الجزائر
أرسى دعائمها الرئيس تبون خلال 4 سنوات من الحكم

الدبلوماسية الجزائرية.. تموقع وبراغماتية ونديّة ومحاصرة للتطبيع

محمد مسلم
  • 780
  • 0

حرص الرئيس عبد المجيد تبون، خلال أربع سنوات على رأس الدولة، على إعطاء أهمية بالغة للحضور الجزائري على الصعيد الدولي، مع مراجعة العلاقات مع بعض الدول انطلاقا من جملة من التطورات الظرفية التي كان لها تأثير بيّن على جدوى الاستمرار في التعاطي التقليدي مع الملفات التي تعتبر امتدادا للأمن القومي للبلاد، أو تستهدف مقومات وثوابت الدولة والأمة.

وعلى عكس عقود سابقة كانت فيها الدبلوماسية الجزائرية قد التزمت بلعب دور الدفاع، انتقلت خلال السنوات الأربع الأخيرة، إلى موقع آخر مع وصول الرئيس تبون إلى قصر المرادية، فكانت المعاملة ندية بعدما كانت تابعة في حالات بعينها، وخاصة مع المستعمرة السابقة، التي لطالما تبنت في علاقاتها مع الجزائر دور الوصي غير المؤهل، من خلال بعض المواقف والممارسات التي تنطوي على اعتبارات فيها من الاستعلاء ما لا يخطئه المتابع المدرك لحقيقة العلاقات المتشعبة بين البلدين.

  الرهان على العمق الإفريقي

 بالمقابل، حرصت الدولة الجزائرية على استعادة العمل على المحور الإفريقي، الذي يعتبر بمثابة العمق الاستراتيجي خلال الفترة الزاهية للدبلوماسية الجزائرية، التي افتقدت بشكل لافت في النصف الثاني من عهد الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، بسبب المرض، ولكن أيضا بسبب الافتقاد إلى رؤية واضحة في كيفية استعادة الجزائر لموقعها المفقود، وكذا لاعتبارات فرضت مرحليا بسبب الاحتقان الذي سجل داخليا.

ولذلك كانت المبادرات حاضرة في عهد الرئيس تبون وبقوة، من خلال التنسيق مع الدول الشقيقة والصديقة على غرار دولة جنوب إفريقيا في العديد من الملفات الحساسة. ومن الطبيعي أن تتطلب عملية استعادة المواقع السابقة في القارة السمراء بعضا من الوقت مع تحمل بعض التبعات التي هي بحاجة إلى جهود أكثر لإعادة ترتيب البيت الإفريقي.

 ويشار هنا إلى تواطؤ بعض الأطراف داخل الاتحاد الإفريقي بما ساهم في تسلل الكيان الصهيوني إلى مؤسسات الاتحاد بصفة عضو ملاحظ، وهي الفجوة التي تطلبت جهودا مضنية ومناورات على أعلى مستوى، مكنت من اصطياد ممثل هذا الكيان في قمة الاتحاد الأخيرة التي انعقدت في فبراير المنصرم بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا.

ويعتبر ما حدث من تسلل للكيان إلى داخل البيت الإفريقي، نتيجة لتراجع الدور الجزائري على هذا المستوى في مراحل سابقة، وهو الوضع الذي استغله النظام المغربي، كي يعود إلى مؤسسات الاتحاد الإفريقي بهالة مزيفة، انكشفت للمتابعين عندما فشلت مساعيه في إنقاذ حليفه الصهيوني، يوم تعرض ممثله للطرد أمام الكاميرات، وهذا ما يؤشر على أن النفوذ الذي لطالما تمتعت به الجزائر في مؤسسات الاتحاد الإفريقي، لا يزال قويا برغم بعض المناورات التي تقوم بها الآلة الدعائية للكيان الصهيوني وأذرعه في المنطقة المغاربية خاصة.

