-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الكيان الصهيوني من التّطبيع السياسي إلى أمل التّطبيع الثقافي

بقلم: فريد حاجي
  • 330
  • 0
الكيان الصهيوني من التّطبيع السياسي إلى أمل التّطبيع الثقافي

كانت قضيّة فلسطين مسألة مبدئية لدى كلّ الأنظمة العربية، وهي الرّفض القاطع لاستنبات كيان دخيل على أرض عربية، ورفض قرار التقسيم قبل إعلان دولة الكيان في 14/05/1948م وبعده، لكن المسمّى “المجتمع الدولي” راح يقدّم الحلول لهذه القضيّة منذ نكبة 1948م على أساس أنّها مجرّد أزمة بين العالم العربي والكيان يمكن إدارتها عبر التّسويق لهذا الأخير كواقع ينبغي التكيّف معه، ولم ينظر إليها كقضيّة احتلال، متغاضيا بذلك عن شعب تمّ تهجيره عنوة من أرضه.

من هذا المنطلق، جاءت إرهاصات التّأسيس لفكرة التّطبيع التي بدأت بعد حرب أكتوبر 1973م بمحادثات الكيلو 101 لفضّ الاشتباك بين القوّات المصرية والإسرائيلية على ضفاف قناة السويس وسيناء ممّا أفضى أخيرا إلى أوّل مدخل لمستنقع التطبيع المتمثّل في معاهدة كامب ديفيد الموقّعة بين مصر والكيان في 26/03/1979 برعاية أمريكية.

بهذه الخطوة، حطّم “السادات” ذلك “الطابو” واعتبر أنّ حرب أكتوبر 1973 ستكون آخر الحروب مع الكيان، وأنّ 99% من أوراق الّلعبة في يد أمريكا. ثمّ جاء خليفته “مبارك” ليكمل المسار، الذي دفع القيادة الفلسطينية إلى التطبيع عبر إبرام اتّفاقية أوسلو مع الكيان في سبتمبر 1993م، وانضمّ بعدها الأردن إلى القافلة بتوقيعه اتّفاقية وادي عربة في 26/10/1994م. أمّا بعض دول الخليج – عرب أمريكا كما سمّاهم “محمد الغزالي” رحمه الله- فكانت تُقيم علاقات تحت أسماء متعدّدة: مكاتب رعاية المصالح، مكاتب تجارية، مكاتب ارتباط للمفاوضات مع الكيان سرّا منذ زمن بعيد.

هذا التّعاون لدول الخليج، ظهر إلى العلن بمجيء “ترامب”، صاحب “صفقة القرن” والتي خرج من رحمها ما يسمّى “اتفاق أبراهام”، إذ أعلن في 13/08/2020، عن توصّل الإمارات والكيان إلى اتّفاق للتطبيع، ثمّ مع البحرين، وتمّ التّوقيع على ذلك بالبيت الأبيض في 15/09/2020، لتعميق العلاقات الدبلوماسية والعسكرية والتجارية، وتلاهما بعد ذلك المغرب في ديسمبر 2020م والسّودان في 2021م.

وفي عهد الصهيوني “بايدن” ظهر ما يسمّى “منتدى النقب” بديلا عن الرباعيّة الدولية، وضمّ الكيان، أمريكا، مصر، الإمارات، المغرب، والبحرين، وانضمّ إليه مؤخّرا الصّومال، وجزر القمر. ومن بين أهدافه تعميق العلاقات بين هذه الأطراف، وتوسيع عمليّة التّطبيع لتشمل السعودية بخاصّة، وهي صاحبة مبادرة السّلام العربية في العام 2002م ببيروت، ومفادها الأرض مقابل السّلام، أي التطبيع مقابل عودة الكيان إلى حدود 4 جوان 1967م وحلّ عادل لمشكلة اللّاجئين الفلسطينيين، وهو الطّلب الذي يرفضه الكيانُ جملة وتفصيلا، بل هو يتمدّد في أراضي الضفّة الغربية، ويهوِّد المقدّسات، وكلّما كانت هناك مقاومةٌ للاحتلال، ردّ عليها الكيان بعنف بالغ، وعُدّت تلك الهمجيّة في قاموس حلفائه الغربيّين “دفاعا عن النفس”. وللإشارة، كشف الراحل “عرفات” عن”عُمْلَةٍ صهيونيّة” حديثة نُقِشَ عليها خارطة الكيان الكبرى تشمل كلّ أراضي لبنان والأردن وثلثي سوريا وثلاثة أرباع العراق وثُلث المملكة العربية السعوديّة (منطقة خيبر والمدينة المنوَّرة). وليس من المستبعد إن مضى الكيان في الإقدام على هذا المشروع -لا قدّر الله- أن نسمع ثانيّة، إن كان في العمر بقيّة “لازمة حقّ الدّفاع عن النفس” خاصّة في ظلّ الوهن والتّشرذم العربيّين.

