-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين التيار والتنظيم!

التهامي مجوري
  • 337
  • 0
بين التيار والتنظيم!

من الناحية المبدئية، كل منظور إصلاحي تغييري يعدُّ تيارا، ثقافيا كان أو سياسيا أو فكريا، إذ يوجد في كل مجتمع تياراتٌ بقدر ما فيه من توجهات ثقافية وسياسية وفكرية: مثل التيار الإسلامي، التيار العلماني، التيار الثوري، التيار الإصلاحي… بينما التنظيم يمثّل الهياكل التي تتبنى طروحات التيارات الموجودة في المجتمع، كهياكل تنظيمية تهدف إلى غايات معيَّنة بوسائل معينة، بفترض فيها أن تكون برامج ومشاريع عملية، ولذلك قد يوجد في التيار الواحد عدة تنظيمات؛ لأن التيارات في الغالب تضع التصورات الكلية العامة للأمور، والتنظيمات تنزل تلك التصورات الكلية إلى برامج ومشاريع عملية في واقع الناس.

ورغم هذا الفصل البيِّن بين الموضوعين، لا يزال يوجد تداخلٌ كبير بين التوجهين إذ يصعب الفصل بينهما في بعض الأحيان، بسبب ما بين الجانبين من تشابه في عرض الغايات والأهداف، فالتيار يريد لأفكار معينة وقناعات أن تنتشر بين الناس ويتبنونها، والتنظيم أيضا يعمل على أن يكون له أتباعٌ وقاعدة جماهيرية عريضة لصناعة رأي عامّ وتبني طروحاته والدفاع عنه وعنها، ولكنهما يفترقان في مسألة الانتماء ومستوى القناعات.

على أنّ التيار يُبنى على الأفراد الذين اقتنعوا بطروحاته وتبنُّوها وكأنّها الحقيقة التي لا يوجد غيرها، ومن ثم لا يشعرون بأنهم ينتمون إلا إلى المحاضن الطبيعية، كالانتماء إلى الأسرة والانتماء إلى المجتمع والدولة والانتماء إلى الدين وإلى الإنسانية، وكل ذلك يصب في تثبيت القيم التي يعمل التيار لبثها في الجتمعات. بينما التنظيم قد ينطلق من الغاية ذاتها التي يعمل لها التيار ولكن مع مرور الأيام يجد نفسه حريصا على انتماء الناس لهياكله أكثر من حرصه على شيوع القيم التي يدعو إليها بين الناس، فتتولد بذلك الحزبية الضيقة؛ لأن التنظيم يعنيه الكم العددي للمنتمين، في إطار التدافع بين التنظيمات والتسارات في المجتمع، بينما التيار لا يعنيه ذلك؛ لأن المهم عنده هو انتشار القيم التي يدعو إليها، ليتبناها الناس.

والتيار يتعدد بتعدد الاهتمامات، فيكون تيارا فكريا أو تيارا سياسيا أو تيارا ثقافيا أو دعويا… بينما التنظيم يتمثل في التشكيلات التنظيمية: الجمعيات والجماعات والأحزاب التي تنبثق عن التيارات، إذ يمكن أن يتولد عن كل تيار أكثر من تنظيم كما أسلفنا، ثم إن هذه التنظيمات تتعدد بتعدد الاجتهادات التي يمارسها كل تنظيم في واقع الناس، ممارسة لأنشطة معينة استوعبها واستوعب منافعها لتحقيق مكسب ما.

التيار الإسلامي مثلا قبيل سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 وبعدها، تمثل في ظهور الدعوة إلى “الجامعة الإسلامية” التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، التي حاول إنزالها إلى الواقع مع تلميذه محمد عبده، ولكنهما اختلفا في تشخيص الواقع، فانبثق عن هذا التيار توجُّهان رئيسيان هما: التوجه السياسي الذي تبناه الأفغاني، والتوجه الإصلاحي الذي تبناه محمد عبده، ولكن التيار بقي واحدا ويشمل كل ما من شأنه أن يكون سببا في النهوض بالأمة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

إن أسباب ظهور هذين التوجهين كان بسبب ثقل المشروع أمام نهضة كبيرة ظهرت في العالم، أفقدت الأمة بوصلتها انبهارا بما يتمتع به الغرب وعجزا عن مواكبته. ولذلك ظهر تيار جديد وهو التيار الحداثي على أيدي فئة من أبناء الأمة الإسلامية، وكان ذلك ابتداء من انبهار رفاعة الطهطاوي وطه حسين لاحقا وغيرهما من النخب الإسلامية التي زرعت بذور الهزيمة النفسية في قلوب الأمة، فولد التيار الذي تحول إلى حجر عثرة في طريق نهضة الأمة بسبب تحلله من مرجعية الأمة الثقافية الدينية إيمانا بما تطرح الحداثة من قيم حضارية سياسية جديدة.

وما إن سقطت الخلافة الإسلامية في 1924 حتى ظهر التياران الرئيسيان في العالم الإسلامي: التيار الإسلامي والوطني المحافظ، والتيار الحداثي.

أما التيار الإسلامي الوطني المحافظ فقد ظهر له توجُّهان كما أسلفنا، وهما التوجه الحضاري الذي ينظر إلى أن ضعف الأمة لم يبدأ بسقوط الخلافة الإسلامية، وإنما بدأ مع فقدان المجتمع المسلم قيما ثقافية كانت سببا في نهضته الأولى، والتوجه السياسي الذي يرى أن سقوط الأمة كان بسقوط الخلافة الإسلامية، وانبثق عن هذين التوجهين، تصورات كثيرة للكيفية التي تنهض بها الأمة، وحاولت تجسيدها في التنظيمات بعد ذلك.

وأما التيار الحداثي فقد انبثق عنه توجهان أيضا، أحدهما توجه إصلاحي يؤمن بالترقيعات الآنية خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب؛ لأنه يرى فيه المنقذ للمجتمعات المتخلفة، وتوجه آخر استقلالي ثوري، يرى أن النهضة تتحقق بالاستقلال السياسي عن الغرب وإن تبنى طروحاته وأفكاره طمعا في النهوض بالمجتمع عبر التقليد والمحاكاة.

وبعد قرنين من التجربة التنظيمية الثقافية والسياسية الموجودة على أرض الواقع، أحزابا وجمعيات وجماعات، ها هي الأمة اليوم تعلن عن فشل تنظيماتها في تحقيق المطلوب، وتعود إلى فكرة التيارات بدل التنظيمات.

التيار الإسلامي مثلا قبيل سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924 وبعدها، تمثل في ظهور الدعوة إلى “الجامعة الإسلامية” التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، التي حاول إنزالها إلى الواقع مع تلميذه محمد عبده، ولكنهما اختلفا في تشخيص الواقع، فانبثق عن هذا التيار توجُّهان رئيسيان هما: التوجه السياسي الذي تبناه الأفغاني، والتوجه الإصلاحي الذي تبناه محمد عبده، ولكن التيار بقي واحدا ويشمل كل ما من شأنه أن يكون سببا في النهوض بالأمة، سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

وهذه الفكرة التي هي محل اهتمام نخب العالم الإسلامي اليوم قد انتبه إليها رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عهدها الأول منذ أكثر من 90 سنة، إذ ركز المؤسِّسون على أن يكون تنظيمهم عُلمائيا، أي إيجاد القيادة الثقافية والاجتماعية للأمة التي فقدت قيادتها السياسية، وقد نبه ابن باديس في رسالته إلى شيخ الأزهر إلى أهمية المؤسسة العُلمائية في غياب المؤسسة السياسية، ومن ثم كان الاهتمام على صناعة تيار عبر الأنشطة التي تقوم بها النخبة، من أجل إيجاد حملة لِلْهَمِّ العامّ، بدل العمل على تضخيم التنظيمات بغسيل الدماغ الحزبي، الذي يعمل على إيجاد أتباع وتوسيع الوعاء الانتخابي، بدل الاهتمام بالشأن العامّ والإصلاح الذي ينشئ مناضلين مهيئين للقيام بالواجب، وهو التوجه الذي تبناه مالك بن نبي رحمه الله الذي لم يكن ميالا للتنظيمات التي يعدّها وسيلة من وسائل إشاعة الفضائل أكثر منها هياكل يهتم بها لذاتها.

وبحكم تعطش الأمة إلى الحرية والاستقلال، فقد انصبّ جهدها فيما كانت تتوقع أن تنال به ما فقدت من مقوماتها وهو الجانب السياسي، فإن ما عملت على تجسيده جمعية العلماء وكذلك ما قام به مالك بن نبي، لم يُكتب له النجاح، بل في بعض الأحيان حورب؛ لأنه لا يتماشى والخيار السياسي العامّ الذي تبنته التنظيمات المختلفة، وها هي الفكرة تظهر من جديد فيما يدعو إليه الدكتور جاسم سلطان القطري، بعدما انفصل عن جماعة الإخوان المسملين في قطر في ثمانينيات القرن الماضي، فقد دعا الرجل إلى العمل على إيجاد تيار في الأمة وليس على إنشاء التنظيمات.

ذلك أن ما يحققه التيار من إشاعة القيم التي تستحقها المجتمعات واحتضان المجتمعات لها، لا يمكن أن يحققه التنظيم الذي نأى بنفسه عن المجتمع وابتعد عنه، إذ أصبح المجتمع أو بعضه لا يرى نفسه جزءا من التنظيم، كما أن التنظيم يشعر بشيء من الفوقية والتميز، فيقع الانفصال والتباعد.

لا شك أن التنظيمات كلها تعمل على أن تكون ممثلة للمجتمع في حاجاته المادية والمعنوية؛ بل منهم من يعتبر كل الذين يؤمنون بمبادئه هم منه، كما رُوي عن عبد الحميد مهري الأمين العام لجبهة التحرير الوطني رحمه الله، عندما قيل له لا بد من الاهتمام بقواعد الحزب… فقال لهم إن كل من يؤمن بنداء أول نوفمبر مناضل بجبهة التحرير.

ولكن الانتماء التنظيمي يقف حائلا بين الفئات المنتمية للتنظيمات المختلفة، ولو كانت هذه التنظيمات من تيار واحد؛ بل تُضعف من قوة القناعات لدى المنتمين للتيار الواحد، وذلك ظاهرٌ في الحملات الانتخابية والخلافات السياسية الجزئية، فما وقع بين الأرسيدي والأفافاس من خلاف في أزمة التسعينيات لم يقع بين التيارات المتباينة، رغم أنهما من تيار واحد، وما وقع أيضا بين الفيس المُحلّ وحماس في الأزمة ذاتها، لم يقع بين الخصوم السياسيين العاديين كما بين العلماني والإسلامي مثلا!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!