الطاهر بن عيشة للشروق:لقبوني بإمبراطور النميمة لكنني خائف من قول كل الحقيقة
مازال الطاهر بن عيشة حتى وهو في سن السادسة والثمانين، ذلك الرحالة الذي لا يعرف الهدوء ويعشق المشاكسة والتمرد على كل شيء. مازال “إمبراطور النميمة في الجزائر”، كما يسميه البعض وفيا للشيوعي فيه، ومازال يؤمن بأن الاشتراكية صالحة للوجود في زمن العولمة. الجلوس إليه يشبه تصفح موسوعة عابرة للأزمان والعصور، ينتقل بك من السياسة إلى الأدب إلى تاريخ الأجناس، مازال يجد متعته في ألف ليلة وليلة وكتب أبومنصور الحلاج. عاصر واجتمع بأكثر من شخصية متناقضة من كارلوس إلى بومدين وأحمد فؤاد نجم، لكنه ما زال دائما الطاهر بن عيشة الذي يحتفظ بتفاصيل الأحداث بشكل رهيب مجبر أنت أن تضع أسئلتك جانبا وتستمع إليه وهو يروي بعض محطاته وأسراره.
-
الطاهر بن عيشة قريب من التيارات اليسارية، لكنه لم ينخرط في أي حزب، فهل إلى هذا الحد لم تجد إطارا يجسد الأفكار التي تؤمن بها؟
-
في عام 1964 كنت مسئول الإعلام في مجلس القسمة لحزب جبهة التحرير الوطني ولكنني إنسان صادق مع نفسي، لاحظت أن الجماعة الذين كانوا معي بنفس الحزب أولى أن أناضل ضدهم، حيث كان فيهم الطمّاع والانتهازي والوصولي، فكتبت رسالة للأمين العام للحزب يومها محمد بوخالفة أعلنت فيها “تجميد علاقتي بحزب جبهة التحرير إلى أن يعود فعلا حزبا يحترم المبادئ ومناضلوه ملتزمون بتطبيق هذه المبادئ، ومن ذلك اليوم وأنا أناضل لوحدي، وأعتبر نفسي حزبا قائما بذاته وأنا القائل ذات يوم ”هذه البلاد ما بقا فيها نورمال غير البيرة”.
-
-
كانت هذه هي الجملة التي قلتها في مقهى ونقلت لبومدين، كيف حدث ذلك؟
-
قلتها في مقهى اللوتس لكن هناك من نقلها لبومدين، فطلب أن يراني في ختام العشاء الذي أقيم على شرفنا في نهاية اللقاء الأول لاتحاد الكتاب العرب بالجزائر، فتوّجست خيفة وأيقنت أن نهايتي قد حلت، فأوصيت أصدقائي أن يقولوا لزوجتي أن تأخذ الأولاد وتعود إلى البلاد في حال ما إذا لم أعد، لكن عندما التقيت بومدين ورأيته يبتسم وجدته بعيدا عن الصورة التي كانت له في ذهني، سألني عن احتياجاتي ضاحكا وقال لي: هل ما زلت تؤمن أنه “لا شيء نورمال في هذه البلاد إلا البيرة”، فقلت له أنني مازلت مؤمنا بها أكثر من أي وقت مضى وأكبر مثال على ذلك أن وزيرك للثورة الزراعية ضاقت به الجزائر بما رحبت ولم يجد أين يسكن إلا تأميم المعهد المخصص لتربية الأسماك، فقال لي بومدين أنت شخص واعر”.
-
-
لم تكن على وفاق مع بومدين لكنه لم يسجنك كما فعل مع غيرك من المثقفين؟
-
لم يسجني بومدين لأنني في 1964 كتبت مقالا في صفحة ونصف في مجلة الثورة والعمل، أنتقد فيه الأوضاع، بعدما اكتشفت أنني كنت مبهورا ببن بلة، وكنت مخطئا في تقديري، وهذا في الوقت الذي لم يتكلم أي أحد، ورغم أنني كنت ضد الانقلاب من حيث المبدأ.
-
-
من بين الأحزاب الموجودة في الساحة أيها أقرب إلى طرح الطاهر بن عيشة؟
-
.. ولا حزب ولا أؤمن بوجود أحزاب سياسية ولا معارضة، لأن الأحزاب التي تقبل أن تسير في الطابور لا يمكن أن تمثل طموحات الشارع.
