-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
خلوة ابن خلدون بقلعة بني سلامة في تاغزوت بتيارت

تراث وتاريخ يبحثان عن التفاتة جادة

الشروق أونلاين
  • 636
  • 0

على بعد خمسين كيلومترا من مدينة تيارت، تقع مدينة فرندة، وفي محيطها يستقطب الأنظار معلم يصنف كمعلم تراثي وطني يسمى خلوة ابن خلدون… حسب التصنيف الوطني للمعالم الأثرية والطبيعية سنة 1968 الذي تلا قانونا من العهد الاستعماري صنف الموقع كمعلم طبيعي سنة 1947… ولعل ذلك سر تسمية المكان بمغارة ابن خلدون بدل خلوة، وهي الكلمة ذات الدلالة الأعمق…

المعلم يقع في قلعة بني سلامة أو تاغزوت كما يسميها أهلها وهي قرية صغيرة تشكو من نقص كل شيء يأمل سكانها أن تنهض التنمية بالاهتمام بالمعلم عبر العقود لكن دون جدوى… فرغم قربها من مدينة فرندة بمسافة نحو 7 كلم أو أقل هناك نوع من الإهمال.

يطمع السكان في أن يغير الموقع التراثي حالهم لكن لا يبدو أن المنتخبين يحسون بهم ولا بأهمية ابن خلدون… يقول محمد وهو من سكان المنطقة، هناك بعض التغييرات البسيطة… سياج خشبي حول الموقع وجدار لحماية السياح من السقوط في مصب الشلال الواقع في جوار الخلوة، نافورة ماء جديدة تطمئن بوجود اهتمام ومعها سلم من التراب وفوقه الحجارة لتسهيل المرور بين الصخور بعد أن وقعت سقطات خطيرة وبالأخص لدى الطالبات اللائي يزرن المكان في الرحلات السياحية…

وحتى يتم القضاء على ظاهرة مرور الحيوانات عبر الموقع السياحي اهتدت إدارة الآثار إلى تخصيص ممر للرعاة وقطعانهم لكن دون جدوى فكثير منهم ما زال في عادته، ويبقى النقص في عدم وجود لافتة تخبر الزائرين عن تاريخ المكان وماهيته، ويأمل المهتمون بالشأن الثقافي أن تسرع البلدية في وضع نقطة مراقبة تنظم عمل الدليل السياحي الوحيد الذي يبدو أنه الممثل الوحيد لدائرة الآثار هناك…

الخلوة في مكان متميز من مرتفعات الأطلس التلّي، على ارتفاع 1260 متر عن سطح البحر حيث تقع قلعة بني سلامة كمكان آمن يشرف على سهول “وادي التَّحت” الشاسعة والخصبة. وفي هذه القلعة ثلاث مغارات صارت تعرف منذ القرن الرابع عشر الميلادي بمغارات ابن خلدون، أو خلوة ابن خلدون، كما يسميها بعض الباحثين في التاريخ.

تأثيرات الطبيعة تفقد اليوم الخلوة كثيرا من معالمها فهي تبدو كالنحت المتآكل ورغم ذلك لا تزال تقاوم عبث الإنسان، ولم تتحدث السلطات عن أي ترميم ممكن للحفاظ على ما بقي من المكان رغم تصريحات سابقة لوزير الثقافة ووزراء السياحة المتعاقبين ومعهم المسؤولون المحليون خصوصا بعد أن صارت مرعى ومجلس خمر.

الموقع التراثي اليوم يضم مغارة رئيسة على شكل غار صغير تتفرع منه غرف صغيرة مع ثلاث مغارات أصغر في الجوار وسط بقايا ما يبدو أنه مغارة أو مغارات منهارة… تقابل تلك الفتحات في جدران الجبال المحيطة بالخلوة وبقربها شلال صغير يسمع الزوار خرير مياهه وسط محيط غلبت عليه الصخور… فيما يطل المكان على مد البصر نحو الجنوب المرتفع على حاجز مائي يعكس زرقة السماء وخضرة الغابة وهما يفرضان رطوبة منعشة، فيما تنتشر أسفل الخلوة عند سفح الجبل زراعات صغيرة تمر خلالها قطعان الماشية التي تعبر عمق الموقع مُخلِفة وراءها ما يثير تقزز السياح الذين يتساءلون عن سر غياب السلطات التي وعدت بحماية الموقع…