لقد أجمع العرب في السّابق على ضرورة تحقيق السّلام قبل التّطبيع، لكنّ أمريكا قلبت المعادلة، أي التّطبيع هو المدخل من أجل السّلام، ومع ذلك قال بعض العرب “سمعنا وأطعنا”، وهو ما أفضي إلى شرعنة بقاء الكيان، ثمّ تحقيق أهداف ذات أبعاد سياسيّة واقتصاديّة وثقافية. هذا البُعد الأخير هو أخطر المسارات،  والبعدان الآخران قد يتغيّران لكونهما ليسا ثابتين.

ولكي ندرك أهميّة بُعد الفعل الثقافي الذي يسعى الكيان إلى تفعيله في إطار عمليّة التطبيع، ينبغي التذكير بدور الاستشراق الفرنسي في الجزائر في مسعاه إلى التعرّف على ما يشكّل بُنية المجتمع؛ إذ وضع المجتمع الجزائري في دائرة المنظور حين حلّ بين ظهرانيه؛ وراح يُتَابع مفردات تشكّلِهِ، والدّوافع البعيدة لسلوكيّاته كفرد، وجماعات، وشعب، ودولة. وقد كان من وراء المستشرقين فاعلون استعماريّون، أمثال “دو لاكمب” الأمين العام للحكومة في الجزائر (1848-1858م) الذي عاصر ثلاثةَ حكّام عامّين (شارون، دوتبول، راندون) وقال: “… يجب على فرنسا أن لا تنتهي مَهَمّتُها عند حدود القضاء على نظام حكم سابق، بل لا بدّ أن تطال المعركة الآن ومستقبلا البُنيةَ الذّهنية…”. وقال النقيب “إدوارد دو نوفو”: “… هؤلاء السُذّج لا يؤمنون إلاّ بالرّجال الذين يأتون باسم الدّين والله ومحمّد (ص) بزعم إنقاذهم… ويدفعون بهم إلى جحيم الانتفاضة… اعملوا وكدّوا فالوصول للعمق هو المبتغى…”. أمّا الدافع إلى ذلك حسب “جورج هاردي” :… لأنّ انتصار السّلاح لا يعني النّصر الكامل، إنّ القوّة تبني الإمبراطوريات لكنّها ليست هي التي تضمن لها الدّوام، إنّ الرّؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظلّ القلوب تُغذّي نار الحقد والرّغبة في الانتقام، يجب إخضاع النّفوس بعد أن تمّ إخضاع الأبدان”.

ولا شكّ، أنّ الصّهاينة استلهموا الدروس من هذا التاريخ –وليس ذلك حال العرب كما قال موشي ديان ذات يوم- تاريخ الاستشراق الفرنسي، الذي تشّكلت مساحاتٌ كبيرة منه في دوائر السياسة والاقتصاد والإيديولوجيا، وحتّى في أروقة المؤسّسة الدينية. ذلك ما ينسحب على الكيان، ويكفي الاستشهادُ في هذا الصّدد بالمستشرق الصهيوني “شمعون شامير” سفير الكيان في مصر (1988-1991م) والأردن (1995- 1997) على التوالي، حين قال: “… إنّ السّلام مع العرب يجب أن يحقّق الهدف المثالي لنا، وهو ما يتجاوز الاعترافَ الرّسمي إلى الاستعداد للحياة والتّعاون معنا، وهذا يفترض إحداث تغيير في المنظومة الفكرية للعرب، تبدأ بتقبّل “إسرائيل” كدولة ذات سيادة في المنطقة كمقدّمة لقبولها بأساسها الأيديولوجي الصهيوني”.

ذلك ما يشتغل عليه الصهاينة اليوم، وفي مخيالهم تجارب نظرائهم الاستعماريّين، أي السّعي إلى تغيير “المنظومة الفكرية”، أي الثقافة كطريقة من طرائق التّفكير، والتّعبير، وإعادة تشكيلها، كونها الملجأ القيمي الذي تتحصّن به شعوب المنطقة. والمعروف، أنّ عمليّة الاختراق الثقافي ليست مسألة تحقيق هدف آني، بل هي سيرورة ولوج فكري وحسّي، وسيرورة إغراء وتغلغل واستيلاء على الأذهان، بل وحتّى ضياع شخصيّة المجتمع المستهدَف كونها تجري خِفْيَة تطال على المدى الطويل البُنى الثقافية التحتيّة للجماعات، حتّى تغدو العلاقات بين الكيان وبين شعوب الدول المطبّعة حالة طبيعيّة.

