العالم
تقرير سنوي يرصد آثاره الاستراتيجية على القضية الفلسطينية

تداعيات زلزال “طوفان الأقصى” تحت مجهر مركز الجزيرة

ع.ع
  • 321
  • 0
ح.م
صورة للإصدار

صدر حديثا التقرير السنوي لمركز الجزيرة للدراسات بالدوحة، رصد من خلاله التداعيات التي هزت المنطقة العربية والإقليمية والعالم، إثر تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” على يد المقاومة الفلسطينية.

وقال تقرير الجزيرة المُحكّم إن هجوم السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان مفاجئا وغير مسبوق في حجمه وآثاره المباشرة واللاحقة، بينما ردت إسرائيل بشن عدوان واسع وشامل على قطاع غزة بهدف الانتقام وإعادة بناء أمنها ووجودها على أسس جديدة، خلافا لنظام الردع الذي صاغت على ضوئه استراتيجيتها السابقة.

وقد تقاطع هذا الحدث مع منازلات استراتيجية وأجندات متنافسة على المستوى الدولي والإقليمي في سياق عربي متهالك وأزمات متعددة ومفتوحة ووضع فلسطيني هش.

على المستوى الدولي، أسهم حدث السابع من أكتوبر في إضعاف مرتكزات الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، التي تهدف إلى تطبيع وضع إسرائيل ودمجها في نسيج المنطقة أمنيا واقتصاديا وسياسيا، مع ضمان تفوقها المطلق على الصعيد العسكري، ما يجعل من دول المنطقة تابعة لها وليست مكافئة أو شريكة. في المقابل تتخفف أميركا تدريجيا من عبء إسرائيل لتتفرغ لمواجهة أو احتواء القوى المناوئة لها، مثل إيران إقليميا والصين وروسيا عالميا. لكن الحرب على غزة وصمود المقاومة خلخل هذه المرتكزات وأكد عدم جاهزية إسرائيل لهذا الدور وحاجتها الحيوية المستمرة للدعم الأميركي والغربي بشكل عام.

داخل الولايات المتحدة وعموم البلدان الغربية، كشفت الحرب عن اتجاه شعبي متزايد في أوساط الشباب خاصة، لمساندة القضية الفلسطينية ودعم المقاومة ومناهضة الاحتلال. كما أطلقت الحرب دينامية داخلية أفسحت المجال لشخصيات عامة وقيادات سياسية في تلك البلدان لمساءلة مؤسسات الحكم والتشريع على دعمها غير المشروط لإسرائيل. من جهة أخرى، تتزايد الأهمية السياسية لكتلة الناخبين من العرب والمسلمين في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ولتحالفاتهم مع فئات أخرى من المجتمع الأميركي. وهذه كلها تطورات غير مسبوقة ستكون لها آثار مهمّة خاصة على المديين المتوسط والبعيد.

على المستوى الإقليمي، تتجه الأحداث لتجعل من إيران أكبر المستفيدين من هذه الحرب، بما تملكه من نفوذ في المنطقة وقدرة على إدارة قوتها الردعية، وتوزيع منسوب الضغط عبر أذرعها وحلفائها بكلفة منخفضة. فقد أدى هذا الضغط على جبهات متعددة إلى تقييد حركة الولايات المتحدة وإسرائيل وضيّق خياراتهما، وسيجعل من طهران طرفا مهمّا في أي ترتيبات أمنية في المنطقة، مع استمرار تعزيز نفوذها الإقليمي.

عربيا، أربكت الحرب مسار التطبيع وأضعفت حجة الدول التي ربطت رهانها عليه بقوة إسرائيل الردعية وقدرتها على ملء الفراغ الذي سيتركه تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة. فقد كشفت الأحداث عن مواطن ضعف أساسية في هذه القوة، وبيّنت عجز إسرائيل عن حماية أمنها بمفردها وحاجتها الحيوية الدائمة للدعم والحماية من قبل الولايات المتحدة.

ورغم هذه الحقائق، يُستبعد أن يتوقف مسار التطبيع نهائيا، ولكن الدول المنخرطة فيه ستضطر لمراجعة مرتكزات أمنها القومي والإقليمي والاستعداد للتعايش مع النفوذ الإيراني المتزايد.

في ذات السياق، وفي ظل تراجع الدعم العربي الرسمي للقضية الفلسطينية، باتت الجماعات المسلحة من غير الدول تلعب دورا رئيسيا في شؤون الحرب والسلام مع إسرائيل. وستفرض هذه الجماعات على جميع الأطراف نمطا جديدا في التعامل معها ومع استراتيجياتها وقدراتها العسكرية المتنامية. تزداد أهمية هذا المتغير بترابط عناصره وتشكيله بيئة مشتركة تتعدد فيها جبهات المواجهة. وسيحتّم ذلك على إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموما إعادة حساباتهم في المستقبل قبل أي عدوان جديد على غزة والفلسطينيين.

