الجزائر
الظاهرة تنسف المستوى الجامعي وتستفز ساهري الليالي

“حروز” بعلم الأولياء وأزواج يتعاونون على الغشّ في الامتحانات

صالح سعودي
  • 11617
  • 0
ح.م

عاشت الجامعات الجزائرية مؤخرا على وقع امتحانات السداسي الأول، وهو الإجراء البيداغوجي الذي يعد بمثابة الكاشف عن المستوى العلمي للطلبة وفقا للنقاط والمعدلات المحصلة، إلا أن هذا المعيار فقد جدواه في كثير من الجوانب بسبب الانتشار الرهيب لظاهرة الغش وتطوره تقنياته بشكل غريب، بشكل يتماشى مع تطور الحيل البشرية، وارتقاء تقنيات التكنولوجيا الحديثة.

ويذهب الكثير من الأكاديميين في حديثهم مع “الشروق”، بأن ظاهرة الغش في الامتحانات أصبح ظاهرة لافتة وفي تنامي مستمر، خاصة مع تطوّر وسائل الغش وتقنياته، حتى أن الكثير من الطلبة يقبلون على تعلّم هذه الوسائل أكثر من إقباله على التحضير للامتحان، فلا يهمّه الارتفاع بمستواه بقدر ما تهمّه الشهادة فقط، ومثل هذا التفكير يراه الكثير مجرد تحصيل حاصل للمنظومة الأخلاقية والثقافية والسياسية في المجتمع الجزائري، بدليل أن الجامعة الجزائرية لا تتحدّث اليوم بمنطق الكيف حينما تقيّم وضعها بل تقيّم بمنطق الكمّ، والنتيجة أنّها في المراتب الأخيرة عربيا ودوليا    .

جداريات لتسهيل الغش والهواتف الذكية في الخدمة

ويؤكد الدكتور إبراهيم صحراوي من جامعة الجزائر، بأن طرق ووسائل الغش تطورت بطريقة مذهلة خصوصا في ضوء انتشار الهواتف الذكية ووسائط الاتصال الحديثة، خاصة في ظل غياب إجراءات ردعية، مشيرا بأن المسؤولية في كثير من الحالات تلقى على الأستاذ، كان يُقالَ للطالب المضبوط في حالة تلبُّس: “إذا سامحك الأستاذ…”، لتجد نفسك حسب الدكتور إبراهيم صحراوي في فوهة المدفع، وكأنك أنت المسؤول عن عملية الغشّ أصلا لأنّك اكتشفتها، هذا إن لم يثُر حسب محدثنا الطالبُ الغشاش في وجهك ناكرا ومُستنكرا ويُسمعك ما لا تحبّ، وقد يتوعدك ويهدِّدك على مرأى الجميع. ومن أغرب طرق الغش في نظره فهي ما نراه في قاعات الدرس والمدرجات، حيث أصبحت جدرانُها والطاولات والكراسي وكشاكيل أو مطبوعات مفتوحة على الطبيعة تحمل كلَّ برامج السنوات وفي مختلف التخصُّصات، وسعيد الحظِّ هو من جلس في الأطراف كي يكون قريبا من تلك الجداريات، ويكتمل السّعد حينما يكون موضوع السؤال من المعروض فيها، وأكد الدكتور صحراوي بأن ما يحدث في الجامعة من غش ليس استثناء، بدليل استفحاله في كلّ المراحل التعليمية حتى الابتدائي منها    .

الغش التقليدي في حكم الماضي

ويشير الأستاذ سامي مباركي من كلية الاقتصاد بجامعة باتنة، بأن الغش في الامتحانات الجامعية تجاوز الطرق التقليدية كإخفاء القصاصات الورقية، أو استلام أوراق الإجابات من الزملاء في غفلة – أو بتواطؤ- من الأستاذ المراقب، بل أصبح الغش حسب قوله له تقاليد جديدة مع تطور الوسائط التكنولوجية بأشكال تدعو إلى الدهشة وتجعلنا نتساءل: “ماذا لو استخدم هذا الدهاء في إطاره السليم؟    “.