هذا التوجّه، يمكن استشفافه، من كتاب “ش. شامير” المستشرق الصهيوني، الذي جاء تحت عنوان “غصن الزيتون: قصّة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة” الصادر العام 2016 م، وفي ثناياه سيقف المتصفّح علامَ كان يشتغل، ولماذا؟ لقد تحدّث فيه مثلا عن إنشاء “مركز كابلان لدراسة تاريخ مصر وإسرائيل” من طرف جامعة تل أبيب العام 1980م وهو الذي ترأّسه، وحضر حفلَ تدشينه باحثون مصريون، منهم الدكتور حسين فوزي. وقد شجّعه على العمل -كما يقول- وجودُ شخصّيات مصريّة ثقافية وأكاديمية تؤيّد مشروع السّلام أمثال “توفيق الحكيم” و”نجيب محفوظ” و”يوسف إدريس”. من جهة أخرى، كان ينظّم حواراتٍ فكريّةَ وعلميّةً مع مجموعة من الأكاديميين المصريين، على غرار ما كان يجري في”الجمعية الرّشيدية” العام 1902م في الجزائر من طرف المعلم “سارو” مثلا. إلى جانب ذلك، تمّ إقامة “مركز أكاديمي مصري/ إسرائيلي” في القاهرة بتاريخ 25/02/1982م بهدف الشّراكة الأكاديمية مع المصريّين للبحث في عدّة مجالات، وبخاصّة القضايا الاستشراقية، واليهود، والأركيولوجيا. كما قام المركز بدعوة بعثة مكوّنة من 180 موسيقيًّا مصريًّا إلى مهرجان الربيع في “تل أبيب” كان من بينهم “يوسف شوقي” الذي جمع أعمالا فنّية لـ120 فنّانًا مصريّا لعرضها في الكنيست، على أن تُهدى أعمالُهم إلى كلّ نائب في الكنيست أو وزير.

كشف الراحل “عرفات” عن”عُمْلَةٍ صهيونيّة” حديثة نُقِشَ عليها خارطة الكيان الكبرى تشمل كلّ أراضي لبنان والأردن وثلثي سوريا وثلاثة أرباع العراق وثُلث المملكة العربية السعوديّة (منطقة خيبر والمدينة المنوَّرة). وليس من المستبعد إن مضى الكيان في الإقدام على هذا المشروع -لا قدّر الله- أن نسمع ثانيّة “لازمة حقّ الدّفاع عن النفس” خاصّة في ظلّ الوهن والتّشرذم العربيّين.

لم يقتصر الأمرُ على ذلك؛ إذ أصبح المركزُ نقطةَ استقطاب للطلبة المصريّين، وذلك كمدخل لفهم عميق للوعي المصري؛ إذ كتب هؤلاء الطلبة قصائد شعريّة بالعبرية لتعطي صورة عنهم وعن شخصيّاتهم وتعاملهم، كما نظّم المركز لقاءاتٍ مشتركة بين الطّلبة المصريّين ونظرائهم الصهاينة، سعيا إلى فهم الفوارق بينهما، ثمّ قام بزيارة الزّوايا الصوفيّة ووصف تفاصيلها، لباسا وثقافة وطقوسا، كي يدرس أكثر البنى الثقافية للمجتمع المصري، كما فعل “إدوارد دو نوفو” (1845م) و”لويس رين” (1884م) وغيرهما في الجزائر.

مهما يكن، حاول “شامير” فهم آليات اشتغال العقل المصري و”الإسرائيلي” في آن واحد، واستكشاف المميّزات الثقافية لكليهما، ورؤية كلّ منهما للعلوم والمعرفة، وللعائلة ووظيفتها الاجتماعية، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة الفرد بالدولة، والتوجّهات الدينية… بعبارة أخرى، كان عليه أن يتغلغل في البنى الثقافية لشرائح المجتمع على اختلاف مشاربها وتوجّهاتها.

حسب “علي راشد النعيمي” رئيس لجنة الدّفاع والداخلية في المجلس الاتحادي الإماراتي، فإنّ بلاده “ستغيّر الخطاب الديني والمناهج التعليمية حتّى يشعر الإسرائيليُّ بالطّمأنينة والانتماء”، وصولا إلى إعداد جيل يرى أنّه لا ضير في احتلال واغتصاب الكيان لأرض عربية، وإنّما هو أمر عادي.

