنَّ من أعظم الواجبات التاريخية اتجاه الذَّاكرة الوطنية هو إحصاء كلِّ الجرائم التي ارتكبتها فرنسا خلال تاريخها الأسود في الفترة الاستدمارية الممتدة من 1830م إلى 1962م، وهي التي تصدُق عليها عبارة: “وإنْ تعدُّوا جرائم فرنسا في الجزائر لا تحصُوها”.
وبالرَّغم من حجم جرائم الإبادة وهول جرائم الحرب وضخامة المأساة الإنسانية التي تسبَّبت فيها فرنسا طيلة ذلك التاريخ من الحقد الصليبي، ومع ذلك فقد حافظت على روابطها العميقة بأبعادها السِّياسية والثقافية والاقتصادية مع مستعمراتها القديمة، ومنها: الجزائر، إذ لا يوجد هناك ثُقبٌ زمنيٌّ بين تاريخ الاستقلال الملغَّم للجزائر سنة 1962م وتاريخ المأساة التي لا نزال نعانيها بسببها إلى الآن، لعدم التحرُّر الكلِّي من “إستراتيجية الاستقلال الملغَّم”، وهو ما يفرض علينا واجب استكمال مسار الاستقلال والسِّيادة الوطنية لتحقيق هدف الثورة التحريرية المباركة وفق بيان أوَّل نوفمبر في الهدف الرئيسي لها، وهو: “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السِّيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، وضمن الهدف الخارجي لها، وهو: “تحقيق وَحدة شمال إفريقيا داخل إطارها الطبيعي العربي الإسلامي”.
وقد ألَّف المجاهد والدكتور ورئيس الوزراء الأسبق “عبد الحميد براهيمي” رحمه الله كتابًا قيِّمًا وثريًّا، تحت عنوان: “في أصل المأساة الجزائرية.. شهادةٌ عن حزب فرنسا الحاكم في الجزائر (1958م- 1999م)”، تحدَّث فيه عن: المرحلة التحضيرية للانتقال من الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد عن طريق مشروع ديغول: “الجزائر الجزائرية” المؤسَّس على “القوة الثالثة” باختراق الثورة بين سنوات (1958 و1962م)، واستيلاء “حزب فرنسا” على القطاعات الإستراتيجية الرئيسية للبلاد، وتفاقم تبعية الجزائر متعدِّدة الأشكال بعد الاستقلال، وتوطيد مواقع “الفارِّين” من الجيش الفرنسي وهجومهم على الدولة والاستيلاء على السُّلطة، وأنَّ عمق “الأزمة” قد أخذ مسارًا مأساويًّا خطيرًا بعد استيلاء بعض الجنرالات من “الضُّباط الفارِّين” من الجيش الفرنسي على السُّلطة ومصادرة الحكم سنة 1992م، وهي من الأبعاد الحقيقية لأصل الأزمة وجوهر المأساة التي تعاني منها الجزائر في رهانات الصِّراع مع النفوذ الفرنسي إلى الآن، بسبب الوجود غير المرئي لبقايا “الأقلية” المتنفِّذة والمرتبطة بفرنسا، وهي التي توفِّر الرِّعاية السَّامية للنُّفوذ الفرنسي المذلِّ للجزائر.
لقد مثَّلت “الثورة التحريرية” أملاً كبيرًا للاستقلال التَّام والكلِّي، ولكنَّ “دهاء ديغول”، ويقينه بحتمية استقلال الجزائر جعله يتطلَّع إلى تأبيد المصالح التاريخية والثقافية واللغوية والاقتصادية والمالية لفرنسا في الجزائر.
ويمثِّل مشروع “الجزائر الجزائرية” الخلفية الفكرية والإيديولوجية والسِّياسية لذلك الاستعمار الجديد، الذي يقوم على القوَّة المحلية التي اشتغل عليها ديغول منذ 1958م، والذي سيجسِّد الهيمنة الفرنسية في الجزائر، ويتشكَّل من:
– الحركْيين: وهي وحداتٌ إضافية من الفرنسيين المسلمين كسكَّانٍ أصليين عارفين بالميدان للقتال بنجاعةٍ ضدَّ جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني، وقد بلغ عددهم بين (1954 و1962) حوالي 200 ألف.
– المخازنية: وقد تشكَّل هذا الظهير العميل سنة 1955م، وبلغ عددهم سنة 1956م حوالي 20 ألف مخزني.
– المفارز المتنقِّلة للحماية الرِّيفية: ويقدَّر عدد أفرادها سنة 1962 بحوالي 10 آلاف.
– مفارز الدِّفاع الذاتي: وبلغ عددهم سنة 1962م حوالي 60 ألف.
وبحسب 04 مصادر مختلفة فإنَّ مجموع العسكريين والإضافيين (الفرنسيين والجزائريين العملاء) المتعاونين مع فرنسا في مارس 1962م يتراوح عددهم ما بين 180 ألف و225 ألف.
وهي الحقيقة الرقمية لخطورة النفوذ الفرنسي في الجزائر وتموضعه في مفاصل الدولة بعد الاستقلال، إذْ بعد تشكيل “القوَّة المحلية” المنصوص عليها في اتفاقيات إيفيان في مارس 1962م تمَّ انتقاء 60 ألفًا -وبعنايةٍ مركَّزةٍ- من بين هذه الوَحدات السَّابقة، وهم الأشدُّ ولاءً والأكثر إخلاصًا لفرنسا، وهي النَّواة الصَّلبة لهؤلاء العملاء الذين قال عنهم “ديغول”: “تركنا جزائريين يحبُّون فرنسا أكثر من الفرنسيين أنفسِهم.. سيواصلون على منهج الجمهورية الفرنسية..”.
