الرأي

تصنيف الجامعات: حتى لا نخادع أنفسنا

قبل نحو أسبوع كتبنا عن تصنيف الجامعات وأوضحنا ما له وما عليه، وأشرنا إلى تهافت جامعات العالم على تلميع صورها بكل ما لديها من إمكانات لأن ذلك يجني مكاسب على الجامعات جيدة التصنيف: تمويلات إضافية، وجلب خيرة الطلبة والأساتذة، فضلا عن تعزيز سمعة المؤسسة التي يستغلها حتى أصحاب القرار السياسي. وهذا ما يدفع عديد الجامعات إلى خوض هذه المعركة من دون مراعاة جوانب أخلاقية، كالتاجر الذي يزيّن واجهة دكانه ليجلبك إلى الداخل، وهناك تكتشف حقائق أخرى تختلف عما تظهره الواجهة.

لا لجلد الذات.. ولا للمغالطة
لا أحد ينكر حجم الجهود التي بذلتها سلطات البلاد منذ الاستقلال في باب التعليم وتعميمه، وهذا شيء إيجابي نفخر به جميعا. وقد واصل أصحاب القرار هذه السياسة في التعليم العالي فشيّدوا المرافق الجامعية في كل الولايات، وصارت لدينا 115 مؤسسة جامعية عبر الوطن، وأصبح عدد طلبتنا -كنسبةٍ من عدد سكان البلاد- في أعلى القائمة العالمية. وهذا ما يفاخر به البعض، لكنّ البعض الآخر يراه تمييعا للجامعة يميل إلى العدد على حساب الكيف.
كما أن الجهود المتوالية للدولة أكدت على تكوين المكوِّنين في جميع المستويات، فنال مثلا آلاف الطلبة منحا دراسية في الخارج تدعمت بهم الجامعة بعد عودتهم، واستغنت عن المتعاونين الأجانب. وتبعت ذلك أحداثٌ مختلفة جعل مستوى التحصيل العلمي في جميع مراحل التعليم ينخفض. ونحن الآن نعيش هذه الظاهرة التي تعيشها أيضا معظم البلدان في العالم. كما انخفض مستوى المكوِّنين بشكل عامّ، وفي الجامعة بصفة خاصة.
والواضح أن محاولات رفع هذا المستوى لم تكلَّل إلى حد الآن بالنجاح، ولا نعتقد أن إسهام تركيز الجهود على الاعتناء بالتصنيفات العالمية سيكون ذا أهمية تُذكر. ومن المؤسف أن يغالط الإعلام الرأي العامّ بترديد عبارات بخصوص نتائج تلك التصنيفات تذرّ الرماد في عيون المواطنين، وتحجب الواقع المرير؛ فقد صدر مؤخرا تصنيفان عالميان -أوّلهما إسباني (“ويبومتركس) Webmetrics وثانيهما بريطاني (“تايمز” للتعليم العالي THE)- رأت فيهما صحافتُنا صدى إيجابيّا يبيّن تقدُّم الجامعة الجزائرية إذ نقرأ مثلا في صحيفة ناطقة بالفرنسية: “سجّلت الجامعات الجزائرية تقدُّما كبيرا في التصنيف العالمي لعام 2024، إذ أصبحت 13 جامعة جزائرية من بين الأفضل في العالم”!
ونحن نعلم أن هذا التصنيف يرتّب الجامعات حسب المحتوى الرقمي في مواقعها الإلكترونية، ولا يهتمُّ بأدائها. ولوصف الوضع نقول إن الجامعة التي تحشو موقعها بكل رديء ستفوز بمرتبة أفضل من تلك التي تكتفي بالقليل الجيد! فإذا علمنا أن هذا التصنيف له إصداران في السنة، وأنه يصنف أزيد من 30 ألف جامعة، سندرك أنه يستحيل على أصحاب التصنيف الالتفات إلى نوعية أداء الجامعة. وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت جامعات هولندية وسويسرية وهندية تنسحب من هذا التصنيف.