تستقطب الخلوة عددا من السياح كضيوف من خارج الولاية في غالبيتهم أساتذة جامعيون أو طلبة من ولايات أخرى أو من خارج الوطن، يصلون إلى المكان كنقطة من نقاط البرنامج الترفيهي للمشاركين في المؤتمرات أو برامج التبادل حيث أصبح من تقاليد منظمي التظاهرات الثقافية خصوصا أن يقترحوا زيارة المعالم الأثرية في الولاية موازاة مع ترتيب رحلات مدرسية لتلاميذ مختلف البلديات لاستكشاف المواقع السياحية.

غير بعيد عن موقع الخلوة كانت السلطات قد بنت خلال سنوات الثمانينيات مركزا كبيرا للمحاضرات ترتبط به مجموعة من المساكن لإقامة الضيوف حيث كان التفكير في ذلك الوقت يتجه إلى ملتقى سنوي فكري يدعى إليه العلماء والباحثون لكن تبخر كل شيء بعد أن تعرض المركز للدمار قبل أن ترمم مرافقه وتحول إلى مفرزة للحرس البلدي خلال العشرية السوداء لتعود الأمور إلى الإهمال مجددا فصار المكان أطلالا شبيهة بما حدث للخلوة نفسها رغم فارق الزمن…

ارتبط اسم الخلوة بابن خلدون بعد أن أقام فيها أربع سنوات وألف فيها كتابه المقدمة حيث جاءها قادما من تلمسان البطحاء– غليزان حاليا- التي حل بها هاربا بعد أن ساءت علاقته مع لسان الدين الخطيب وزير بني الأحمر في غرناطة، إذ انتقل إلى قلعة بني سلامة من بلاد بني توجين فضيفوه وأكرموه وتوسطوا له لدى السلطان أبي حمو حتى يصرف النظر عنه فيستطيع أن يلحق به عائلته.

استقر ابن خلدون وطاب له المقام في قصره في قلعة بني سلامة طيلة خمس سنوات التي عاشها هناك من 1374 إلى 1378 ميلادية وشرع في كتابة تأملاته للواقع السياسي الاجتماعي والاقتصادي في المغرب الإسلامي في ذاك الزمان فكان ذلك خطوطا عريضة لما كان سيكتبه عن تاريخ المنطقة فسمي ذلك لاحقا بالمقدمة وفيها خلاصة أربع سنوات من الكتابة قبل أن يقرر في عامه الخامس المغادرة بعد أن راجع ما كتب ووجد أنه في حاجة إلى مراجع وورق يجدها في مسقط رأسه في تونس، كما أن رحلته ستكون فرصة له للخروج من العزلة التي عاشها لكن المرض الذي ألم به منعه، ليؤجل سفره إلى سنة 1378 للميلاد، حيث قصد تونس مرورا بقسنطينة.

لقد كان اختيار عبد الرحمن بن خلدون لقلعة بني سلامة بخلفية أنها كانت في معزل عن الصراع المذهبي والقبلي بين زعماء صنهاجة وزناتة الذي جاء كصورة من صور التنازع على بقايا الدولة الرستمية فلقد اختارها كبديل عن أجواء الاضطراب التي كان قد عايشها في دواوين الحكام وانتهت بسجنه وتنكر أصدقائه له، إذ جاء في فترة تراجعت فيها الحياة الحضرية في المغرب الإسلامي وتجلى طغيان البداوة على الحياة.

خلوة ابن خلدون لا تزال في حاجة إلى التفاتة جادة لحمايتها وتحويلها إلى موقع سياحي فعلي يثمن المكان كمهد لعلم جديد أسسه ابن خلدون في المكان وأشاع به على الإنسانية فترقية الموقع تساهم حتما في تحسين حياة سكان المنطقة وتجعل الخلوة مصدر تحول في حياتهم، فقيمة الموقع التراثي لم يصل إليها أحد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!