الرأي

جمال ميموني… صاحب الرأي السديد !

نشر جمال ميموني -الأستاذ بجامعة قسنطينة منذ عقود، والمتخصص في الفيزياء الفلكية- مقالا يوم 15 أبريل في صحيفة “يومية وهران” (الفرنسية اللغة)، بعنوان “مدارسنا العليا للأساتذة : إنها مناطق ظل”. عندما أخطَرَنا أحد الزملاء بصدور هذا المقال، تصوّرنا أن كاتبه من المتحاملين على هذه المدارس، وما أكثرهم في جامعاتنا ووزارتنا الوصية. غير أن إطلاعنا على هذا المقال جعلنا ندرك بسرعة أن غرض الكاتب هو عكس ذلك تماما. فكل ما جاء في المقال أفكار جميلة تهدف، في آخر المطاف، إلى رفعة التعليم ورقي مستواه في البلاد.

هذه المدارس “المنكوبة”

يتحدث الأستاذ جمال عن هذه المدارس “المنكوبة” من منطلق الخلفية التي تشكلت في ذهنه من خلال التدريس في مدرسة قسنطينة سنوات عديدة مواد فيزيائية. ومن ثمّ، وعلى ضوء ما تجمّع لديه من معلومات حول طلبة ومدرّسي ومناهج هذه المؤسسات، تقدم بآراء وأفكار من شأنها تحسين أداء هذه المدارس.

ومن بين ما جاء في المقال تأسفه لكون طلبة هذه المدارس يدخلونها بمستويات ممتازة، لكنهم لا يحافظون على هذا المستوى عند التخرج. وهذا صحيح ومؤسف حقًا، وسببه أن العقد المبرم بين الطالب ووزارة التربية لا يراعي مستوى المتخرج… وهي نقطة تتطلب المراجعة، في نظرنا، لحثّ الطالب على المزيد من التحصيل العلمي.

وقد لاحظ الكاتب أن هذه المدارس منقطعة عن العالم الجامعي. ويقصد بذلك أن الطلبة يرون أنفسهم، في أحسن الأحوال، سيتعاملون مع مستوى السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وبالتالي لا يهمهم ما هو فوق ذلك المستوى. والغريب أن بعض الأساتذة بالمدارس لهم أيضا هذه الفكرة الخاطئة. فهذا واقع يجب محاربته رغم أنه لا يشمل جميع الطلبة.

ما من شك أن أي منهاج دراسي لا بد أن يسمح لصاحبه بالتعمق والاستزادة إن رغب في ذلك، ولا يضع له سقفا (في المجال العلمي) يحرمه من تحسين مستواه ومن الرقي في المنصب. ونحن نردّد دائما أن الطالب الذي اختار المدرسة العليا من حقه، خلال مشواره الدراسي، أن يطمح في أن يكون في يوم من الأيام من سلك التعليم العالي وسلك الباحثين في شتى العلوم إن كان أهلا لذلك. ولذا، لا بد أن تظل نافذة في هذا الاتجاه مفتوحة لتكون محفزًا لجميع الطلبة يجعل الغالبية منهم تتفانى في طلب العلم. ولا نعتقد أن الأستاذ ميموني يخالف هذا الرأي حسب ما جاء في مقاله.

لابد من أن يظل طالب المدارس العليا للأساتذة، شأنه شأن طالب المدارس الوطنية العليا، يعيش واقع الجامعة والبحث العلمي. ولا نعتقد أن الأمر يخفى على الأستاذ ميموني، فعندما كانت المناهج الحالية للمدارس العليا قيد الإعداد في بداية الألفية، ما كان نصب أعين معدّي هذه المناهج هو تكييفها بحيث تسمح في آن واحد للمتحرج بمزاولة مهنة التدريس في مرحلتي التعليم الثانوي والمتوسط، كما تسمح له بمواصلة الدراسات العليا عندما يجري المسابقات التي تؤهله إلى ذلك في مؤسسات التعليم العالي بمختلف فئاتها.

فعلى سبيل المثال، كان خيار شهادتين (بدل واحدة)، إحداهما في فيزياء والأخرى في الكيمياء، على الرغم من أنهما تخولان لحامليهما تدريس مادتي الفيزياء والكيمياء في المرحلة الثانوية، كان خيارا يصب في هذا الاتجاه. والمتتبع يعلم أن هذا الخيار لم تستوعبه وزارة التربية، وأيضا وزارة التعليم العالي؛ بل أعابه هؤلاء على واضعي المناهج بحجة أنه لم يكن من اللائق مراعاة جانب مواصلة الدراسات العليا في وضع مناهج هذه المدارس!

