الرأي

العقيدة المناهضة للعقائد

عمار يزلي
  • 796
  • 0

في كل مرة يحدث الضجيج حول السمات الثقافية الدينية المميزة للمسلمات كتعبير عن هويتهن الدينية ولانتمائهن الثقافي الفكري الحضاري، يكون هذا الضجيج مصدره فرنسا الرسمية.

هذا البلد الموغل تاريخيا في الغلو ضد كل الديانات السماوية بأشكال متفاوتة في الحدة، انطلاقا من “دين اللاتديُّن” الذي كرسته العلمانية الإلحادية المادية الناكرة لكل ما هو روحي وديني بدءا من المسيحية الكاثوليكية، العلمانية التي أسست للدولة الفرنسية الحالية انطلاقا من شعارات وقيم الثورة الفرنسية على الملكية الإقطاعية المتحالفة مع الكنيسة، كانت فرنسا في ذلك أول بلد يؤسس لعلمانية ليست فقط غير متدينة، ناكرة، بل معادية للدين كيفما كان هذا الدين.

هذا الفكر كان نتاجا لفلسفة عصر الأنوار الذي بشّر بالعلم بعد ظلمات القرون الوسطى التي تأسست على الدجل الكنسي. كان قرن الأنوار عصر فتوحات علمية وعقلانية لم يكن كل روادها يؤلّهون العقل والأنسوت على حساب الإيمان واللاهوت، إنما كانوا كلهم عقلانيين، يحكّمون العقل والمنطق العلمي فيما يمكن للعلم المادي الفيزيقي أن يختبره ويبرهن عليه مخبريا أو عقليا عن طريق مناهج علمية وفلسفة مبنية على الاستنباط والمنطلق. غير أن غلاة العلميين المنبهرين بالاكتشافات العلمية لعصر الأنوار، يبدو أنهم اعتقدوا أنهم كانوا عقلانيين أكثر من غيرهم من العقلانيين المؤمنين، هذه العقلانية عندهم كانت تنحو إلى إلغاء فكرة الثنائية الكلاسيكية في الفكر والفلسفة الإغريقية الممثلة في المادة والروح.

نزوعهم نحو إنكار الروحية والاعتماد فقط على المادية أسقطهم في الغلو الصبياني الذي يعتمد على التجسيد وليس التجريد، والذي يؤمن فقط بما يدخل نطاق الحواس الخمس والقابل للتجريب معمليًّا. هذا التوجه القاصر هو السائد حاليا في الأوساط العلمية ضمن العلمانية الفرنسية بالذات وليس العلمانية الغربية بشكل عامّ. لا العلمانية الانجلوسكسونية ولا العلمانية البراغماتية الشرقية، ولا يمكن مقارنة العلمانية الفرنسية الا بالعلمانية الشيوعية التي هي علمانية إلحادية في الأصل.

لهذا السبب، فإن كل شططٍ تجاه الدين بشكل عامّ وكراهيةٍ له، كان مصدره فرنسا العلمانية. بدأ هذا بالمسيحية الكاثوليكية، هذا المذهب الذي كان يمثل سلطة الكنيسة البابوية، إذ كانت الثورة الفرنسية، القائمة على شعار الثالوث: الحرية والأخوّة والعدالة، مسنودة من برجوازية المدن المنهَكة اقتصاديا من طرف السلطة الإقطاعية والكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت من ضمنها الطائفة اليهودية التي كانت تعيش في غيتوهات الحرمان والتمييز الديني والطائفي. هؤلاء اليهود كانوا هم أحد المستفيدين من الثورة الفرنسية، إن لم يكونوا أكبر مستفيدٍ منها على الإطلاق. كان ذلك إلى حين، بعد تحالف ظرفي لم يعمر طويلا مع نابليون بونابارت. هذا الأخير الذي تفطّن إلى مكائدهم واستفادتهم من الأغيار، كدأبهم وكعاداتهم، وتفطن إلى مخططاتهم الماسونية، فاستدار عليهم وقلّب لهم ظهر المجن، بعد تحالف ظرفي. جاءت بعدها فرنسا اللائكية المعادية للسامية والتي عمَّرت نحو قرن وهذا إلى غاية نهاية الحرب العالمية، إذ استفادت هذه الطائفة من جديد من مأساة الحرب وحوادث المحارق النازية ولعبت على المظلومية واستثمرت في المأساة الإنسانية وصارت اليهودية عنوانا للتعاطف أوَّلا قبل أن تصبح فيما بعد عنوانا للاحتلال.

لهذا نرى فرنسا العلمانية الإلحادية تنتقل من كراهية دين إلى آخر وصولا إلى الإسلام اليوم. هذا الدينُ العدو، الذي تفرّغت اليه العلمانية الإلحادية العنصرية القومية والتي أتت حتى على مرتكزاتها الكلاسيكية في فلسفة الأنوار وتنكَّرت لبعض من مبادئها التأسيسية ومنها العلمانية أصلا التي تعتمد على الحرية والعدالة.

مقالات ذات صلة