وبعد عقودٍ من استقلال المستعمرات القديمة لفرنسا لا تزال تطارد شعوبَها بالمحاولات المستميتة لبقاء سرطانها، عبر مسخ هوياتها الثقافية، وتدخّلاتها العسكرية والأمنية، وسرقة ثرواتها الطبيعية، ودعم أنظمتها الديكتاتورية الخاضعة لها، وهو ما جعل الاستعمار الفرنسي الأسوأ في التاريخ المعاصر، والذي ينفرد بتأبيد وجوده بأشكالٍ مختلفة، إذْ أنَّ الاحتلال لم يكن مجرد وجودٍ عسكريٍّ، وأنَّ الاستقلال ليس مجرد خروجٍ لهذا الوجود العسكري، ويمكن تتبُّع مراحل سياسة الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة بتفاصيلها المدمرة للثقافة الوطنية ببعدها العربي والإسلامي كعنوانٍ كبيرٍ للحرب الدينية الصليبية ضدَّ الشعب الجزائري، بالحملات المسعورة ضدَّ الأوقاف والمساجد والزوايا والتعليم العربي، وبتكثيف حملات التنصير والفرْنَسة وتلوين كلِّ الأنشطة الثقافية بالرُّوح الفرنسية، وهو ما أثمر نتيجتين خطيرتين لصالح محاولات تأبيد النفوذ الفرنسي، وهما: تكوينُ نخبةٍ مفرنسةٍ كأداةٍ لنفوذها الثقافي في محاربة الإسلام واللغة العربية والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وتأجيج الصِّراع الإيديولوجي بين المعرَّبين والمفرنسين المتشبِّعين بالثقافة الغربية لعقودٍ من الزَّمن.

استحقاقات السِّيادة الكاملة:
1 / تجريم اللغة الفرنسية في الوثائق والمؤسَّسات الرَّسمية: مقابل رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية، كنوعٍ من الخلاص النهائي من التبعية الثقافية والسِّياسية لفرنسا. ذلك أنَّ اللغة الفرنسية هي ذلك الامتدادُ الشيطاني لتنفيذ تعليمةٍ من تعليمات السُّلطات الاستدمارية منذ السَّنوات الأولى للاحتلال الفرنسي سنة 1830م، والتي تنصُّ على: (أنَّ إيَّالة الجزائر لن تصبح مملكةً فرنسيةً إلاَّ عندما تصبح لغتنا هناك لغةً قومية، والعمل الجبَّار الذي يترتَّب علينا إنجازه هو السَّعي إلى نشر اللُّغة الفرنسية بين الأهالي بالتدريج إلى أنْ تقوم مقام اللُّغة العربية..). وبالرَّغم من تواضع مكانة اللغة الفرنسية عالميًّا، إلاَّ أنَّ فرنسا انتفضت من أجل عذريتها اللُّغوية المفقودة لتسُنَّ قانون (توبون) سنة 1994م من أجل حمايتها، والذي يتركَّز على إثراء اللُّغة والإلزام باستخدامها والدِّفاع عنها كلغةٍ رسمية للجمهورية، وذلك للحدِّ من النُّفوذ اليومي للإنجليزية في فرنسا، وللإلزام القانوني باستعمال الفرنسية في الإدارة والتعليم والتجارة والمؤسسات الرَّسمية وأماكن العمل.
2 / تجريم الاستعمار الفرنسي: بالرَّغم من القانون الفرنسي المشؤوم الذي يمجِّد الحقبة الاستعمارية ويعتبره نشرًا للمدنية والحضارة، والذي صادق عليه البرلمان الفرنسي شهر فيفري 2005م، إلاَّ أننا لم نسنّ بعد قانونا يجرّم الاستعمار، على قاعدة المعاملة بالمثل.
وبالرَّغم من الأساس القانوني الذي يقوم عليه وفق القانون الدولي، والذي يسمو فوق اتفاقيات دول، مثل: “اتفاقيات إيفيان”، كنظام المحكمة الجنائية الدولية لروما 1998م، والاتفاقية الدولية لعدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكَبة ضد الإنسانية 1968م، والاتفاقية الدولية للسلام بلاهاي 1899م و1907م، والنظام الأساسي لمحكمة نورمبروغ العسكرية الدولية 1945م، واتفاقية جنيف 1949م، وقرارات المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة المتعلق بمعاقبة مجرمي الحرب والأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضدَّ الإنسانية، والمعاقَبة على انتهاك حقوق الإنسان للسُّكان الأصليين وإدانة الفصل العنصري 1965م و1966م، وبروتوكول جنيف الإضافي لعام 1977 المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، وبالرغم من المحاولات المتكرِّرة لسنِّ هذا القانون سنوات 2009م و2019م و2021م إلاَّ أنَّ القرار السِّيادي لصاحب الصلاحيات الدستورية في العلاقات الخارجية وهو رئيس الجمهورية لا يزال معلَّقًا.
إنَّ هذه الاستحقاقات وغيرها تبقي المعركة مفتوحةً ومستمرةً مع العدو الفرنسي ولو بعد 60 سنة من الاستقلال.

مقالات ذات صلة