ويعتبر قرار الرئيس تبون بتخصيص مليار دولار لدعم التنمية في القارة السمراء، استمرارا لتوجّه سابق، لكنه أكثر تنظيما وبراغماتية، فقد سبق للجزائر أن مسحت ديون العديد من الدول الإفريقية في إطار التضامن الإفريقي، غير أن نتائج هذه العملية لم تلمس على الأرض، بحيث كانت مثل ذرّ الرماد في البحر، ولذلك جاءت الخطوة الجديدة مستلهمة من الدرس السابق.

عضوية مجلس الأمن

بداية من الشهر المقبل ستشغل الجزائر عضوية غير دائمة على مستوى مجلس الأمن الدولي، وهو استحقاق سبقته جهود حثيثة للدبلوماسية الجزائرية من أجل حشد الأصوات للفوز بالمقعد، ومدعومة من المجموعة العربية وغالبية الدول الإفريقية، حيث تمكنت الدبلوماسية الجزائرية من حجز مقعد لها على مستوى هذه الهيئة الأممية، التي وإن فقدت الكثير من مصداقيتها خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تبقى منبرا يساعد على إثارة النقاش حول القضايا العادلة ولو من باب لفت الانتباه وإبقائها في الواجهة، كما هو حاصل اليوم مع القضية الفلسطينية، التي كسبت الكثير التعاطف، برغم لجو الإدارة الأمريكية والمنظومة الغربية في كل مرة إلى استعمال حق النقض “الفيتو”.

ولاشك أن هذه العضوية ستكون بمثابة منبر على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للجزائر، ومن شأن حسن استغلاله أن يساعدها على استعادة بريقها الدبلوماسي، كما يخولها الدفاع عن المصالح الإقليمية والعربية والقارية، بداية بالقضية الفلسطينية التي تعيش خلال الأسابيع الأخيرة مرحلة مفصلية في مصيرها، بسبب تحالف القوى الغربية مع الكيان الغاصب، على حساب القوانين الدولية وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، يضاف إلى ذلك الدفاع عن بقية القضايا العادلة في العالم، وعلى رأسها أيضا القضية الصحراوية، التي عمرها بدورها لأكثر من أربعة عقود ولا تزال تنتظر الحل.

الحضور عبر المبادرات 

ولتعزيز التوجهات الجديدة، حاولت الجزائر أن تكون حاضرة دوما في محيطها الإفريقي، من خلال القيام بمبادرات وساطة، حتى في بعض الملفات المعقدة، مثل قضية سد النهضة بين مصر والسودان من جهة وأثيوبيا من جهة أخرى، مستغلة علاقاتها المثالية مع طرفي النزاع، وقامت بما لأجل ذلك بما يجب القيام به، إلا أن تعقيدات وحسابات الأطراف المتنازعة، حالت دون نجاح جميع الوساطات الأخرى، الأممية منها أو الأمريكية، كما هو معلوم.

كما حافظت الجزائر على مواقفها التاريخية بدعم الشعوب في تقرير مصيرها، من خلال جمع الفرقاء الفلسطينيين إلى طاولة الحوار في الجزائر على أمل إنهاء حالة التشرذم وتوجيه الجهود نحو دفع الكيان الصهيوني إلى الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أراضيه، ووقف جرائم الاحتلال بحق الأطفال والنساء والشيوخ.

 وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبته الجزائر على صعيد توثيق جرائم الكيان الصهيوني في قطاع غزة والضفة الغربية، واللجوء إلى الخيار القانوني المتمثل في رفع دعاوى لدى محكمة الجنائية الدولية، ضد حرب الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها يوميا جيش الاحتلال.

ومن المهم تسجيل الدور الذي لعبته الجزائر على المستوى العربي من خلال احتضانها القمة العربية في السنة قبل الماضية، برغم التحديات الكبيرة التي واجهتها من قبل بعض الأنظمة العربية التي لا تنظر إلى المواقف الجزائرية بعين الارتياح، كما نجحت في إحراج الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني، بوضع القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال هذه القمة برغم حساسية هذا الملف، وإعادة هذه القضية إلى الواجهة في مواجهة موجة التطبيع الجديدة، التي كانت تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، من خلال مد الجسور مع الكيان الغاصب والقبول به كدولة على حساب الحق العربي والإسلامي ومعهما الفلسطيني.

