الرأي

الصُّهيونية والنَّازية وعُقدة الضَّمير الغربي

ناصر حمدادوش
  • 470
  • 0

صدر للدكتور عبد الوهاب المسيري كتاب “الصُّهيونية والنازية ونهاية التاريخ.. رؤيةٌ حضاريةٌ جديدة” سنة 1997م، والمعرفة التي يقدِّمها المسيري عن “اليهود واليهودية والصُّهيونية” منذ ستينيات القرن الماضي (نحو 30 سنة قبل تأليف هذا الكتاب) تختلف تمامًا عما كتبه غيره في هذا المجال، فقد تفرَّغ إلى هذه المَهمة التي أعطاها عقله وقلبه وزهرة عمره حتى أصبح مرجعًا وموسوعةً حيَّة في ذلك، وكانت خلاصتها هو تسجيل ذلك الانحراف الخطير الذي أحدثته “الصهيونية” على الدين والتاريخ والهوية اليهودية.

يؤكّد المسيري في مقدمة هذا الكتاب أنَّ قضية الإبادة النازية ليهود أوروبا، هي قضيةٌ إنسانيةٌ شائكة، وهو ما يجعل دراستها ضرورة ملحَّة، بسبب الخلط الفكري والفوضى الأخلاقية التي تحيط بها، فالخطاب الغربي يحاول اختزالها وفرض منطق التحيُّز فيها من خلال نزعها عن سياقها، بتحويلها من جريمةٍ ارتكبتها الحضارة الغربية، كتجسيدٍ لنمطٍ إباديٍّ عامٍ في ثقافتها وسلوكها، إلى مجردِ جريمةٍ ارتكبتها ألمانيا ضدَّ اليهود فقط.

ويشير إلى أنَّ معظم الدراسات التي تناولت النازية في العالم العربي تكتفي بالسرد التاريخي بخلفيةٍ سياسيةٍ وإيديولوجية، على خلفية الصِّراع مع إسرائيل الآن، وعادةً ما يتمُّ دراستها باعتبارها أفكارا منفصلة عن المنظومة الفكرية الحضارية المتكاملة، فتُختزل في أسئلةٍ شكلية، مثل: كم عدد اليهود ضحايا النازية؟ وهل تمَّ حرقُهم في الأفران فعلاً؟ وكيف توظِّف إسرائيل هذه الإبادة لصالحها؟  ولذلك فإنَّ المسيري يتناول النازية في هذا الكتاب كظاهرة، منطلقًا من المستوى التحليلي المعرفي، متجاوزًا السرد التاريخي والتوظيف السياسي، ذاهبًا بعيدًا في الدراسة والتحليل إلى طرح إشكالية العلاقة بين الحضارة الغربية والإبادة النازية.

وقد بدأ اهتمام المسيري بالأبعاد الحضارية والمعرفية للنازية منذ السبعينيات، حين وضع كتاب: “نهاية التاريخ.. مقدمةٌ لدراسةِ بنيةِ الفكر الصُّهيوني” سنة 1972م، والتي تناول أطروحة نهاية التاريخ، وبيَّن مركزيتها في الفكر الغربي الفاشي: الصهيوني والنازي، كما تحدّث عن العلاقة بين الأيديولوجيتين: النازية والصهيونية على المستوى المعرفي، ثم عاد إلى هذه المسألة سنة 1980م في كتاب: “الأيديولوجية الصهيونية.. دراسةُ حالةٍ في علم اجتماع المعرفة” في جزئين، وعمَّق البُعد المعرفي والحضاري لدراسة الصهيونية، وأشار إلى ضرورة دراسة الظاهرة النازية بنفس الطريقة التي يُنظر بها إلى الصهيونية، باعتبار “الصهيونية” و”النازية” جزءا لا يتجزَّأ من تاريخ الفكر الغربي والحضارة الغربية، ونبَّه في قسم “الصهيونية والنازية” إلى أنَّ “النازية” لم تكن انحرافًا عن الحضارة الغربية، بل هي تيارٌ أساسيٌّ فيها، مثل الصهيونية تمامًا.

