الرأي

تصنيف الجامعات… والاستعمار الجديد!!

تشانغ دا وان Chang Da Wan، باحث ماليزي خرّيج جامعة أكسفورد، ينصبّ اهتمامه الرئيسي على التخطيط الاستراتيجي في سياسة التعليم العالي. ويركّز بشكل خاص على وضع الدول النامية، وقد شارك في عديد المشاريع التي أشرفت وتشرف عليها منظمة اليونسكو. أعاد تشانغ مؤخرا نشر بحث بعنوان “دور التصنيفات العالمية في إعادة استعمار الجامعات” تعرض فيه إلى وضع تصنيف الجامعات وتأثيره السلبي على دول العالم الثالث.

“العقل الأسير”

استشهد تشانغ بالأكاديمي الماليزي سيد حسين العطاس Syed Hussein Alatas الذي صرّح بأن للاستعمار التقليدي سِماتًا مشتركة أبرزها الاستغلال، والوصاية، وصفات مميزة للحكام الذين أرسلوا للهيمنة على المستعمرات. يرى العطاس أن هؤلاء الحكام كانوا في كثير من الأحيان من الذين يُنظر إليهم في بلدانهم الاستعمارية على أنه يمكن الاستغناء عنهم، فيرسَلون إلى مستعمرات بعيدة. وهذه السمات أمرًا مهمًا لأن العديد من الجامعات والأنظمة المنتشرة اليوم في العالم الثالث، تم إنشاؤها من قبل تلك القوى الاستعمارية. ومن ثمّ يمتدّ الإرث الاستعماري إلى ما هو أبعد من المباني الجامعية ليمسّ الفلسفة والتقاليد والممارسات التي تُبنى عليها الجامعات.
وليس سرا أن ما كان يحمل اسم “جامعة” في العهد الاستعماري كان في الواقع مؤسسة تم إنشاؤها لتكوين إطارات محلية قادرة على دعم الإدارة الاستعمارية في المستوطنات. وبعبارة أخرى، فتلك الجامعات لم يكن الغرض منها تخريج مفكرين وعلماء لخدمة مجتمعاتهم. ومع ذلك، لقي عامل إنهاء الاستعمار في التعليم العالي اهتمامًا عامًا من خلال الحركات الاجتماعية، وشهدت الجامعات في مجتمعاتنا بعد الاستقلال محاولات عديدة في هذا الاتجاه، لكن بدون جدوى.
وضرب الخبير تشانغ مثلا بإفريقيا وبما صرح به الأكاديمي الأوغندي محمود ممداني الذي أكد أن الجامعات في القارة لا تزال مدفوعة إلى حد كبير بأيديولوجية وسمات الاستعمار، بدلاً من أن تنشغل باحتياجات المجتمعات التي توجد فيها. ويلاحظ تشانغ أنه غالبًا ما يتم الاكتفاء في هذه البلدان -بحجة إنهاء الاستعمار- بعملية “استبدال” تحافظ على الإطار الاستعماري للجامعة، وتحمل شعارا رنانا يضرب على وتر الوطنية مثل “المَلْيَزة” و”الجزأرة” و”التونسة” و”المغربة”…
تؤكد هذه التجارب الوطنية المشتركة على مستلزمات إنهاء الاستعمار وكيف يتم ذلك. وفي هذا السياق، أتى الأستاذ سيد حسين العطاس في عمله حول الإمبريالية الفكرية بفكرة “العقل الأسير” الذي عرَّفه بأنه “عقل غير نقدي وتقليدي، يهيمن عليه مصدر خارجي يجعله يفقد استقلالية التفكير”. ووفق هذا المنظور، هيمنت النماذج الغربية وزادت الهوة بين جامعات العالم الثالث ومجتمعاتها المحلية وقضاياها. وهكذا، ترك هذا العقل الجماعي الأسير جامعاتنا عرضة لأشكال جديدة من الاستعمار والهيمنة.

تصنيف الجامعات يبثّ الرعب !