وأعطى الأستاذ سامي مباركي مثالا مثيرا للجدل في هذا الجانب، حيث أكد لـ”الشروق” بأن أحد الطلبة خلال السنوات الأخيرة قام بتحصيل علامة عالية في مادة كانت علامته فيها في السداسي الأول صفرًا، وهو ما زاد من شكوك أستاذ المادة، ولدى استدعائي للطالب بحكم أنني مسؤول على إدارة شؤون قسم التسيير، حيث واجهته بتطابق إجابته والإجابة النموذجية للأستاذ، فاعترف بقرصنته للسؤال والإجابة النموذجية من حاسوب الأستاذ المعني من خلال بريده الإلكتروني. وفي السياق ذاته يشير الأستاذ سامي مباركي بأن الأسئلة أصبحت تنتشر خارج المدرجات والقاعات فور توزيعها من خلال الهواتف الذكية، لتعود الإجابات للمُرسل رغم قيام إدارة الكلية بزرعها لمعدات متطورة للتشويش على الاتصالات.

أم في خدمة ابنتها وطالبة تغش هاتفيا بمساعدة زوجها

وحسب الأستاذ باديس لونيس من قسم الإعلام بجامعة باتنة، فإن ظاهرة الغش في الجامعات وصلت إلى مستويات متقدمة من التفشي، بحيث جعلت الكثير من الطلبة ينظرون إليها كحق مكتسب عليهم ممارسته دون خجل، بل إنهم يمارسونه مع كثير من الافتخار والاستعراض للتقنيات والإبداعات التي يتوصلون إليها في هذا الشأن، ولكن الغريب أن بعض المجتهدين لا يتوانون عن مساعدة زملائهم الآخرين في الامتحان بداعي الصداقة، ثم هم أنفسهم يحتجون على نقاط هؤلاء الكسالى حين تُعلن، ولعل من قصص الغش الطريفة التي وقف عليها أحد زملائي هذه الأيام، اكتشافه لإحدى الطالبات في حالة غش باستخدام سماعات الهاتف، الذي كانت تتلقى من خلاله مساعدة زوجها المصون. وحسب الدكتور يوسف بن يزة من قسم العلوم السياسية (جامعة باتنة) فإن أغرب موقف لاحظه هو منظر أم تساعد ابنتها على الغش في الامتحانات عن طريق إملاء الإجابة عليها عبر تقنية “البلوتوث” في صورة صارخة عن انهيار سلم القيم الاجتماعية وانحراف الكبار قبل الصغار.

طلب منه تغيير المكان فحمل الطاولة معه

ويعطي لنا الدكتور العيد عمور من قسم علم النفس بجامعة المسيلة مثالا حيا يتمثل في كتابة أحد الطلبة على طاولة فردية وعندما طلبت منه تغيير المكان أخذ طاولته معه، وهناك مثال آخر فبعد مضي ربع ساعة من بداية الامتحان دخل طالب بحجة اخذ كراسة من زميل وإذا بهذا الأخير يسلمها له وبوسطها نص الامتحان، وبعد ساعة عاد الشخص الأول مجددا يطلب من الحراس إرجاع الكراسة إلى صاحبها وهو يدس فيها الإجابة وقبيل انقضاء الامتحان توجه الممتحن إلى كراسته وفي منتصفها أخرج الإجابة التي جاء بها من أخذ الكراسة المرة الأولى وأعادها. من جانب آخر تقول الأستاذة شهرزاد سوفي من جامعة خنشلة (قسم الإعلام والاتصال)، بأن ما يحدث في قاعة الامتحان هو تنوع رهيب لأساليب الغش من قبل الطلبة الممتحنين، وأكثرها شيوعا هو كتابة المحاضرات حرفيا على الطاولة وبكل وضوح، حيث لا تخلو أي طاولة من تلك الطلاسم، لحظتها أضطر كأستاذة أن أغير الأماكن، لكن أين تضع الطالب الذي غيرت مكانه وكل الطاولات بها ذات المحاضرات، متسائلة بالقول “أهو الحس المشترك والتعاون على الغش من الفوج كله!”.