ويعتقد المسيري أنَّ ألمانيا التي أرادت تهجير “اليهود الشرقيين” إلى أوروبا لتخلُّفهم الحضاري، واعتبرتهم “فائضًا بشريًّا يجب التخلُّص منه”، إلا أنَّ الدول الغربية رفضتهم، فأصبح هذا الرَّفض الغربي بمثابة التأييد الضِّمني لجريمة النازية، وموافقة منطلقاتها الفلسفية، وإن لم توافق بالضَّرورة على الشكل المتطرِّف للمحرقة، وهو ما دعا “الصهيونية العالمية” إلى التحالف مع هتلر من أجل تصفية جميع اليهود الذين رفضوا الهجرة إلى الوطن القومي المزعوم لليهود في العالم، وهو: فلسطين.

إنَّ “النازية” تنطلق من عقيدة تفوُّق العِرق “الآري” على الأجناس الأخرى، وهذا التفوُّق العِرقي يعطي الحقَّ للآريين بالتخلُّص من مشاكلهم بتصديرها إلى الآخرين، حتى ولو أدَّى ذلك إلى إبادة السكَّان الأصليين، وهو نفسُ ما تعتقده الصهيونية بالتفوُّق العِرقي لليهود على غيرهم من البشر، ولو أدَّى ذلك إلى إبادة السُّكان الأصليين.

ويدلِّل المسيري على أنَّ النازية هي جزءٌ أصيل في الفكر الغربي أنَّ “الغرب” حلَّ المسألة اليهودية بإنشاء دولةٍ صهيونيةٍ على جثث الفلسطينيين، عبر المجازر المروِّعة طيلة قيام هذا الكيان الصُّهيوني النازي منذ 1948م على حساب السكان الأصليين لفلسطين، وهو ما يثبت هذا التشابه الفكري والتعاون الفعلي بين النازية والصهيونية والإمبريالية الغربية.

ويدرس المسيري من خلال كتابه هذا البنية العميقة للنازية، ويضعها في سياقها الحضاري الغربي، ويبيِّن علاقتها بالصُّهيونية على مستوى الخطاب المعرفي العميق، وممارسة مختلف أوجه إبادة الجنس الآخر، من منطلق تفوُّقه العِرقي.

ومع كلِّ ما توصَّل إليه المسيري من هذه الحقائق في العلاقة العضوية بين “النازية” و”الصهيونية”، فهو لا يقلِّل من حجم الجريمة النازية، وأنَّ التقليل من ذلك يمثِّل فشلاً معرفيًّا، بعدم إدراك واحدةٍ من أهمِّ سِمات الحضارة الغربية الحديثة، القائمة على نزعة الإبادة، ويشكِّل فشلاً أخلاقيًّا بفشل الإنسان المسؤول أخلاقيًّا، إذ رأى جريمةً ضدَّ مجموعةٍ بشرية وآثر الصَّمت وتزوير الحقائق، حتى لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وهي المسألة التي يجب أن تنطبق على أيِّ مجموعةٍ بشريةٍ، مهما كان دينُها أو لغتها أو ثقافتها أو عِرقها، وقد قال المفكِّر الفرنسي المسلم روجي غارودي عن هذا المبدأ: “وليس الغرض مسك دفاتر مؤلمة ومفجعة، فقتلُ إنسانٍ بريءٍ، سواء أكان يهوديًّا أم لم يكن، هو جريمة ضدَّ الإنسانية”، وهو ما نطقت به الحقيقة القرآنية: “..مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”، (المائدة:32)، رغم معرفتنا بأنَّ الغرب والصهيونية قد وظَّفوا “الإبادة النازية” توظيفًا فاحشًا لتحقيق أهدافهم بإقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، وقاموا بابتزاز الحكومات الغربية، وبرَّروا الاحتلال والاستيطان والإرهاب الصهيوني ضدَّ الشعب الفلسطيني والعربي.

رأى دوغلاس أنَّ عدد اليهود في المحرقة -التي حدثت فعلاً- هو في حدود 300 ألف إلى 400 ألف، وهو التعدادُ السُّكاني الذي يمكن أن يزيد بعدد الولادات خلال تلك الفترة (7 إلى 8 سنوات)، ويكون عدد الألمان والروس والبولنديين والغجر الذين تعرَّضوا لجرائم هتلر أكبر مما تعرَّض له اليهود، وهي حقيقةٌ مفزعةٌ للضَّمير الغربي الذي بَنَى سياسته تجاه إسرائيل على هذه الأسطورة المكشوفة.