ملاحقة التطبيع أينما حل

 ولعبت الجزائر دورا بارزا في الوقوف في وجه موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني وتمكنت من فرملته على الأقل في المنطقة المغاربية، فقد كانت تونس قاب قوسين أو أدنى من السقوط في شراك التطبيع مع الكيان الصهيوني.

 ويشار بهذا الصدد إلى التحذيرات التي كانت تصدر من حين إلى آخر من مصادر غير معلنة، منبهة إلى مخاطر هذه الآفة، من دون فضح الدول التي كانت تمهد للتطبيع من خلال محاولة شراء الذمم بالمال، انطلاقا من الظروف الصعبة التي يعيشها بعض الجيران مثل تونس وبدرجة أقل موريتانيا، وكذلك ليبيا التي تجنبت بدورها السيناريو الأسوأ بدفع وزير الخارجية السابقة، نجلاء المنقوش، الثمن، والتي فرت بجلدها في آخر لحظة.

وقد نجحت الاستراتيجية الجزائرية التي قامت على فضح خيانة النظام المغربي وعمالته للكيان الصهيوني، في محاصرة التطبيع وعزل الدولة المطبعة مغاربيا، وبات النظام المغربي منبوذا في محيطه الإقليمي، فعلاقاته الدبلوماسية مع الجزائر مقطوعة، والحال كذلك مع تونس بحيث يفتقد البلدان إلى التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء بعد سحبهما، أما علاقاته مع موريتانيا فتعيش واحدة من أسوأ فتراتها بسبب عدم استعداد النظام المغربي ونخبه السياسية، للتخلي عن أوهامهم التوسعية (الأمبراطورية العلوية)، التي كانت في الواقع مجرد خنجر بيد الإسبان والبرتغاليين والغرب عموما، لطعن جيرانها المغاربيين منذ سقوط الأندلس.

ملاحقة الجزائر للتطبيع مع الكيان الصهيوني لم تتوقف عند المحيط المغاربي فحسب، بل تعدته إلى القارة السمراء، وقد وقف العالم شاهدا على ملحمة أديس أبابا، عندما تمكنت الجزائر رفقة أصدقائها في القارة الإفريقية وعلى رأسهم دولة جنوب إفريقيا من طرد وإهانة ممثل الكيان الغاصب من اجتماع الاتحاد الإفريقي الأخير في 18 فبراير 2023، في مشهد لم يكن يتوقعه حتى أشد المتشائمين الذين كانوا يؤمنون بسطوة هذا الكيان ومنهم النظام العلوي في الرباط.

استراتيجية دبلوماسية جديدة مغايرة

وبموازاة ذلك، عمدت الدبلوماسية الجزائرية إلى انتهاج استراتيجية جديدة انطلاقا من جملة من التطورات الظرفية التي كان لها تأثير بيّن على جدوى الاستمرار في التعاطي التقليدي مع الملفات التي تعتبر امتدادا للأمن القومي للبلاد، وهو التوجه الذي لوحظ في العلاقات مع كل من فرنسا والنظام المغربي وإسبانيا.

ويعتبر الجانب الفرنسي أول طرف صُدم من الفلسفة الجديدة للدبلوماسية الجزائرية، فقد سارعت الجزائر في أكثر من محطة قرأت فيها تهورا فرنسيا، إلى الرد بقوة، غير أن هذا الرد اختلف حسب مستوى التهور الفرنسي، ففي حالات بعينها وصل الأمر حد استدعاء السفير الجزائري من باريس في أكثر من مناسبة وتبليغ انشغال للسفير الفرنسي في الجزائر، كما كان الحرمان من الامتيازات الاقتصادية والثقافية سلاحا آخر وظفته الجزائر لإعادة الدولة الفرنسية إلى موقعها الطبيعي.