“الكيتمان” سلاح المحجبات.. طلبة يبتلعون “الحروز” وأساتذة متهمون

ويقول الأستاذ صلاح الدين ملاوي من جامعة بسكرة بأن من أعجب السيناريوهات التي جعلته مندهشا، هو انتحال إحدى الطالبات الجامعيات صفة طالبة أخرى من مستوى أدنى، مستبدلة صورتها بصورة زميلتها بطريقة احترافية، لا يتفطن لها إلاّ الخبراء المدقّقون، وقد توسّلت لتحقيق غايتها بـوسيط إلكتروني يدعى (الكيتمان)، والأعجب حسب الأستاذ ملاوي هو أنّ أحد أساتذتها المطبقين هو الذي كان يملي عليها الأجوبة من خارج أسوار الجامعة. وتحكي الأستاذة حليمة قطاي من جامعة الجزائر نماذج سيئة في هذا الجانب قائلة “مدرجات المراقبة تعج جدرانها وطاولاتها بمؤلفات ودواوين، فضلا عن سهولة استخدام وتوظيف التكنولوجيا لذلك؛ رغم أن التكنولوجيا المضادة ككاميرات المراقبة وتقنيات تشويش الأجهزة متاحة لكنها غير مستخدمة”.

وتحكي لنا حالة سيئة، حين ضبطت طالبة كانت تحترمها كثيرا، حيث كانت تراقب عن بعد وتقلب جهاز الهاتف المصور به كل مدرجات المادة؛ وفي حالة أخرى اكتشفت محدثتنا حالة لطالبة تبلع مادة الغش حتى تنكر ما وجدته، وأخرى ترميه من على شرفة الحراسة؛ فيما لم يتوان البعض حسب الأستاذة حليمة قطاي في التهديد والوعيد أثناء ضبطهم ومحاسبتهم. وفي ذات السياق، تسرد الأستاذة لويزة بن بوزة نماذج مماثلة، حيث تقول في هذا الجانب “مرّة رأيت طالبا بيده قصاصة من ورق كان في حالة غش، توجهت نحوه لأخذ الورقة وقبل أن أصل إليه قام بابتلاعها ووقعت في حيرة من أمري، لأنّ دليل الغش قد أُكل، علما أنّ الفاعل يكبرني سنّا وأستاذ في مرحلة المتوسط، وبخصوص الطالبات وخاصة المتحجبات فعملية تفتيشهن صعبة خاصة بالنسبة للأساتذة الرجال، فكثيرا ما يستنجدون بنا للقيام بالعملية لأنهن يستعملن سماعات الأذن تحت الخمار”، وتضيف الأستاذة لويزة بن بوزة قائلة “هناك من الأساتذة من تخدعه المظاهر فلا يشك ببعضهن خاصة اللواتي يرتدين الجلباب والبرقع رغم ثبوت قيام بعضهن بذلك”.

أما الأستاذة حكيمة صبايحي من جامعة بجاية فتقول “ما لا يمكن أن أفعله احتراما لنفسي، هو المرور على آذان المتحجبات وتحسس خيوط الكتمان، وهي التقنية المستعملة بكثرة في وسط جامعي أكثر فتياته متحجبات. ويا لها من مفارقة”.

التهديد الجسدي يلاحق الأساتذة وطلبة يرون الغش حقا مشروعا

وتؤكد الأستاذة لويزة بن بوزة من جامعة خنشلة بأن الأستاذ الجامعي لا ينجو أحيانا من الاعتداء اللفظي والجسدي عندما يتدخل لمنع الغش، وهو ما يجعل بعضهم يغض الطرف، خاصة في ظلّ دولة تحمي الطالب ولا تحمي الأستاذ، أما الأستاذ سامي مباركي فيقول في هذا الجانب “عند مسك الغشاش من قبل الأساتذة المراقبين، فإن مبلغ همه هو كيفية استرجاع الأداة المستخدمة في الغش (الهاتف الذكي أو البلوتوث)، وليس طلب الصفح والتعهد بعدم تكرار هذا الفعل، وأمام هذا الوضع أصبح عديد الأستاذة حسب محدثنا يلجأون إلى الأسئلة التي تعتمد على الفهم والذكاء لتجاوز هذا التطور الرهيب في الغش”.