-
-
ما هي في نظرك أوجه التقارب بين الإسلام والاشتراكية، وما رأيك في ما يعرف اليوم بالمعارضة الإسلامية؟
-
هناك من يمارس الدجل باسم الإسلام مثلما مارسه البعض الآخر باسم الاشتراكية ومثلما مارسه البعض الآخر باسم الوطنية، أما أوجه التقارب بين الإسلام والاشتراكية، فسبق وأن ناقشتها في محاضرة بعنوان”اليسار في الإسلام” بالمركز الثقافي الإسلامي في وقت مولود قاسم، وكانت مناظرة مع أحمد حماني رحمه الله، الذي جنّد كل النخبة الدينية لمناقشتي، واستمرت المحاضرة ساعتين والنقاش دام3 ليال إلى غاية الصباح، وفي الليلة الرابعة كنت ذاهبا إلى موسكو للقاء المسلمين السوفيات، فقال لي أحمد حماني “منبع الهم الذي يأتينا من هناك، ولم أفصل والشيخ حماني في (نتيجة) المناظرة بسبب ذلك السفر. لقد كان رحمه الله رجل دين فاضل فقيها كبيرا لكن المشكلة لم تكن في القضية الفقهية، لكن في الأفكار السياسية التي أرى أن اليساريين أقرب إلى الإسلام فيما يتعلق بالأحاديث والآيات التي تدعو للتعاون وخدمة الصالح الاجتماعي، وهذا بالضبط ما يرفض بعض أدعياء التيار الإسلامي التسليم به.
-
-
برغم انتقادك لكل الرؤساء المتعاقبين على الجزائر لكنك قريب من الشاذلي بن جديد هل لأنه منحك وسام الاستحقاق في عهده؟
-
لست من طالبي الأوسمة والجوائز، ولكن أرى أن الشاذلي بن جديد رجل بسيط، لكنه لم يكن مسئولا عن أزمات الجزائر وحاول أن يعمل ما في وسعه للبلد، وكان يهتم بالمثقفين وكان الوحيد الذي فهمني لا أنكر ما قدمه للجزائر، ولكن الإرهاب كان قد تمكن من أوصال البلد.
-
-
ماذا وجدت في الشاذلي ولم تجده في الرؤساء الآخرين؟
-
هو رجل حاول أن يحترم تكوينه العسكري بعد الاستقلال، كما حاول أن يترجم مبادئ الثورة على أرض الواقع، وحاول بما استطاع، وإن كنت آخذ عليه تأثره بعائلته وأصهاره الذين كانوا يؤثرون على قراراته، التي كانت في أغلب الأحيان تميل نحو طرح الزاوية العلوية التي خلقتها فرنسا، كمنافس للزاوية القادرية التي كانت بدورها مزعجة لفرنسا.
-
-
على ذكر الزاوية ما رأيك في الطرح الصوفي الذي عاد للساحة مؤخرا؟
-
التصوف يصلح لممارسة السلطة وقتل الوعي، هي حرب ضد الفكر والنقد والذي يشجع الدروشة لا يمكن التعويل عليه كأداة فكرية، وأنا لا أقبل من التصوف إلا التصوف الثوري، وهو تصوف العظماء، أمثال السهرواردي وأبو منصور الحلاج لأنهم أضافوا للدنيا وطرحوا أفكارهم الصعبة فالحلاج قطعت أطرافه الأربعة ولم يتراجع ولم يتخل عن أفكاره.
-
-
بعد كل هذه التجربة الثرية، ألم تفكر في كتابة مذكراتك؟
-
بدأت الكتابة في أربعينات القرن الماضي، وكنت قد بدأت جزئيا في تدوين بعض الأشياء، لكن تقدم العمر ضايقني، لذا أجد أنه من الصعب ربما كتابة مذكراتي حاليا. لدي مكتبة ضخمة سأتبرع بها لمسقط رأسي الوادي بعد وفاتي، لكن سأشترط عليهم عدم ممارسة الرقابة علي وأنا ميت، والمكتبة تضم كتبا جئت بها من سيبيريا ومن إفريقيا ومن أروبا ومن كل أنحاء العالم، فيها الإسلام والخوارج، والأشياء لا تعرف إلا بضدها وما عرفت أنا عظمة الإسلام إلا عندما عرفت ضده فصّحت عقيدتي أكثر.
