-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تلبيس

تلبيس

إن أوجب ما يجب أن يتخلّق به الذين يرغبون في أن يكونوا لشعوبهم رادة، ولأقوامهم قادة في ميدان الفكر والثقافة هو الأمانة العلمية في نقل أفكار غيرهم، والنزاهة في عرضها، ولو اختلفت هذه الأفكار مع قناعاتهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية، فليس من كريم الأخلاق وجميل الفعال تحريف أفكار الناس، وتشويهها، لأن ذلك التحريف والتشويه هو التلبيس بعينه، أي كتمان الحقائق وإظهارها بخلاف ما هي عليه. ومن يفعل ذلك يفقد ثقة الناس فيه وفيما يقوله ويكتبه، ويصبح قوله أو كتابته حديث خرافة لا يلقى لهما سمع، ولا يحملان محل الجد والصدق.

  • ومن هذا التلبيس ما قرأه الناس لكاتبين كبيرين، لهما حضور ثقافي مشهود، ولهما قرّاء في داخل الجزائر وخارجها وهما عمر أزراج، وعبد العزيز غرمول.
  • فأما أوّلهما فقد أوردت جريدة “المحقق” كلاما منسوبا إليه، ونصه حرفيا هو: “والشارع العربي عموما لازال عاجزا عن فهم قضية فصل الدين عن الدولة، فإذا عدنا إلى التاريخ نجد أن البشير الإبراهيمي نفسه في أعماله الكاملة -الجزءالثالثتطرق في 90 صفحة إلى هذه القضية، وطالب السلطات الفرنسية سنة 1947، عندما كان رئيسا لجمعية العلماء المسلمين، بفصل الدين عن الدولة، وضرورة عودة الفرنسيين إلى اللائكية، فإن كان هذا الأمر معارضا لتعليمات الإسلام لماذا قبل البشر الإبراهيمي به، ودعا إليه (1)”.
  • وأما ثانيهما فقد كتب في عموده “نظرة حادة” في جريدة “الخبر الأسبوعي” قائلا: “ولمعلومات الجزائريين أن العلماء العظماء في جمعية العلماء المسلمين، حين كانت الجمعية جمعية علماء فعلا، قد طالبت بفصل الدين عن الحكومة، سواء من طرف الشيخ الإمام ابن باديس، أو العالم الأديب الإبراهيمي، أو حتى الشيخ القدير العربي تبسي، (كذا) (2)”.
  • إن من يقرأ كلام الكاتبين ولم يكن عارفا بالحقائق يفهم أن قادة جمعية العلماء قد آمنوا باللائكية إيمانا مطلقا لا شية فيه، وتبنوا – بإطلاق- مبدأ فصل الدين عن الدولة.. ولو فعلوا ذلك لجاءوا شيئا إدّا.
  • إن عرض القضية بتلك الطريقة يعتبر تجنيا على قادة جمعية العلماء، حيث يظهرهم “جاهلينباللائكية وفلسفتها، وهي استبدال القوانين الوضعية بالدين. وحاشا أن يجهل علماؤنا العظماء – بشهادة غرمول – ما يعلمه أبسط رجل في المسلمين، وهو أن من أنكر معلوما من الدين، ودعا إلى تغييره – غير مضطرولا مكره – فقد كفر بمحمد – عليه الصلاة والسلام- وبمن بعثه، وبما جاء به.
  • كما أن عرض القضية بتلك الصورة يعتبر تلبيسا على الشعب الجزائري المسلم حتى يبتلع طعم اللائكية، ويستبدلها بأحكام الله وشريعته مادام علماؤه الموثوق في علمهم وورعهم قد قبلوا هذه اللائكية، ودعوا إليها.
  • لا ينكر أحد أن قادة جمعية العلماء  قد طلبوا فصل الدين عن الدولة، وأن أكثر من أبدأ القول وأعاد في هذه القضية هو الإمام محمد البشير الإبراهيمي، حتى بلغ عدد مقالاته فيها بضعا وعشرين مقالة.
  • لكن الأمر الذي لم يشر إليه الكاتبان هو: أية دولة طلب قادة الجمعية فصل الدين عنها؟
  • إن الدولة التي طلب العلماء الجزائريون فصل الدين الإسلامي عنها هي الدولة الفرنسية، وهي أشد الدول عداوة للإسلام، وكرها له، وحقدا عليه. فطلب قادة الجمعية فصل الدين الإسلامي عن دولة فرنسا يعتبر واجبا، لأنه غير مقبول أن تشرف دولة غير مسلمة، بل صليبية على شؤون الإسلام، فتعين الأئمة، وتشرف على المساجد، وتستولي على الأوقاف، وتنتقي الحجاج، وتحدد شهر رمضان، فلو لم يطلب قادة جمعية العلماء فصل الدين الإسلامي عن الدولة الصليبية -رغم ادعائها اللائكية- لكانوا خائنين لله، ولرسوله، ولدينه، وللمؤمنين، وهم يعلمون. فـ “حكومة الجزائر () ليست مسلمة حتى يكون حكمها في شؤون الدين مقبولا، فضلا عن أن يكون مطاعا، وأن جميع تصرفاتها فيما يتعلق بالدين باطلة (3)”، ولهذا اعتبرت جمعية العلماء “الصلاة وراء إمام معيّن من ذلك الحاكم (الفرنسي- المسيحي- اللائكي) باطلة (4)”، “لأن شرط نصب الإمام أن يكون من حكومة مسلمة أو من جماعة المسلمين”.