وحسب الأستاذ يوسف بن يزة فقد حدث موقف لأحد الزملاء الذي ضبط طالبا يغش فحدث تلاسن بين الطرفين وعند تدخل الإدارة لمساءلة الطالب عن سبب إساءة الأدب مع الأستاذ أجاب بكل جرأة قائلا “وهو علاش يوصل في روحو”، فيما يرى الأستاذ باديس لونيس بأن الأغلب في هذه الحلقة هو أن ردة فعل الطلبة الذين يُكتشفون في حالات غش، كثيرا ما تكون عنيفة وغير أخلاقية، وكأنهم حرموا من أحد حقوقهم القانونية التي لا تقبل النقاش.

الغش يملك تقاليد في الجامعة والمؤسسات التربوية

ولم يتوان الكثير في التأكيد بأن تراكم السلوكات والتصرفات التي تصب في هذا الجانب، جعل ظاهرة الغش تملك تقاليد بالجملة سواء في الجامعة أو في بقية المؤسسات التربوية، حيث تقول الأستاذة حكيمة صبايحي من جامعة بجاية في هذا الإطار “من خلال تجربة 20 سنة في ميدان التربية والتعليم من الثانوية إلى الجامعة، كلما وصل وقت مراقبة الامتحانات، أصاب بكآبة غالبا ما تجعلني أغيب عن المراقبة، الجدران مكتوبة بالمحاضرات والطاولات، والأكثر إحراجا هي تلك القصاصات التي يحملها الطلبة، وبمجرد أن ينتبه الأستاذ المراقب لحالة الغش، حتى يسارع الطالب أو الطالبة لوضعها في الأماكن الحساسة من الجسد”.  وتذهب الأستاذة حكيمة صبايحي بأنه لا أحد يمكنه أن يتخيل حجم الدمار الذي لحق بالمدرسة الجزائرية والجامعة الجزائرية، حيث لم يعد يوجد في قاعة الامتحان في مختلف الأطوار تلميذ أو طالب واحد، لا يحاول الغش، حتى وإن كان يعرف الإجابة الصحيحة عن أسئلة الامتحانات، أعتقد حتى في حالة تسريب الأسئلة، فالجميع يحاول أن يغش، في أكبر نكبة، ولا أقول: أكبر إخفاق، للمنظومة التربوية والتعليمية في الجزائري. حتى عندما أصر على طلبتي أن يعبروا عن آرائهم حتى وإن كانت خاطئة، فلهم أجر المحاولة في العلوم الإنسانية، إنهم يذهبون رأسا إلى المطبوعة كما الآلة بلا تدبر، وغالبا ما يكون السؤال في جهة، والإجابة تجميع لفقرات من المطبوعة لا علاقة لها بالسؤال.

أزمة الأخلاق ساهمت في انتشار الغش

ويرى الدكتور يوسف بن يزة من جامعة باتنة بأن الغش لم يعد مسألة محصورة في الامتحانات والمسابقات فقط فقد أصبح يشكل نمط حياة يطال أغلب المعاملات بين الأفراد ومع تعود الناس عليه أصبح شيئا عاديا وهذا يعبر عن ثغرة عميقة في أخلاقيات المجتمع وسلوك الأفراد، يصعب التخلص من أثرها بالوسائل التقليدية، الظاهرة منتشرة بشكل رهيب في منظومتنا التربوية فقد حل الاجتهاد في ابتكار طرق الغش محل الاجتهاد في الدراسة وقد بينت الطرق الشيطانية التي يعتمدها التلاميذ في التحايل والغش مدى ذكائهم ومهارتهم لكنها تستخدم للأسف بطريقة سيئة، فيما يؤكد الدكتور نور الصباح عكنوش من جامعة بسكرة بأن الجامعة تتأثر بالمجتمع أكثر مما تؤثر فيه، لأن الحركية المجتمعية موجودة في الملاعب والمقاهي والمساجد والشوارع، وليس في الجامعات، ولعل ظاهرة الغش هي الجزء الظاهر من قطعة الجليد، ولا يمكن الحد منها باستعمال التكنولوجيات الحديثة للتشويش أو من خلال القانون فقط، بل من خلال الاستثمار في الأخلاق، وإعادة الاعتبار للإنسان في الفضاء العمومي الذي تهيمن عليه الزبونية والوساطة.

مقالات ذات صلة