الرأي

“الخارجون عن القانون” يفتح ملف فرنسا الاستعماري

محمد قيراط
  • 1849
  • 0

“الخارجون عن القانون”، فيلم أزاح الستار على الكثير من الأعمال الوحشية والجرائم التي أُرتكبت في حق ناس أبرياء جرّدوا من أراضيهم ومن حريتهم ومن حقوقهم ومن إنسانيتهم.

الفيلم فتح من جديد ملف تاريخ فرنسا الاستعماري وأحرج فرنسا والمثقفين الفرنسيين الذين يفضلون السكوت والكتمان والتعتيم على هذا الموضوع، بدلا من النقاش والصراحة والاعتراف والاعتذار والتعويض. الفيلم بيّن للعالم بأسره أن هناك فئة من الناس مازالت لم تدرك أن العالم تغيّر وأن حقبة الفكر الاستعماري الاستبدادي قد ولّت وأن عصر الانفجار المعلوماتي والمعرفي والثورة الرقمية قد أسقطت الحدود والحواجز.

 المخرج رشيد بوشارب فتح ملف التاريخ الفرنسي الاستعماري من جديد بهدف فتح الحوار والنقاش للمصارحة والتفاهم والاعتذار. رشيد بوشارب قدم صورا في الفيلم تعبر عن فرحة الفرنسيين واحتفالهم بانتصارهم على هتلر والنازية وقابلها بصور أخرى عن مجازر 8 مايو 1945 عندما قتل الاستعمار الفرنسي 45 ألف جزائري بسبب خروجهم للشوارع للمطالبة بالحرية. “إن لم تستح فأفعل ما شئت”، هذا ما ينسحب على اليمين الفرنسي المتطرف وقدماء المحاربين الفرنسيين والأقدام السود الذين تظاهروا أمام قصر مهرجان كان السينمائي في دورته 63 للاحتجاج والتنديد برشيد بوشارب وفيلمه الذي كشف مستور الاستعمار الفرنسي الغاشم بالوقائع التاريخية وبالصور التي كشفت للعالم بشاعة الاستعمار الفرنسي ووحشيته. فحسب المتظاهرين يمثل فيلم “الخارجون عن القانون” إساءة لفرنسا، وتشويها للتاريخ الاستعماري الفرنسي، حيث طالب بعضهم إدارة المهرجان بمنع عرض الفيلم وسحبه من المسابقة الرسمية. وبحسب هؤلاء المتظاهرين، الفيلم أساء لتاريخ فرنسا وشوّه الوجود الفرنسي في الجزائر، وكأن قدماء المحاربين في الجزائر كانوا ينشرون العلم والمعرفة ومبادئ الديمقراطية وقيم الحرية والتنمية والتطور والرقي والازدهار!!!.

تعتبر فرنسا من الدول الاستعمارية القليلة والنادرة في العالم التي مازالت وإلى يومنا هذا مصرّة على عدم  الاعتراف بالبطش والتنكيل والتعذيب والجرائم التي اركتبتها خلال 130 سنة. ففرنسا لا تريد الاعتذار الرسمي للجزائر وتتهرّب من هذا الواجب باستمرار. والعجيب في الأمر، أن البرلمان الفرنسي صادق على قانون يمجد الاستعمار قبل سنوات. وبحسب الطبقة السياسية الفرنسية، فالفعل الاستعماري الفرنسي هو فعل حضاري ساهم في تطور المستعمرات وتقدّمها وساهم في إدماج الشعوب في حركة النهضة العالمية. أما بالنسبة لموضوع التعويضات فهو ليس مطروحا على الإطلاق للنقاش والتفاوض مع المستعمرات الفرنسية.

الفيلم بكل بساطة أزاح الستار عن الكثير من الحقائق التاريخية التي ظلت مدفونة، وقدمها كما هي عارية من كل تضليل أو تحوير أو تشويه أو ماكياج. استطاع بوشارب، وهو الذي أنتج “انديجان” و”ليتل سينيغال” و”لندن ريفر”، أن يدين بشاعة الاستعمار وأن يبرز الجرائم الوحشية التي ارتكبها المحتل الفرنسي في حق ناس أبرياء تم تجريدهم من أراضيهم ومن إنسيانيتهم ومن أبسط حقوقهم. فمنطق الاستعمار الفرنسي يقول إن من حق الفرنسيين الاحتفال بالانتصار على ألمانيا وهتلر، لكن ليس من حق الشعب الجزائري أن يطالب بحريته واستقلاله وسيادته وحقوقه. والغريب في الأمر، أن المنطق نفسه لا يرى الحاجة إلى الاعتذار والاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الشعب الجزائري. فلا اعتذار رسمي ولا تعويضات. والأخطر من كل هذا، أن رواسب ومخلفات الاستعمار الفرنسي مازالت قائمة وموجودة إلى حد الساعة. فالتجارب النووية التي قامت بها السلطات الاستعمارية مازالت أثارها الخطيرة وبعد أكثر من أربعة عقود تسمم العباد والبلاد والبيئة في منطقة رقان بالجنوب الجزائري. 