وبخصوص تصنيف الجامعات، يصدر الخبير تشانغ هذا الحكم القاسي : “إذا كان استعمار القرنين الماضيين قد أجبر السكان المحليين على الخضوع من خلال البنادق والسفن الحربية، فإن الأكاديميين قد رَكعوا الآن من خلال تصنيف الجامعات العالمية”. فهذه التصنيفات المستمدة من بيانات يمكن بسهولة التلاعب بها، أصبحت مقياسًا لتقييم أداء الجامعة وجودتها.
كما صارت الإعلانات السنوية عنها من قبل مختلف الشركات الربحية من المناسبات الحاسمة الأكثر رعبًا للجامعات في جميع أنحاء العالم. وشاهدنا أن التحسن في مرتبة تصنيف جامعة من الجامعات يؤدي إلى احتفالات صاخبة في المؤسسة وإلى الكثير من الدعاية. وعلى العكس من ذلك، فإن تدنّي تلك المرتبة ينجم عنه في عديد الحالات سقوط لرؤوس بارزة في الجامعة “الضحية”.
والسؤال الذي يمكن طرحه في هذا السياق هو : كيف يمكننا تنظيم الأداء مستقبلا في جامعاتنا لنحدث القطيعة مع الاستعمار الجديد لمؤسستنا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال من الصعوبة بمكان. فعلى الرغم من أن هذه الجامعات تفتخر بكونها مؤسسات فكرية تضم أكثر الإحصائيين والرياضياتيين والمفكرين والمقييمين احترامًا في المجتمع فإن هذا الشكل الجديد من الاستعمار شدد الخناق ودعم “العقل الأسير” في العديد من الجامعات. ذلك أنه يبدو أننا فقدنا حتى القدرة على التساؤل والإجابة عن كيفية تحديد مثل هذه المقاييس المهمة لإبراز سبل ما يفيد مجتمعاتنا في المؤسسات الجامعية.
وللأسف، فإن تأثير تصنيف الجامعات العالمية زاد الطين بلة، لأنه يضرّ بجامعات العالم الثالث ومجتمعاته بعد أن تخلصت من الاستعمار القديم. والأكثر ضررًا في التصنيف هو أن إطاره تحدّده الشركات الربحية الجشعة التي تعمل على إخضاع الجامعات في جميع أنحاء العالم إلى ما يخدم مصالحها التجارية. وحاجيات تلك الشركات تقضي أن تستثمر جامعات الجنوب في أعمال إنتاج المعرفة الدولية. لكن هذا الموضوع تقدمه الهيئات العالمية على أنه يندرج ضمن المنافسة الشريفة بين الجامعات في المجال العلمي !
أليس غريبا في بلداننا أن يُطلب من الأكاديميين نشر الأبحاث -المموّلة من المال العام- على صفحات المجلات الدولية، والتي بدورها تطلب من الجامعات دفع آلاف الدولارات من الرسوم مقابل النشر والاشتراك للاطلاع على محتوياتها؟ وفضلا عن ذلك، فإن البحث الذي يعتبر مناسبًا لتلك المجلات الدولية غالبًا ما يكون بعيدًا عن تلبية احتياجات المجتمعات المحلية التي تنتسب إليها جامعاتنا : لا يمكن لرجل الشارع، الذي تموّل ضرائبه بحوثنا، أن يفهم هذا الوضع المتناقض. ومن هذا المنظور، يرى الخبير تشانغ أن التصنيفات الجامعية هي القوة الغاشمة المستَغَلّة لإعادة استعمار الجامعة.
لقد حولت قوى الليبرالية الجديدة الجامعة إلى بضاعة، بل إلى مصنع لرأس المال البشري مضمون الجودة لسوق العمل. ولم يعد التعليم في حدّ ذاته جزءًا من المعادلة. نحن نسعى في العالم الثالث اليوم إلى إنشاء مراكز للبحث ذات مكانة دولية، ونكوّن فيها باحثين ليس لديهم قدرة على العمل في مجتمعاتهم المحلية، ولكن يمكنهم الانتقال إلى مؤسسات في أي دولة صناعية وخدمة مجتمعها بكل يسر.
يعمل الاستعمار الجديد على الحفاظ على الوضع الراهن لهجرة الأدمغة من الجنوب إلى الشمال. فكيف يمكن لجامعات العالم الثالث أن تتحرر من استفحال “العقل الأسير” فيها؟ يرى تشانغ أن الخطوة الحاسمة الأولى للجامعة تتمثّل في إعادة النظر، بشكل نقدي، في دورها كمؤسسة مجتمعية: مؤسسة تهدف إلى الحفاظ على التراث الفكري والعلمي والفني، وفهمه وتعزيزه ونشره عبر الأجيال.
إن الجامعة التي تفشل في أن تكون متجذّرة في المجتمع الذي أَوْكَل إليها هذه المهام لن تنجح أبدًا في أن تصبح جزءًا أساسيًا من ذلك المجتمع، ولن تنجح في استبعاد الاستعمار الجديد من رحابها. وقد شبّه الخبير تشانغ الجامعة ومجتمعها بالشجرة وتربتها : عندما يتجذّر دور الجامعة وهدفها في المجتمع، فإن الثمار التي تُجنى من هذه الشجرة -من طلاب علم ومعارف- ستعود بالفائدة على مجتمعها… وعندئذ فقط سنكون قد قضينا حقا على الاستعمار في جامعاتنا!

مقالات ذات صلة