منوعات
إسماعيل يبرير يتحدث عن روايته الجديدة:

“العاشقان الخجولان” يدشن تجربة مختلفة في مساري ويسائل أزمات الإنسان المعاصر

زهية منصر
  • 546
  • 0

استطاع إسماعيل يبرير، مذ دخل مغامرة الكتابة، أن يفرض نفسه ككاتب ويترك بصمته المختلفة عن مجاليه في الشعر والقصة والرواية، حيث يبدو يبرير ذا موهبة خاصة في نحت شخصيات أعماله وسبر أغوارها.

ومن بين أعماله التي لفتت الانتباه، رواية “العاشقان الخجولان متاهة الإنسان الحجري” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة آسيا جبار. في هذا الحوار، يتحدث يبرير عن مغامرة هذه الرواية، وما يميزها عن أعماله السابقة بوصفها مساءلة عميقة لمأزق الإنسان المعاصر.

تطرح رواية “العاشقان الخجولان” تجربة مختلفة عن أعمالك السابقة، كيف بدأت مغامرة التجريب فيها ؟ أي ماذا أثارك تحديدا في الموضوع؟

كنت وما أزال أعتقد أنّ الاشتغال على مسائل تنطلق من الأفكار والمشاعر تجربة سياقيّة، لا أرى أبدا أنّ ما يكتبه أي روائي هو انفصال عمّا يفكّر فيه وما يُفكّر فيه حوله، الرّوائي كائن مسرود بقدر ما هو سارد، كما قلت تختلف تجربتي في هذه الرّواية عن الأعمال السّابقة، ولكن ليس من حيث قناعات الكتابة أو المسعى الكتابي عموما، ربّما أفضّل أن اعتبرها كتابة تأمليّة لكاتب قدّم أعمالا نصف ناجحة، في رواياتي السّابقة خاصة الثلاثيّة “باردة كأنثى، وصيّة المعتوه، مولى الحيرة” كنت أكتب المكان، وأشتغل على الفضاء، وعبره أكتب تاريخ الإنسان الذي غيّر المكان وتغيّر فيه، وكنت أسائل السياسي والتاريخي وأحاول أن أستوعب ماهية الإنسان الجزائري في مداه، ثمّ حدث تغيّر حين كتبت العاشقان الخجولان، وقتها كنت خاضعا لجرح قد نشترك فيه، يتعلّق بيأس شامل، كنت قد تعرّضت لبعض الخيبات المتلاحقة في العمل والكتابة والعلاقات.

تعود إسماعيل يبرير أن يراهن في أعماله خاصة في مولى الحيرة ووصية المعتوه على التاريخ والمكان، لكنك في هذا العمل راهنت على جوهر الإنسان في تمرده على الظروف؟

الإنسان الجزائري كما إنسان العالم هو موضوع متاهة، في الرواية غضب لواحد من هذا النموذج، البطل محفوظ كما البطلة شموسة يقدّمان خطاب الرّفض لما يفرضه منطق العصر الرّاهن من قفز على المنطق واحتقار للإنسان وحظر للرّأي والصّوت، هذا العصر الذي ينمط الوجود ليس لديه أي حرج للإخلال بالقيم وتغييرها وتلوينها، نحن نلاحظ هذا حولنا، في اليومي، وفي التعامل معه المحيط، حتى في العلاقات الدولية وتحرّك الخريطة الجيوسياسيّة، العالم أصبح قاس جدّا على من يفكّر وغريب جدّا على من يتأمّل وإجباري جدّا على الجميع، هذه مجرّد رواية تتجرّد من المكان وتتطلّع إلى الإنسان قبل وبعد الحدود، ربّما تكون هذه المحاولة الأولى لي في هذا السياق، لكنّها نشرت بعد المحاولة الثانية، فقد كتبتها قبل رواية “منبوذو العصافير”، لكنّني لم انشرها إلا لاحقا، وطبعا لسوء حظّ “منبوذو العصافير” لم تلق الاحتفاء ولا الترويج وقد نشرت عشيّة كورونا، وتحدّثت عن الطاعون الذي تنقذ منه العصافير، وهي أيضا رواية تدور في مكان مجهول، كأن يكون عالما افتراضيا في الشبكة، يحرّكه الرّاوي مارك، وكما أشرت أعتقد أنّ الاشتغال على الإنسان واجب جماعي، فهو مهدّد أن يتراجع في القيمة والوجود، هناك مهن تحتفي كلّ مرحلة، وهلال سنوات سيكون الإنسان مقيّدا بالذكاء الاصطناعي، وسيجد نفسه عبد للآلة التي تقرّر مصيره، لهذا فلا حرج أن نحتفي بالإنسان ونثير الأسئلة حوله.

في هذا العمل تركز كثيرا على سبر أغوار الشخصيات الداخلية ونحتها، أي راهنت على محفوظ وشموسة وصديقات البطل الأخريات وقد جاء السرد في قالب عبثي، هل يعني هذا أن الإنسان المعاصر رهين عبثيته التي صنعها بنفسه؟

الإنسان المعاصر لا ينتبه إلى كونه معاصرا أو تاريخيّا أو قادما من المستقبل، هو إنسان اللّحظة، بفعل علاقته مع وسائل التواصل العاجلة، واقترابه من المعلومات، وهذا سبب كفيل بنفيه من اهتمامات أخرى كالتاريخ والاستشراف، وزرعه في الرّاهن كأنّه لحظة أبديّة، وهو إنسان تنكّر، فاللّحظة التي يمجّدها سرعان ما يتخلّى عنها في سبيل اللّحظة التي تداهمه، الإنسان الحالي هو إنسان الانفصال، يعقد اتفاقاته بناء على المزاج والرغبة ويتنكّر لها بتغيّر المزاج والرغبة، صحيح أن العالم مقسوم إلى جهات ومراتب، ولكنّها لا تختلف إلا في الترف ومسافاته، فالذي يراه البعض بعيدا يصل بأسرع مما يعتقدون، وكل التكنولوجيات ممكنة وقريبة بقدر ما هي بعيدة، أمّا ممكنات العبث فقد تضاعفت بينما تراجعت القيم الإنسانيّة، وملامح ووجوه العبث تتجلى يوميا في ممارسات مجموعات وأفراد وهيئات ودول.