وقد تناول المسيري في هذا الكتاب: تعريف الإبادة، وبعض المصطلحات الأساسية المرتبطة بها، ووضع ظاهرة الإبادة في سياقها الحضاري الغربي، وفي سياقها السياسي الألماني، وتناول بعض الإشكاليات التي تثيرها الإبادة النازية ليهود أوروبا، مثل: إشكالية انفصال العلم عن القيمة، وتوظيف الإبادة واحتكارها وإنكارها، كما تناول إشكالية التعاون بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصًا الصهيونية) والنازيين، وتناول الإبادة النازية في الوجدان الفلسفي والديني والأدبي الغربي.

وقد ذكر الدكتور المسيري أنه قابل المفكِّر المبدع رجاء غارودي عند زيارته للقاهرة، ولخَّص له أطروحة هذا الكتاب، أهداه إليه، وهو صاحب كتاب: “الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية”، والتي لخَّصها في مجموعة الأساطير الصهيونية، وعرضها إجمالاً في: الأرض الموعودة لليهود في فلسطين، واليهود شعبُ الله المختار، وأرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض، والمحرقة النازية (الهولوكوست)، والعقيدة اليهودية والصُّهيونية السياسية والمسافة بين الاثنتين.

لقد حاول البعض الغوص في موضوع “الأساطير الصُّهيونية”، إلا أنهم ركزُّوا في مجملهم على أسطورةٍ واحدة، وهي: المحرقة النازية، والتي تمَّ الاستثمار فيها بمحاولات الضَّغط على عقدة الذَّنب الغربي اتجاه اليهود، وتعذيب هذا الضَّمير لصالح المشروع الصُّهيوني، إلا أنَّ غارودي تجاوزهم بالإحاطة الشَّاملة بكلِّ تلك الأساطير الصُّهيونية، وهو ما يكشف زيف الرِّواية الصُّهيونية حول الحقِّ الديني والتاريخي لليهود في فلسطين.

وخِلافًا لمنهج الصُّهيونية في جعل شرعية الوقائع نسيجًا لشرعية الحقائق، إذ تنطلق من فرض الأمر الواقع بالقوة والإبادة، ثم البناء عليه كحقائق مشروعة يجب التسليم بها والاستسلام لها، فإنَّ غارودي يأتي بالوقائع من مصادرها الأولية ومن وثائقها الأصلية، ثم يتركها تجري في سياقها المنطقي، لتصل بنفسها إلى غايتها الطبيعية.

ومع أنَّ “خرافة المحرقة النازية” أصبحت مفضوحة، ولا ترقى إلى مستوى الأطروحة العلمية، المستندة إلى الحقائق والوثائق، فقد فجَّر أحد أبرز الصحافيين البريطانيين، الذين غطُّوا الحرب العالمية الثانية (1939م– 1945م)، وهو دوغلاس ريد، في كتابه: “بعيدًا ووَاسِعًا: Far and Wide”، الصادر سنة 1947م، وأسقط أسطورة المحرقة النازية، وقد استند عمليًّا على الأرقام ودلالاتها، فاعتمد على آخر إحصاءٍ لعصبة الأمم عن عدد اليهود في العالم سنة 1938م (قبل الحرب العالمية الثانية)، وأول إحصاء لهيئة الأمم المتحدة بعدها سنة 1947م، والتي أثبتت بقاء عدد اليهود في حدود 11 مليون نسمة، ورأى دوغلاس أنَّ عدد اليهود في المحرقة -التي حدثت فعلاً- هو في حدود 300 ألف إلى 400 ألف، وهو التعدادُ السُّكاني الذي يمكن أن يزيد بعدد الولادات خلال تلك الفترة (7 إلى 8 سنوات)، ويكون عدد الألمان والروس والبولنديين والغجر الذين تعرَّضوا لجرائم هتلر أكبر مما تعرَّض له اليهود، وهي حقيقةٌ مفزعةٌ للضَّمير الغربي الذي بَنَى سياسته اتجاه إسرائيل على هذه الأسطورة المكشوفة، بل ويمارس هذا الغرب -بقيادة أمريكا الآن- محرقةً نازيةً حقيقيةً في فلسطين كنوعٍ من التكفير عن عُقدة الذَّنب والضَّمير، اتجاه تاريخٍ مزوَّرٍ ومبالغٍ فيه.

فلماذا لم يدفعوا كفّارة هذا الضَّمير الغربي بأرضٍ أوروبيةٍ أو أمريكيةٍ كتعويضٍ لهؤلاء اليهود، بدل فلسطين بتاريخها وأرضها وشعبها ومقدَّساتها ومستقبلها؟

مقالات ذات صلة