-
-
كانت لك لقاءات مع كبار الشخصيات على غرار كارلوس وشي غيفارا الذي بعث لك برسالة ما كان مضمونها؟
-
الرسالة أعطيتها لزعيم الحزب الشيوعي الراحل الهاشمي شريف بوصفه الحزب اليساري الوحيد آنذاك في الجزائر، وكان شي غفارا بعث بها لي من الكونغو وتضم 3 صفحات ونصف، وفيها يقول إن “أمريكا هي شر ما في العالم وإذا ما أردنا تجنب هيمنتها علينا يجب أن نحوّل كل دول العالم الثالث إلى فيتنامات، أنا أؤمن بفكره ومقتنع به، أما كارلوس، فكان لقائي به عند صديقة فرنسية قضينا الليلة معا وتحدثنا كثيرا وتركنا انطباعا طيبا، كلانا لدى الآخر ولكن نحن بخسنا الرجل حقه حيث دافع عن قضايانا لكن تخليّنا عنه.
-
-
رغم جرأتك في إعلان معارضتك لكنك قلت يوما أنك متردد في قول بعض الحقائق لأنك خائف؟
-
ومازلت خائفا من قول بعض الحقائق..
-
-
لماذا؟
-
أنت تَرين البلاد التي لا تستطيع أن تقول لا لأمريكا، لا تستطيع أن تكون في مستوى إرثها الثوري. البلاد التي كانت قبلة الثوار في العالم العربي والإسلامي الجزائر صارت قائدة السكوت، فحتى بومدين لم نعد نذكره حتى في المناسبات.
-
-
كان لدخولك للتلفزيون قصة طريفة، هلا رويت لنا بعض تفاصيلها؟
-
كتبت في بداية الاستقلال مقالا مطوّلا أسميته “تناقضات داخل الثورة”، وهو الذي كان سببا في دخولي للتلفزيون عام1962، وكنت قبل ذلك تقدمت بطلب عمل في قصر العدالة وفي أكاديمية التعليم للجزائر، وتم تعييني في قصر العدالة قاضيا في واد الفضة، وتم الإعلان عن ذاك في الجريدة الرسمية، لكني تراجعت ورفضت، لأنني كنت أرى أن التعامل مع من لا يحسن حتى طرح مشاكله يأتيني بأربع حبات بيض رشوة أمر متعب، لذا قررت الالتحاق بسلك التعليم في الحجوط ودرست22 يوما، ثم جاءت مناسبة 1 نوفمبر وكنت منذ 1956 أطمح أن أتحدث عن تناقضات داخل الثورة، عندما يأتي الاستقلال فجاءت مناسبة العيد الأول للثورة فكتبت مقالا مطولا في 36 صفحة بدون توقيع وبعثت به إلى الإذاعة والتلفزيون، وكان بن هدوقة قد أعجب به وبدأ بتقسيمها إلى حصص لقراءتها يوميا في الإذاعة، وبدأت عملية البحث عن صاحب المقال المجهول وكان عبد العزيز شكيري يعرف خطي جيدا، وهو الذي قال لهم إنه بن عيشة فجاءني في اليوم ذاته إلى الحجوط وقال لي مكانك معنا وليس في التعليم وهكذا التحقت بالإذاعة.
-
-
يقال إنك ضد التوّجه الأمازيغي في الهوية الجزائرية؟
-
أنا أمازيغي وأمازيغ بن كنعان هو جد العرب فكيف أكون ضد الأمازيغية، لكنني أكره المتمرغين الذين أعتبرهم من بقايا الرومان والوندال في الجزائر، وحكموا قرن وسنة، وعجزوا عن الاندماج في المجتمع ومنهم ينحدر اليوم دعاة التمرّغ الذين أكرههم .
-
-
اشتهرت في الساحة بخلافاتك مع الراحل الطاهر وطار رغم 45 سنة صداقة، ماذا حدث بينكما فجأة؟
- كان وطار قد أعطاني أوراقا لأقرأها، لكنني أرجعتها له حتى دون أن أصوّرها، الأوراق كانت تتحدث عن لقاء للتطبيع مع إسرائيل في فرنسا، وفيها الكلمة التي ألقاها هناك كان يفتخر بجلوسه مع أنريكوماسياس في نفس الطاولة، ومن يومها قاطعته، وندمت على صداقتي معه45 سنة كما ندمت على التدخين مدة 36 .
-
-
قلت يوما أن هناك من وقف ضدك في التكريم الذي كان من المقرر أن يقام لك في المكتبة الوطنية في 2007 على هامش ملتقى أدب الرحلة من كان وراء هذه القصة؟
-
أمين الزاوي يعرف هذه الحكاية بتفاصيلها، وكان من المفروض أن يتم تكريمي، لكن الشخص الذي كان مكلفا بالافتتاح قال لهم ”يا أنا يا هو”.
-
-
من كان، هل هو بلخادم؟
- لا… أكبر منه
-
من كان؟
-
إداري لم يكن من الحزب، لكنه شخصية كبيرة ونافذة.