تناقضات
أما نحن فنتبنى هذا التصنيف الذي نجد فيه جامعة باب الزوار، نواة العلوم والتكنولوجيا عندنا، مثلا في المرتبة الثانية وطنيا والمرتبة 2453 عالميا. فهل هي “من الأفضل في العالم” كما تدّعي بعض صحافتنا؟ وهللت وسائل الإعلام لكون 13 جامعة جزائرية أدرِجت في هذا التصنيف وفاخرت باعتباره مكسبا وطنيا! والحقيقة أن هذا التصنيف طال جميع المؤسسات الجامعية الجزائرية (113 مؤسسة جزائرية مصنَّفة) آخرها المركز الجامعي بمغنية المصنَّف في المرتبة العالمية 31903… علما أن التصنيف شمل نحو 32000 مؤسسة جامعية. وهذه مغالطة أخرى.

في هذا التصنيف نجد جامعة باب الزوار في المرتبة الثانية وطنيا والمرتبة 2453 عالميا. فهل هي “من الأفضل في العالم” كما تدّعي بعض صحافتنا؟ وهلّلت وسائل الإعلام لكون 13 جامعة جزائرية أدرِجت في هذا التصنيف وفاخرت باعتباره مكسبا وطنيا، والحقيقة أن هذا التصنيف طال جميع المؤسسات الجامعية الجزائرية (113 مؤسسة جزائرية مصنَّفة) آخرها المركز الجامعي بمغنية المصنَّف في المرتبة العالمية 31903… علما أن التصنيف شمل نحو 32000 مؤسسة جامعية. وهذه مغالطة أخرى.

أما التصنيف الثاني الخاص بالجامعات الشابة (التي لا يتجاوز عمرها نصف قرن) فقد رَتَّب 21 جامعة جزائرية، كانت أولاها مرتبتها العالمية بين 400-500، وجامعاتنا الثلاث الموالية مرتّبة بين 500-600، والبقيّة (17 جامعة) كلها مرتّبة فوق 600، علما أن العدد الإجمالي للجامعات التي دخلت هذا التصنيف هو 673 جامعة. بمعنى أن هذه الجامعات الـ17 كلها تقع في ذيل قائمة الجامعات الشابة في العالم (أي ضمن الـ73 جامعة الأخيرة). فأين نحن من وصف جامعاتنا أنها “من الأفضل في العالم”؟ ومن أغرب الغرائب أن نجد جامعة باب الزوار -التي صُنِّفت الثَّانية في التصنيف الإسباني- قد تقهقرت في التصنيف البريطاني إلى المرتبة الأخيرة (أي المرتبة 21 وطنيا، ومن بين الـ73 جامعة الأخيرة في العالم)! فكيف نثق في هذه التقييمات ونوليها كل هذا الاهتمام؟
ومن مفارقات تصنيف الجامعات الشابة أننا نجد فيه الجامعة المسماة “سوربون- الجامعة” (Sorbonne Université) المختلفة عن “جامعة السوربون” الباريسية العريقة التي يعود تاريخ إنشائها إلى القرون الوسطى؛ فجامعة “سوربون-الجامعة” التي يبلغ عدد طلبتها 60 ألف طالب، منهم أزيد من ألف طالب دكتوراه، ظهرت إلى الوجود سنة 2018 وأدرجت تحت هذا الاسم جامعة السوربون المعروفة فضلا عن عدة جامعات أخرى راقية يعود تأسيسها إلى سنة 1971. ولما كانت “سوربون- الجامعة” حديثة التَّسمية صُنِّفت من بين الجامعات الشابة! والوضع ذاته نلاحظه في حالة الجامعة الباريسية المعروفة باسم “ساكلي Sacley التي أنشِئت عام 2019 أيضا بعد أن تجمّعت تحت هذا الاسم عدّة جامعات باريسية عريقة، ويبلغ عدد طلبتها 50 ألف طالب. فكيف –والحال هذه- تُصنَّف هاتان الجامعتان في قائمة الجامعات الشابة؟

حَــرِيٌّ بنا
نشير إلى هذه المفارقات والتناقضات لنؤكد مرة أخرى بأن السبيل الأنجع لتحسين مستوى جامعاتنا وأدائها ليس اللهث وراء التصنيفات العالمية، وحريّ بنا أن نركز اهتمامنا على العناصر التالية:
1- الحدّ من الإضرابات من حيث أتت، فالطالب عندنا الذي يقضي 5 سنوات في الجامعة هو أشبه بمن قضى 3 أو 4 سنوات في جامعة عادية لا تعرف الإضرابات. وفي كل الأحوال، الطالب هو من يدفع الثمن في كل الأحوال.
2- في جامعات العالم، يوضع تحت تصرّف كل مدرِّس مكتبٌ منفرد أو يتقاسمه مع زميله يقضي فيه معظم أوقات يومه بين تحضير المحاضرات واستقبال الطلبة وإجراء البحوث والتأليف. أما عندنا، فمعظم الأساتذة محرومون من هذه الخدمة، وتكتفي الجامعة بتخصيص قاعة جماعية لهؤلاء يكثر فيها الهرج والمرج، تعتبر قاعة لقاء ودردشة، وربما لقاءات مع طلبة المذكِّرات، مما يجعلها مكانا لا يمكن للمدرِّس العمل فيه بجدّ وتركيز. ومن تداعيات هذا الوضع أن الأستاذ يحلّ بالجامعة قُبيل إلقاء درسه، ويغادرها بعد إنهاء هذه المهمة، فأين الحياة الجامعية المنشودة ونشاطها الأكاديمي اليومي وحلقاتها البحثية والتربوية؟ كما أن توفير مكان إطعام لسلك الأساتذة داخل الحرم الجامعي أمرٌ بالغ الأهمية للمكوث مدة أطول في المؤسسة تحرس عليه كل جامعات العالم.
3- إعادة النظر في تكوين طلبة الدكتوراه؛ فتكوينهم الأساسي بالطريقة الحالية بالغُ السوء ويجعل هؤلاء الطلبة بحاجة إلى دروس ومحاضرات وتدريبات مكثفة خلال السنة الأولى. ومن شروط ذلك منع هذه الفئة من تعاطي نشاط آخر غير الدراسة خلال الفترة الأولى. وإلا سيتواصل تخريج دفعات من الدكاترة يصعب عليهم أداء مهمتهم التعليمية عند التوظيف، مما يؤثر على نوعية التأطير على نطاق واسع.
4- تربُّصات تحسين مستوى المدرِّسين: تم تداول هذه المسألة لكن الوزارة مصرّة على الطريقة الحالية التي بيّنت فشلها رغم ما تنفقه الدولة في هذا الخدمة. من الضَّروري إعادة النظر في هذا الموضوع.
5- تجهيز مخابر البحث بالأجهزة اللازمة وفي الوقت المناسب حتى لا يتوقف عمل الباحثين التجريبيين وطلبة الدكتوراه بسبب نقص العتاد والمواد المصنَّعة.
6- محاربة الغش بجميع أشكاله.
7- إعادة النظر في الكثير من المناهج والمقرِّرات التعليمية بمراعاة مضامين المناهج الدراسية ما قبل الجامعة ولغة تدريسها.
خلاصة القول إن التصنيفات العالمية ليست خالية من الإيجابيات، لكن مساوئ استغلال نتائجها كما هو عليه الحال الآن تُعدّ أكثر من محاسنه. وأجدر بنا أن ندرك عمق مشاكلنا والعمل على حلها بدل تجاوزها والتغني بنتائج التصنيفات العالمية المضللة.

مقالات ذات صلة