  • وعجيب أمر بعض قومنا، حيث يشيدون بدعوة جمعية العلماء إلى اللائكية – كما فهموا-؛ ولكنهم لايشنعون على إصرار فرنسا على التمسك بالإشراف على الدين الإسلامي، مناقضة بذلك لائكيتها، دائسة قانونها الصادر في سنة 1905م، القاضي بفصل الدين عن الدولة، ولكنها طبقت الفصل على الدينيين الصالب (اليهودية) والمصلوب (المسيحية)، وآثرت الوصل للدين المظلوم، فبقي تحت سيطرتها إلى يوم طردها من الجزائر في 5 / 7 / 1962.
  • إن قادة جمعية العلماء لعلمهم الراسخ، وفهمهم الدقيق، ونظرهم العميق، وفكرهم السديد يرون الإسلام -كما هو في حقيقته- نظاما كاملا، سليما، شاملا، ينظم حياة الإنسان من المهد إلى اللحد، ولا يتركه يعيش كالحيوان، لايحل حلالا، ولا يحرم حراما. ولايمكن لقادة جمعية العلماء أن يؤمنوا باللائكية ويدعوا إليها، وهي التي تشاقق الله ورسوله، وتبيح الزنا، والربا، واللواط، والزواج المثلي.. وكل ما هو قذر ونجس مما يتكالب عليه أشباه البشر، وعلى الذين يحترمون أنفسهم، ويقدسون أمانة العلم أن لا يستخفوا عقول الناس، ويلبسوا الحق بالباطل.
  • وقد أضاف عمر أزراج إلى قوله السابق تساؤلا هو: “إذا كان الدين هو الركيزة الحقيقية للدولة الجزائرية مثلا، لماذا الدولة تشرع بيع واستيراد وتناول الخمور المحرمة شرعا بقرارات رسمية وبموافقة ضمنية من نواب الأحزاب الإسلامية وجمعية العلماء المسلمين؟“.
  • صحيح أن دستور الجزائر- منذ 62 إلى الآن- ينص على أن “الإسلام هو دين الدولة، ولكن ذلك قولٌ بالأفواه، ويبوء بإثم انتهاك هذه المادة كلّ من ناقض- بقانون أو تصرف – حكما شرعيا من أحكام الإسلام، استيراد الخمر، وزرع كرومها، وتصنيعها، وبيعها، وفرض الربا على الناس، و…، و… ويشبه هذه المادة، في الاستهانة بها، والتعدي عليها، تلك المادة التي تنص على أن “اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية”، ولكن الحالفين على الدستور هم المنتهكون له، المعتدون عليه، المستهينون به، فسوف يلقون غيّا إلا من تاب، وأصلح.
  • وقد جاء عمر أزراج شيئا فريّا عند زعم أن ما تعلق بالخمر، تشريعا، وبيعا، واستيرادا، وتناولا كان “بموافقة ضمنية من نواب الأحزاب الإسلامية وجمعية العلماء المسلمين”.
  • لماذا هذا القذف يا عمر؟ تستطيع أن تقول ما شئت في نواب الأحزاب الإسلامية وفي أعضاء جمعية العلماء؛ ولكن لايمكنك – إن كنت ذا نصف – أن تتهمهم بالموافقة الضمنية، أو غير الضمنية، وعلى هذه النجاسة المسماة الخمر، التي طهّر الله أفواههم ومعدهم منها، وما يقترب منها ويعاقرها إلا من سفه نفسه، وغلبت عليه شقوته.
  • إننا ندعو إخواننا – وإن اختلفوا معنا واختلفنا معهم في الأفكار والآراء- إلى التثبت عند الحديث عن أفكار الناس، خاصة الذين هم قدوة لغيرهم، وأن لا يحرفوا أقوالهم، ولو اطلع الأخوان على تراث الأئمة ابن باديس، والابراهيمي، والتبسي، وغيرهم لما استشهدوا بهم في هذه القضية، لأن هؤلاء الأئمة – رضي الله عنهم – على طرف نقيض مما يذهبون إليه، فما كان قادة جمعية العلماء لائكيين، ولكن كانوا علماء ربانيين، وإن اتهامهم بالدعوة إلى اللائكية كمن يزعم أن الله -عز وجل- ينهى عن الصلاة، ويستشهد على ذلك بالآية الكريمة: “يا أيها الذين آمنوا لاتقربوا الصلاة…” ويتوقف هنا، أو يستشهد بالآية الأخرى: “ويل للمصلين…” ولا يكملها.
  • ———–
  • 1– جريدة المحقق” ع. 136 في 25 31 أكتوبر 2008 ص16
  • 2- جريدة “الخبر الأسبوعي”. ع. 504 في 25 31أكتوبر 2008 ص24.
  • – حكومة الجزائر هي الولاية العامة الفرنسية، وهي ترجمة للعبارة الفرنسية Le gouvernement algérien
  • 3– آثار الإمام الإبراهيمي. ج2. ص 287
  • 4 المرجع نفسه.ج 3. ص 151.
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!