متى يُرفع هذا الغبن؟

والأدهى من ذلك أن الكل يعلم بأن وزارة التعليم العالي -رغم انتقاضات الطلبة وتنديد سلك المدرسين خلال السنوات الأخيرة- لا زالت تغلق باب الدراسات العليا في المدارس العليا للأساتذة، وهذا دون مراعاة ما لدى البعض منها من إمكانيات في مجال البحث من مخابر قائمة ومجهزة وسلك مدرسين مؤهل لا نجده في كثير من جامعات الوطن ! وليس ذلك فحسب، بل أثبتت هذه المخابر خلال عقدين قدرتها على تكوين المئات من حملة الدكتوراه والماجستير من خريجي المدارس والجامعات في عقر الدار.

ورغم كل هذه المضايقات لطلاب المدارس، فهناك عدد معتبر منهم استطاعوا التسجيل في الماستر في جامعات عديدة عندما حرموا منها في مدارسهم، وآخر ما بلغنا أن أحدهم كان قد فاز بالمرتبة الأولى في مسابقة الدكتوراه في الرياضيات بإحدى الجامعات، ورتّب الثاني في جامعة أخرى. وحتى في اختصاص الإعلام الآلي الذي أغلق قسمه تعسفًا منذ سنوات بمدرسة القبة، فقد فاز بعض خريجيه في عدد من مسابقات الدكتوراه التي نظمتها الجامعات.

ومع كل هذه الدلائل، لم تر وزارة التعليم العالي حرجا في عرقلة نشاط البحث العلمي والدراسات العليا بحجة أن المهمة الوحيدة لهذه المؤسسات هي تكوين خريجين للمراحل التعليمية الأولى… ولا علاقة لها بالبحث العلمي! هذه الحجة الواهية ما فتئ مسؤولو وزارة التعليم العالي يقدمونها بدون خجل! فكيف نطلب من هؤلاء رسم استراتيجيات للتعليم من شأنها رفع مستواه في جميع المراحل؟… أو ننتظر منهم عملا جادا يصب في هذا الاتجاه؟ ! ولذا لا نشك في أن منهم من سيستخفّ بالرؤية التي قدمها الأستاذ ميموني…

ويختم الكاتب مقاله بالعنوان الفرعي “كيف نُخرج مدارسنا العليا للأساتذة من هذا المأزق؟”. ويرد على السؤال بالقول إن ذلك متوقف على “استئنافها الاتصال بعالم البحث العلمي”. ويضيف : ” … مهمة هؤلاء الطلبة لم تعد مقتصرة على التدريس بأفضل ما يستطيعون فحسب، بل عليهم أن يكونوا أيضا مبدعين للمعارف. كما أنه من الضروري تشجيع وتسهيل وصول أفضل هؤلاء الطلبة إلى التعليم العالي عن طريق التفرغ”… وليس بالصيغة العرجاء الحالية التي تسمح لأقلية بمتابعة دروس الماستر وأداء مهمة التدريس كاملة في آن واحد.

ويوصي الأستاذ ميموني أيضا بحسن اختيار المكوّن، وبالاقتداء بالمدارس العليا في البلدان المتقدمة، مثل فرنسا التي توفّر تكوينًا فكريًا مكثفًا يركّز على التعلم والابتكار في هذه المدارس بالذات، حتى أنها صارت أماكن راقية للبحث الأكاديمي، تنظم مسابقات عالية المستوى (مثل التبريز) وتوفّر، ضمن أداء مهامها، الدراسات العليا لطلبة الدكتوراه.

هذا ما تطالب به أقدم المدارس العليا للأساتذة في الجزائر منذ أمد بعيد، لكن المتعاقبين على المسؤوليات في وزارة التعليم العالي لم يروا المدارس بهذا المنظار، إلا من رحم ربك، وذلك لضيق أفق و/أو سوء نيّة. والحال هذه، من حق الأستاذ جمال ميموني أن يجزم أن المدارس العليا تقْبع في “مناطق ظلّ”. فمتى يُرفع عنها هذا الغبن؟!

مقالات ذات صلة