-
-
لماذا كان هذا الشخص ضدك في اعتقادك؟
-
لأنني رفضت السير مع تيار العهدة الثالثة
-
-
ربطتك أيضا صداقة مع كاتب ياسين، ما هو انطباعك عنه؟
-
تعرفت إلى كاتب ياسين في 1946 في البادوفاني خلال ندوة في فرنسا أقامها الحزب الشيوعي تنديدا بالانتهاكات التي ارتكبت في حق سكان الناصرية هناك، صادفت كاتب ياسين يقرأ الشعر، كانت قصيدة جميلة تقول ما معناه “سيدي علي بوناب تدخلك الحرية مثلما تدخل الشمس الباب المغلق”، أعجبتني القصيدة جدا فربطت صداقة مع الرجل استمرت حتى بعد أن انقطعت أنا عن بعض رواد الحزب، وكنت الوحيد الذي ودعه لما ذهب إلى أمريكا في آخر رحلته وتلقيت خبر وفاته عبر التلفزيون من سعيدة، كان رجلا طيبا جدا ومتواضعا جدا ولا يلجأ لأحد، وقد سعيت لدى محمد الميلي في عهد طالب الإبراهمي لما كان وزيرا رغم أنني لم أكن على وفاق معه، وقلت للميلي عيب على جزائر الاستقلال أن يجوع فيها كاتب ياسين، وهكذا كلف الميلي من عيّنه على رأس مسرح بلعباس.
-
-
قلت إنك لم تكن على وفاق مع أحمد طالب، لماذا؟
- بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة صادف أن كنت في فرنسا وتم هناك تنظيم يوم خاص بذكرى 16 أفريل يوم العلم، وكان معي الشيخ زموشي السعيد والمعروف أن جمعية العلماء المسلمين لم تكن تملك مناضلين فاتفقنا نحن مناضلو حزب الشعب أن نستغل المناسبة لتنظيم يوم الثورة وكانت الدعوة يومها موجهة لعدد من سفراء العرب والبلدان الإسلامية، وفوجئنا أن الحاضرين ومن بينهم أحمد طالب لم يتكلموا ولو كلمة عن الثورة ورفضوا أيضا إعطاءنا الكلمة، فصعدنا إلى المنصة، وأخذنا الكلمة بالقوة في قاعة كلون فابيار وقدنا منها مظاهرة جابت شوارع المنطقة من يومها أخذت انطباعا عن الأشخاص الذين كانوا يتحدثون عن كلام فارغ في الوقت الذي كانت فيه البلاد تحترق.
-
-
يلقبك البعض بإمبراطور النميمة في الجزائر، ألهذا الحد لسانك نمام؟
-
هو لقب أطلقه عليّ الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم، كان يقول لي كنت أظن نفسي ملك النميمة في الدنيا لكنك إمبراطور، وكان يسمى النقد نميمة ومن يومها مازال إلى اليوم يناديني بهذه التسمية.
-
-
على ذكر الشخصيات المصرية، عرفت أيضا أم كلثوم؟
-
كنت ومازلت مولعا بأغاني أم كلثوم، وحدث أن زرت مصر في مهمة، فكلفني صديق ابن أخ أم كلثوم بإيصال مبلغ من المال لأهله، وكان يعمل في الجزائر بعثه عبد الناصر ليعلم الجماعة الطباعة، أعطاني مبلغا من المال لوالدته وأخبرني أن أخوه صديق ابن أخ أم كلثوم، ولما أخذت المبلغ وجدت أن ابن أخيها شاب صغير، لكنه إمبراطور له مجموعة من الشباب أصدقاء تنفق عليهم، استقبلني قال لي هل تريد مقابلة الست وحدد لي موعدا معها بعد3 أيام، لكني لم أذهب للموعد لأنني كنت ملتزما بتحرير مجلة الثورة والعمل، وكنت مبعوثا لتمثيل الجزائر في ملتقى “مساندة ثورة عدن وشعب عدن قبل ميلاد اليمن الجنوبي، وكانت الأقدار ألزمتني أن أشرف على تحرير المجلة بمفردي لأن المعربين في أغلبهم يعانون نقصا في الأدب النقابي، وأنا حاصل على شهادتين دوليتين في التكوين النقابي، وأشرفت على تعريب الأدب النقابي ولم أتلق ولا فرنك وكنت متطوّعا ولم أحصل يوما على مقابل ما كنت أقدمه، وهكذا ضاع مني لقاء أم كلثوم ولم أندم في حياتي على شيء قدر ندمي على ضياع ذلك اللقاء.