بالنسبة لدولة الإمارات، اعتبر “ترامب” تطبيعها مع الكيان إنجازا دبلوماسيّا تاريخيّا، وخطوة نحو بناء شرق أوسط أكثر سلاما وأمنا وازدهارا. وكبادرة لهذا الاتفاق في جانبه الثقافي احتضنت إمارتا أبو ظبي ودبي كنيسين (معبدين) لليهود، يأتوهما سرّا، إلى أن تمّ إنشاء أوّل معبد يهودي رسمي في البلاد والأكبر في المنطقة العام 2022م في أبو ظبي أُطلق عليه “بيت العائلة الإبراهيمية”. من ناحية أخرى، أبرمت اتفاقية مع الكيان لتعزيز التّعاون الفنّي والثقافي في مجالات السينما والتلفزيون، وتعاون في مجالات صناعة المحتوى بهدف تعزيز ثقافة التسامح لتُرسي دعائم التعاون بين شعبي الإمارات والكيان، والأكثر من ذلك، وحسب “علي راشد النعيمي” رئيس لجنة الدّفاع والداخلية في المجلس الاتحادي الإماراتي فإنّ بلاده “ستغيّر الخطاب الديني والمناهج التعليمية حتّى يشعر الإسرائيليُّ بالطّمأنينة والانتماء”، وصولا إلى إعداد جيل يرى أنّه لا ضير في احتلال واغتصاب الكيان لأرض عربية، وإنّما هو أمر عادي.

وما يحزّ في النفس، أنّنا بتنا نقرأ  لبعض المثّقفين العرب من يتحدّث عن “الحقّ الطبيعي والإلهي والتاريخيّ لليهود في فلسطين؟!”، ويستشهدون في ذلك بالقرآن الكريم، بأنّه لم ترد فيه كلمة “فلسطين”، بيد أنّ اسم إسرائيل ذُكر عشرات المرّات. ومنهم من تبنّى ما استند إليه الصّهاينة من أساطير لشرعنة اغتصابهم أرضَ فلسطين، في وقت نفى ذلك مؤرّخون يهود. ومنهم من دعا إلى ترجمة الأدب العبري إلى العربيّة، لإدخال كاتب وروائي وشاعر من الكيان في النسيج الثقافي العربي تحت غطاء معرفة الآخر تارة، والتّثاقف في أحايين أخرى. وفي هذا الإطار جاء عقد مؤتمر في تونس برعاية منظّمة اليونسكو ما بين  19 و21/09/ 1994م تحت شعار “دراسة أبعاد الإبداع الشّعري والقصصي في العالم العربي في مطلع القرن الواحد والعشرين” وقد حضره الكاتب الصهيوني والمنظّر الثقافي الأوّل لعملية التطبيع العربي “سامي ميخائيل” وبحضور العديد من الأدباء والكتّاب العرب، أمثال “طاهر بن جلون” و”أميل حبيبي” الذي حصل على جائزة “السّلام الثقافي” وسلّمها إيّاه “إسحاق رابين”.

ما يحزّ في النفس، أنّنا بتنا نقرأ  لبعض المثّقفين العرب من يتحدّث عن “الحقّ الطبيعي والإلهي والتاريخيّ لليهود في فلسطين؟!”، ويستشهدون في ذلك بالقرآن الكريم، بأنّه لم ترد فيه كلمة “فلسطين”، بيد أنّ اسم إسرائيل ذُكر عشرات المرّات. ومنهم من تبنّى ما استند إليه الصّهاينة من أساطير لشرعنة اغتصابهم أرضَ فلسطين، في وقت نفى ذلك مؤرّخون يهود.

أخيرا، فإنّ الكيان قد حقّق علاقات ثقافيّة على مستوى بعض النخب مثلما حقّق علاقات سياسية وتجارية وأَمنيّة مع بعض الحكّام. لكن الكيان يريد الذّهاب أبعد من ذلك، وهو إعادة تشكيل المنطقة ثقافيّا على الصعيد الأفقي، وذلك بالعمل على ملامسة شخصيّة المجتمعات العربيّة في أعمق أعماقها، لتجريدها ممّا يحمله أيّ فرد في أعماق لا شعوره، وهي ثقافته الأصليّة منذ بداية تكوّنها عبر التاريخ    -كما يقول علماء التّحليل النفسي- وينزع عنها الشّعور بالخصوصيّة الثقافية التي تعني التّمايز عن الآخر، والاتّصاف بملامح ذاتيّة تختلف عنه. لذا، فإنّ الخشية من تمكّن الكيان من التطبيع الثقافي مع الشعوب -لا قدّر الله- هي فقدان روح المقاومة والحصانة الثقافيّة لدى الشعوب.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!