فليتذكر اليمين الفرنسي المتطرف وقدماء المحاربين الفرنسيين أن في 13 فبراير من سنة 1960 نفذت فرنسا تفجيرا نوويا “اليربوع الأزرق” في منطقة رقان في أقصى جنوب غرب الصحراء الجزائرية، بلغت قوته 60 كيلو طنا، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف قوة القنبلة التي ألقت بها الولايات المتحدة الأمريكية على هيروشيما في العام 1945. هذه القنبلة تلتها قنبلة “اليربوع الأبيض”، ثم “اليربوع الأحمر”، حسب ترتيب الألوان الثلاثة للعلم الفرنسي. وفي الأخير اختتمت فرنسا جرائمها بالقنبلة الرابعة والأخيرة التي سميت بـ”اليربوع الأخضر”.

تتلخص حصيلة الجرائم النووية الفرنسية في الجزائر في 57 تجربة نووية نفذتها فرنسا في ثلاث مناطق بجنوب الصحراء الجزائرية، منها أربع تجارب سطحية و13 تجربة في أنفاق باطنية و35 تجربة على مستوى الأبار و5 تجارب أخرى اُستعملت فيها مواد فتاكة محظورة دوليا. مسؤولية فرنسا في هذه الجريمة كاملة لا غبار عليها، ولا تحتاج إلى قرار إدانة. تجارب فرنسا النووية أدت إلى تلوث المنطقة برمتها في محيط 150 كيلومترا من موقع الانفجار. نفذت فرنسا بين سنة 1960 و1966  أكثر من 20 تفجيرا نوويا على الأراضي الجزائرية، وما يزيد عن 40 تجربة نووية وهذا بحسب تصريح العسكريين والخبراء الفرنسيين أنفسهم. هذه الجرائم تسبّبت في تلويث الغلاف الجوي والموارد الطبيعية وتفشي الأمراض كالسرطان والتشهوات الخلقية وغير ذلك. والجريمة الأكبر، أن السلطات الفرنسية لا تريد الاعتراف بجرائمها كعادتها، ورفضت وترفض تسليم كل المعلومات إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحتى الساعة مازالت ملفات التفجيرات النووية الفرنسية سرية وغير متوفرة للاطلاع عليها، حتى للمنظمات الدولية التي تشرف على المراقبة. تجدر الإشارة هنا، أنه من الناحية القانونية تعتبر التفجيرات النووية الفرنسية في الجزائر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. 

مازالت تداعيات وأثار الاستعمار الفرنسي في مستعمراتها السابقة حاضرة حتى الساعة، ومازالت مشكلات الحدود وأزمة الهوية والخلل الاقتصادي والتبعية الثقافية تحاصر العديد من الدول التي عانت من مآسي الاستعمار والظلم والعبودية. فرنسا تخلت عن مستعمراتها وتركتها في دوامة من التبعية ومن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. كما فشلت فرنسا في وضع استراتيجية جديدة للتعامل مع مستعمراتها وخطة عمل تتمشى مع المعطيات الجديدة في العالم. هذا الوضع فتح المجال أمام قوى فاعلة في النظام الدولي كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا للاستفادة من الفراغ الفرنسي في القارة السمراء. الغريب والعجيب في الأمر، أن فرنسا وبعد مرور ما يزيد على أربعة عقود من جرائمها في مستعمراتها السابقة مازالت مصممة على عدم الاعتراف بما فعلته وعلى عدم الاعتذار، ومن جهة أخرى تصر على المحافظة على نفوذها في مستعمراتها والاستفادة من الامتيازات والتسهيلات والمجاملات في التعامل.

“الخارجون عن القانون”، فيلم عارضه الفرنسيون وأدانوه قبل رؤيته ومشاهدته، لسبب بسيط وهو أنه يزعجهم ويفضحهم، بحيث أن ما قدمه رشيد بوشارب عن التاريخ الاستعماري الفرنسي بالصوت والصورة والحجج الدامغة من خلال الفيلم، يعتبر وصمة عار على جبين كل فرنسي يؤمن بالمبادئ الإنسانية وبحقوق الإنسان وبالحريات الفردية وبالديمقراطية وباحترام الشعوب والأمم والحضارات والديانات. أما السبب الثاني هو أن الشعب الفرنسي وفي مقدمته اليمين المتطرف لا يملك الشجاعة الكافية لمواجهة ماضيه الاستعماري والاعتراف بالخطإ والاعتذار والتعويض. الفيلم قدم أحداثا تاريخية وجرائم ضد الإنسانية وسجلا استعماريا يمثل وصمة عار على جبين أولئك الدين يدّعون الحرية والعدالة والمساواة ويتغنون بالديمقراطية وحقوق الإنسان. والغريب في الأمر، أنه بعد ما يقارب نصف قرن على استقلال الجزائر، مازالت فرنسا ترفض الاعتذار الرسمي للشعب الجزائري ومازالت تتجاهل وحشية الجرائم التي قامت بها خلال 130 سنة، ومازالت تعمل جاهدة على إخفاء أحداث وتاريخ ووقائع من حق أولادها والبشرية جمعاء معرفتها. في المقابل، نلاحظ دولا استعمارية عديدة لم تصل بشاعة جرائمها عُشْرَ ما قامت به فرنسا في الجزائر، لكنها اعتذرت وقدمت تعويضات وساهمت في إصلاح الكثير من الأمور التي أفسدتها.

بفيلمه الأخير سيفتح رشيد بوشارب النقاش مجددا حول تاريخ فرنسا الاستعماري. هذا النقاش الذي ترفضه السلطات الفرنسية وساركوزي واليمين المتطرف رفضا قاطعا والذي يزعج كثيرا هؤلئك الذين يتباهون بإعطاء دروس لدول العالم في الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والحوار بين الأديان والحضارات.  

مقالات ذات صلة