جوهر القصة في العاشقان الخجولان هو الحب الذي ينتصر في النهاية يعني بعبارة أخرى الحضارة المادية لم تدمر الإنسان من الداخل، ألا يبدو هذا خطابا متناقضا بالنظر للقالب العبثي للقصة؟

ربّما هناك خطاب مضمر يقول بأنّ الحبّ قد ينقذنا من سطوة مخالب العصر، وهي حيلة محفوظ الذي جاء من عصر حجري خال من الأحقاد ليعلّم النّاس المحبّة، أنا أتّفق معك أنّ النقلة من عدميّة وعبثيّة إنسان هذا العصر إلى صوفيّة وهدوء ومحبّة الإنسان الحجري فيها صدمة تلقي، لكنّها بالنّسبة لي ككاتب رهان وللقارئ حريته في تلقي هذه المفارقة.

رغم الموضوع الفلسفي الذي يعالجه النص، لكن حافظ يبرير على لغة جماليات اللّغة هل هو الوفاء للشاعر بداخلك؟

هناك بعض الكتاب أو المعلقين على الكتابات ممّن يعتقدون أنّ اللغة وجمالياتها ليست رهان كتابة، ويركزون على البناء، ثمّ تجد أنّ ما يروّجون له من نصوص تكاد تكون يوميات بلغة سطحيّة وحكاية ساذجة، ما نكتبه هو أدب، والكتابة في الأدب تختلف عن الكتابة للصحافة اليومية كما تختلف الكتابة لنوع صحفي وصفي عن كتابة الخبر، والكتابة الأدبيّة ليست تقارير مباشرة أو نصوص للمبتدئين، يوجد حقل كتابي كامل لليافعين والأطفال وهو برأيي أكثر تطلّبا للجماليات واللّغة من الكتابة للكبار، أنا أضحك في الكثير من الأحيان حين يصادفني تعليق لأستاذ جامعي أو صحفي أو كاتب حول قوة لغة كاتب ما، كأنّ امتلاك لغة جميلة يعيق نمو النص أو بناءه، بخصوص الشّاعر الذي انكفأ عندي فهو مقيم ولا يصل إلى السرد أبدا، لقد كتبت رواية عن الشّاعر، لم يحتف بها الشّعراء مع الأسف! وخلالها قاربت مكابدات الشّاعر مع كونه شاعرا، ليس من السهل أن يكون الشّاعر جزءا من هذا العالم، ولا أعتقد أن العالم يسع إلى ألاف الشّعراء، الشّعراء هم القليلون الذين لم ننتبه إلى أصواتهم.

هل نفهم أنك قد تنشر شعرا في القادم؟

آخر ديوان نشرته كان “أسلّي غربتي بدفء الرّخام” قبل ستّ سنوات، وهو مكتوب قبل أزيد من عشرين سنة! لكنّ نشر الشّعر أصعب كإجراء ومسعى بالنّسبة لي، فأنا أشكّ أنّ هذه النصوص المتواضعة قد تضيف شيئا للشعر أو لمريديه.

بعد هذا العمل الذي أبان عن تغير واضح في الموضوع وطريقة الكتابة، هل يعني أن إسماعيل يبرير دشن مرحلة جديدة في الكتابة الأدبية؟

أنا أكتب بالتفكير، لا أربط الكتابة بأي حالة خارج نصيّة، أحاول بما لديّ من أدوات محدودة أن أشيّد مشروعا سرديّا، أعتقد أنّ “منبوذو العصافير” و”العاشقان الخجولان” هما نصان من مرحلة كتابية مختلفة عمّا سبق، والتجربة متواصلة، أمامي ورشة مفتوحة والحياة تضمن لنا التجارب والقراءة تعدّل اعتدادنا وتوهّمنا.

كيف يمكن أن يكون الأدب محليّا جزائريّا على الأقل في غياب مكان وهويّة صريحة لشخوص الرّواية؟

أعتقد أنّ الكاتب الذي كنته في النصوص السابقة كان جزائريا باشتغاله على المكان وملامح الشخصية الجزائريّة في أضيق التفاصيل، بل إنّ بعضهم يعتبر أن رواياتي موغلة في الجزئيات والتفاصيل، وامتدادا لأدب إسماعيل يبرير الجزائري هناك نصوص تترفّع قليلا عن أناها وتدّعي التفتّح على العالم وقضاياه، نحن جزء من العالم وقد تشغلنا أسئلة مشتركة، ورغم ذلك اعتقد أنّ الجزائريّ يمكنه أن يكتشف أنّ أبطال وشخوص الرّواية جزائريّون فعلا، بل حتّى الإشارات لا تحرج من الجزائر، فلوحة “العاشقان الخجولان” لوحة جزائريّة رسمت على صخور الجزائر قبل آلاف السنوات، وهي بداية الرواية ومنتهاها.

مقالات ذات صلة