فلسطينيا، وجّه العدوان الإسرائيلي على غزة وصمود المقاومة وإنجازاتها الميدانية ضربة للقوى الفلسطينية المراهنة على اتفاق أوسلو وتسوياته السياسية والأمنية، وكذلك لمن راهن على صفقة القرن وترتيباتها على الأرض. وزادت اعتداءات الاحتلال المتكررة على سكان الضفة، في غياب أي دور للسلطة الفلسطينية، من شعبية المقاومة هناك. وستكون لهذا التحول آثار سلبية على مستقبل السلطة ودورها وموقعها في ترتيبات ما بعد الحرب، وستتوالى الجهود والمبادرات العربية والدولية لإصلاحها وإعادة هيكلتها بما يضفي عليها قدرا من الفاعلية ويجعلها بالفعل إطارا جامعا لكل الفصائل والتوجهات الفلسطينية.

إعلاميا، أسهمت شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب بعض وسائل الإعلام العربية، في مقدمتها شبكة الجزيرة، بدور فعّال في نقل وتوثيق حقيقة العدوان الإسرائيلي وآثاره المدمّرة. وكشفت زيف الرواية الإسرائيلية التي تهاوت وفقدت مرتكزاتها الأخلاقية والسياسية والتاريخية لدى قطاع واسع من مستخدمي تلك الوسائط، لا سيما من جيل الشباب. وسيكون هذا المجال ساحة أخرى في المستقبل لمنافسة حادة ومعارك ضارية بين مختلف القوى المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي للتحكم في السرديات وتوجيهها.

خلاصات استراتيجية  

وخلص التقرير المهم إلى أن الحرب على غزة أطلقت جملة من المسارات بعضها غير قابل للعودة إلى الوراء. ومن المحتمل أن تتحول تلك المسارات إلى ديناميات مستقلة بذاتها تستمر في الاشتغال حتى بعد نهاية الحرب الراهنة. مثال ذلك، الانقسامات المتزايدة في صلب المجتمع الإسرائيلي، مع تحوله نحو المزيد من التطرف اليميني، واتساع الشرخ بين إسرائيل وعدد من الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، والتحولات الجارية على صعيد الرأي العام العالمي باتجاه مناهضة الاحتلال ومناصرة القضية الفلسطينية، والمسار القضائي وما يعنيه من ملاحقة قادة الاحتلال أمام المحاكم الدولية والوطنية.

وأخرج “طوفان الأقصى” القضية الفلسطينية من متاهات اتفاق أوسلو منتهي الصلاحية، ووضعها مجددا على طاولة النقاش العالمي، وأكد على حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وحقهم في بناء دولتهم المستقلة. وسيكون من تداعيات هذا “الطوفان” إعادة النظر بجدية أكبر في طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني وأفقه السياسي.

وكشفت الحرب الإسرائيلية على غزة ضعف استجابة السلطة الفلسطينية لهذا الحدث الكبير، وأكدت على ضرورة إصلاح المؤسسات الفلسطينية وإعادة هيكلتها على أسس جديدة، وعلى رأسها مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، من أجل توحيد الصف الفلسطيني تحت مظلة جامعة لمختلف الساحات.

في هذه الحرب، تبين كذلك مدى الضعف الذي يعاني منه النظام العربي الرسمي. فقد عجزت مختلف الدول العربية عن مد يد العون لسكان غزة حتى على صعيد الإغاثة الإنسانية. فقد استمر تراجع الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية منذ بدأ بالتصدع حين لجأت مصر لتطبيع علاقاتها مع دولة الاحتلال في نهاية سبعينات القرن الماضي. وانتقل الموقف العربي من مرحلة كانت فيها الجيوش العربية طرفا مباشرا في الصراع مع إسرائيل، إلى مرحلة غاب فيها أي دور مؤثر، باستثناء الوساطة التي تجريها قطر ومصر، إلى جانب الولايات المتحدة، بين المقاومة وإسرائيل.

ورغم استمرار الدعم الغربي والأميركي تحديدا لإسرائيل، إلا أن العلاقة بين الولايات المتحدة والحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو شهدت تراجعا حادا خلال هذه الحرب. فقد تعددت محاور الخلاف حول حجم العملية العسكرية، وعمليات الإغاثة الإنسانية، ومصير حل الدولتين، ودور اليمين المتطرف في الحكومة. ولا يبدو أن هذه الخلافات التي فجرتها الحرب الراهنة ستنتهي مع نهاية العمليات العسكرية. فعمق الشرخ يتجاوز المواقف السياسية الآنية، وهو مرشح للاستمرار كونه يعبر عن تغيير جيلي في علاقة السياسيين الأميركيين بالمشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بشكل عام.

كما  تراجع مسار التطبيع نسبيا، ولكنه قد يستعيد زخمه الذي فقده بسبب الحرب على غزة والحرج الذي سبّبته فظاعة الجرائم الإسرائيلية التي لا يمكن تبريرها. وقد تجد بعض الدول العربية الراغبة في التطبيع مسوغا للمضي في هذا المسار مقابل بعض المنافع التي يمكن أن تحصل عليها ضمن ترتيبات ما بعد الحرب.

وبينت الحرب أهمية شبكات التواصل الاجتماعي بما تملكه من حرية نسبية مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية التي أسهمت تاريخيا في دعم السردية الإسرائيلية وترسيخها في الغرب. فقد أسهمت هذه الشبكات في كشف الحقائق وإنارة الرأي العام العالمي والغربي تحديدا، وخاصة في أوساط الفئات الشبابية الأكثر قابلية للتحرر من قيود سردية الاحتلال وتقبل السردية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة