الرأي

اللوحة الرقمية في المدرسة: نعمة أو نقمة؟

من المواضيع الساخنة في العالم منذ نحو 15 سنة إدخال اللوحة الرقمية إلى المدارس ودمجها ضمن أدوات التعلم لما تعود به من فائدة على التحصيل العلمي لدى التلاميذ. وما زاد الطلب على هذه الأداة الإلكترونية قبل سنوات تفشي جائحة كورونا عبر العالم. وبطبيعة الحال، فقد ركبنا في الجزائر هذه الموجة، وصرنا ننادي بتعميمها على المدارس مركّزين على الأضرار الجسمية الناجمة عن “ثقل المحفظة” التي يستوجب على التلميذ نقلها من المنزل إلى المدرسة، ذهابا وإيابا. وكان في لقاء السيد وزير التربية في مطلع هذا الأسبوع تأكيد على المضيّ قدُما في هذا الاتجاه.

الإطلاع على تجارب من سبقونا واجب وطني
لكن من سبقونا إلى استخدام اللوحة الرقمية المعوِّضة للورق في الدول المتقدمة، وخاصة الدول الإسكندنافية المتميزة في المجال التربوي، هم الآن يعيدون النظر في هذا الخيار إثر ظهور دراسات عديدة تُثبت خطورة هذا المنحى على التحصيل العلمي للتلميذ بغضِّ النظر عن مشكل ثقل المحفظة.
هذه السويد توقف التعليم الرقمي وتعود هذه السنة إلى الكتب المدرسية بعد 10 سنوات من الريادة في استعمال التكنولوجيا الرقمية في المدارس إذ حلت الشاشات في السويد محل الكتب المدرسية الورقية. وصار التلاميذ السويديون لا يشرعون في استخدام القلم والورق إلا في السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية، بل كانوا يستعملون الشاشات بدل الورق حتى في الاختبارات وحلول التمارين والمسائل المختلفة. وها هم اليوم يكتشفون أن في ذلك إفراطًا.
وقد اقتنع خبراء التربية السويديون بعد هذه التجربة الطويلة بأن إستراتيجية اللجوء إلى الشاشة وحدها في تعليم الطفل كان خطأ، فمنذ الاستخدام الواسع للشاشة في الأقسام الدراسية، تبيّن أن مستوى التلاميذ انخفض بشكل محسوس، إذ قفزت نسبة الأطفال السويديين البالغين من العمر 10 سنوات الذين يواجهون صعوبات في القراءة من 12% إلى 19% خلال خمس سنوات، وذلك ما جعل وزيرة التعليم السويدية تحذر مؤخرا من هذا الوضع قائلة: “إننا نشهد أزمة في القراءة” لدى التلاميذ.

اقتنع خبراء التربية السويديون بعد هذه التجربة الطويلة بأن إستراتيجية اللجوء إلى الشاشة وحدها في تعليم الطفل كان خطأ، فمنذ الاستخدام الواسع للشاشة في الأقسام الدراسية، تبيّن أن مستوى التلاميذ انخفض بشكل محسوس، إذ قفزت نسبة الأطفال السويديين البالغين من العمر 10 سنوات الذين يواجهون صعوبات في القراءة من 12% إلى 19% خلال خمس سنوات.

لذلك، قررت السويد التراجع عن استعمال التكنولوجيا الرقمية، وعادت إلى طباعة الكتب المدرسية ورقيا خلال العام الدراسي 2023-2024 حتى يتمكن كل تلميذ من الحصول على كتاب ورقي لكل مادة. وقد كلفها ذلك ما يعادل 58 مليون يورو رغم قلة عدد تلاميذها نظرا لانخفاض تعداد السكان. تجدر الإشارة هنا إلى أن التمدرس في هذا البلد مجاني، بما في ذلك كافة الأدوات والمستلزمات المدرسية وإطعام للتلاميذ.
والسويد ليست الوحيدة التي قامت بمراجعة سياستها التعليمية وتعاملها مع الأداة التكنولوجية، فالأخبار تشير إلى أن هولندا قرَّرت حظر استخدام الهواتف واللوحات الالكترونية والساعات الذكية في المدارس اعتبارًا من العام الجاري، باستثناء ما له صلة بالتلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصة. واتخذت العديد من الدول حول العالم إجراءات مماثلة، كما هو الحال في إيطاليا التي منعت استخدام الهواتف المحمولة في المدارس في نهاية السنة 2022، وكذلك فعلت الصين في سنة 2021 وفرنسا في السنة 2018.
أما في الولايات المتحدة، التي تمنع فيها معظم المدارس استخدام الهواتف المحمولة، فقد أجريت مقابلات مع العديد من خبراء التعليم لمعرفة ما إذا كان هذا النوع من التدابير مفيدًا للتعلم. وفي هذا السياق، يشير أحد خبراء صحة الأطفال إلى أن استخدام الأدوات التكنولوجية لا يتوافق مع التعلم المدرسي ذلك أن “العقل البشري غير قادر على التفكير في أكثر من شيء واحد في آن واحد. ولذا فإن ما نعتبره تعدّد المهام هو في الواقع تبديل سريع للمهام”. بمعنى آخر، عندما يستمع التلميذ إلى المعلم بأذن واحدة في الوقت الذي ينظر فيه إلى الشاشة، لا يمكنه التعلم والاستيعاب بطريقة سليمة.
وفي فرنسا، اتَّجه التعليم الحكومي، منذ سنة 2014، نحو التكنولوجيا الرقمية في المدرسة. والآن هناك انشغالٌ بهذا الجانب إذ أن الأدوات الرقمية تشغل مساحة متزايدة في المدرسة. وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجرتها وزارة التربية في هذا البلد أنَّ أغلب المعلمين يدركون الفوائد التعليمية للتكنولوجيا الرقمية. بينما نجد خبراء التربية يرون أن الأكثر أهمية في هذا الموضوع هو الجمع بين الشاشة والكتاب المدرسي بالشكل الأمثل لتلبية الاحتياجات. وحسب هؤلاء، لا يبدو أن المشكلة تكمن في الشاشة كأداة، بل في كيفية استخدامها.

تخوف الأولياء
ومع ذلك، يقف كثير من الأولياء والخبراء التربويين ضد استخدام الشاشات في التعليم نظرا لآثارها السلبية على صحة التلميذ؛ ففي فرنسا، لم ينتظر الأولياء ردا من السلطات العمومية لينطلقوا في حملة قوية ضد الشاشات، وراحوا يؤسسون جمعيات ضد الغزو الرقمي للمدارس.
وحول تبرير إدخال الشاشة بثقل المحفظة تعقّب إحدى الأمهات: “لقد قيل لنا إن الهدف من ذلك هو حماية ظهور أبنائنا، ولكني عندما أرى أطفالي ينهارون أمام شاشاتهم، فإنني أخشى أكثر على عقولهم”! وما يعيبه أيضا الأولياء أن الحواسيب واللوحات الرقمية أصبحت أدوات مدرسية يمكن استخدامها في البيت لأداء الواجبات المنزلية، مما يعقّد مهمة الأولياء عندما يتعلق الأمر بوضع حدود لاستعمال الشاشات.
وتدفع هذه الأسباب في عديد البلدان المزيد من الأولياء إلى سحب أبنائهم من المدارس الحكومية لإلحاقهم بمؤسسات خاصة تمنع استعمال الشاشات. وهي ظاهرة منتشرة في الولايات المتحدة حيث يدفع الأولياء تكاليف إضافية من أجل التعليم من دون شاشات، في حين لم يعد التلميذ في الأوساط الأخرى يتعلم حتى الكتابة في 45 ولاية من الولايات المتحدة.
ولكن لماذا هذا السباق نحو التحوّل الرقمي في المدارس، وما هي العواقب على صحة الطفل؟ في خضمّ مواجهة انتشار الشاشات في مدارس بعض البلدان التي سارت على طريق التعليم الرقمي، يدق الأطباء ناقوس الخطر لأنهم أدركوا أن ما بين 30% و50% من التلاميذ يواجهون مشاكل صحية وغيرها بسبب التعرض المفرط للشاشات. ووفقا لدراسة أجرتها المجلة العلمية البريطانية “ذي لنست”The Lancet سنة 2018، فإن القدرات المعرفية للأطفال – لاسيما في موضوع التركيز والذاكرة- تنخفض لدى الطفل إذا ما تجاوز مدة ساعتين يوميا أمام الشاشات. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الشاشات تعيق قدرتهم على التواصل. وقد لاحظ الخبراء أن الأطفال عندما يكونون أمام الشاشة فهم لا يهتمون بأقرانهم ولا بالمعلم الذي يخاطبهم.
من جهة أخرى، يربط المتتبعون ظاهرة تعميم استعمال اللوحات الرقمية والشاشات في المدارس بجانب الربح المادي للشركات الاقتصادية، ففي عديد الدول نجد كبريات الشركات في الحقل التكنولوجي شريكة الحكومات في المجال التربوي. ذلك أن سوق الحلول التعليمية الرقمية يسيل لعاب الكثير من رجال الأعمال.
ما يهمنا في هذا المقام هو التنبيه إلى أنه لا ينبغي الركض دون رويّة وراء استعمال الأدوات التكنولوجية، من ألواح رقمية وغيرها من الأدوات التكنولوجية الموصولة وغير الموصولة، بل يتعيّن علينا تتبع ما آلت إليه مخرجات تجارب من سبقونا في هذا المجال وتصويب بوصلتنا بما تقتضيه مصلحة تلاميذنا ومدرستنا.

مقالات ذات صلة