ويمكن التوقف هنا عند بعض النقاط التي تؤشر على وجود فلسفة جديدة في إدارة الملف الدبلوماسي للجزائر في عهد الرئيس تبون في الحالة الفرنسية مثلا، في ملف الذاكرة. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان يعتقد أن عقدة العلاقات الجزائرية الفرنسية تكمن في موروث الماضي الاستعماري المثقل بالجرائم، ولذلك حرص على العمل من أجل تفكيك ألغام فترة الاحتلال الفرنسي، من خلال دعوته إلى “تهدئة حروب الذاكرة”، التي جعلها مشروعا لم يسبقه إليه أيا ممن سبقه إلى قصر الإيليزي.

النقطة الثانية وتتمثل في طريقة التعبير عن الموقف، وقد أخذت في بعض الأحيان طابع الاحتجاج في درجته القصوى عبر سحب السفير للتشاور، وهو موقف معمول به في الأعراف الدبلوماسية.

أما البعد الآخر الذي كان حاضرا في التعاطي مع الجانب الفرنسي، فتمثل في اللعب على ورقة الامتيازات الاقتصادية التي كانت تتمتع بها باريس في الجزائر خلال العقود السابقة، وقد تبين من خلال السنوات الأربع المنصرمة، أن فرنسا خسرت الكثير من نفوذها الاقتصادي.

المحطة الأخرى التي يمكن التوقف عندها هنا أيضا، هي التطورات التي شهدتها العلاقات بين الجزائر وإسبانيا خلال سنة 2022، والتي كانت عاصفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى دبلوماسي، فقد اتخذت الجزائر القرار بسحب سفيرها من مدريد، بعدما أقدمت الأخيرة على تغيير موقفها التاريخي من القضية الصحراوية، بشكل يدعم موقف الدولة المحتلة ممثلة في المملكة المغربية، مع علم الحكام الإسبان بمدى حساسية هذه القضية بالنسبة للجزائر، التي تعتبر في نظر الخبراء قضية لا يمكن التسامح بشأنها باعتبارها امتداد للأمن القومي للجزائر.

قطع العلاقات الدبلوماسية وفرض العقوبات المؤلمة، كانت آلية فعالة في التعاطي مع النظام المغربي، الذي لم يتوقف عن ممارسة أعماله العدائية تجاه الجزائر، والتربص بالأمن القومي للجزائر، عبر القيام باتفاقيات أمنية مع الكيان الصهيوني بعد تطبيع العلاقات معه، وكذا السماح لمسؤولي هذا الكيان بالتهجم على الجزائر في محفل دبلوماسي رسمي في العاصمة المغربية الرباط، وبحضور وزير خارجة النظام العلوي، ناصر بوريطة. أما الغرض من القرار فكان إلحاق الأذى بالنظام السياسي في الجارة الغربية، ومحاولة ردعه لوقف انزلاقه نحو تهور جديد من شأنه أن يؤدي إلى الحرب بين البلدين الشقيقين.

التصدي لتهديدات الأمن القومي

 ومع تحول الحدود الجزائرية إلى ما يشبه الحزام الناري بسبب الأزمات والقلاقل الأمنية، زادت مسؤولية الدبلوماسية الجزائرية في مواجهة التحديات المتفاقمة، وقد نجحت الجهود المبذولة في محاصرة سياسة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي أدخل المنطقة في حالة من التصعيد بجره النظام المغربي إلى مستنقع التطبيع مع الكيان الصهيوني.

فقد تمكنت الجزائر مع وصول الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، إلى سدة البيت الأبيض، من دفع الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ موقف متوازن من القضية الصحراوية، بتجاهل “تغريدة” ترامب نهائيا، إلى درجة دخول المسؤولين في النظام المغربي في حالة من الشك بشأن الموقف الأمريكي الجديد من القضية الصحراوية، والذي أفقد الرباط الورقة التي طبعت من أجلها، وهي حسم هذه القضية نهائيا، كما تم تسويقه للرأي العام في المملكة لتبرير خطيئة التطبيع.

مقالات ذات صلة