الرأي

الحرّيات: الحق الذي أريد به باطل

عمار يزلي
  • 517
  • 1

الحق، والحق يقال إنّ علينا، وابتداء من هذه اللحظات الفارقة في أمتنا وفي العالم أجمع، أن نعيد تقييم المفاهيم الفلسفية العامة التي درسناها، من روسو إلى كانط إلى فولتير، من المستقدمين إلى المستأخرين، وهذا ليس لأن الأوائل كانوا على خطأ، وإنما الأواخر من حوّلوا الصحيح إلى خطأ ومن حوّلوا تلك المفاهيم “الإنسانية” العالمية إلى “حق يراد به اليوم باطلا”.

“الحرية”، هكذا كانت تُذكر بالمفرد، على اعتبار أن الجزء لا يتجزّأ، كما كان يعرّف مفهوم “الجُزيء” ثم الذرة فيما بعد، على أنه ذلك الجزء الذي لا يقبل التقسيم. الحرية إذن في المحصلة، هي جزء مركزي وأساسي وعمود فقري في الفلسفة التاريخية والاجتماعية، تشظت وتفتّتت وانقسمت إلى جزيئات أخرى، مع نمو الرأسمالية والفردنة التي أنتجها هذا النظام من رحم الشراهة الرأسمالية والرأسماليين التي لا حدود لها، مبنية على قاعدة “الربح والربا والمنافسة”. أصبحت”الحرية”، حريات، وتحوّل الجمع إلى مفرد، والمفرد إلى جندر وتكاثرت “الحقوق” و”الحريات” لتشمل الطفل والمرأة والحيوان والصحافة والملكية والتعبير والرأي والزواج خارج الأسرة و”الزواج” بين الأمثال وحرية إنكار الدين وحرية الإساءة للآخرين وحرية إفعل ما تشاء بما تشاء وكيفما تشاء ومن دون اكتراث بالقاعدة الفولتيرية: “تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين”، وأصبح العكس هو المطبّق: “تبدأ حريتي عندما تنتهي حرية الآخرين”.

نقول هذا من باب “حرية الصحافة” ويومها العالمي، والكل بات يرى ويسمع ويعي، من دون أدنى شك ولا مواربة ولا تخمين ولا تجنّ، كيف قفز الغرب اليوم مع الليبرالية الجديدة، على هذا المفهوم المفرد الذي لا يقبل التجزئة ولا “التفريد”، كيف صارت الحرية، حريتهم هم وحدهم، والحق حقهم هم دون غيرهم، وقس على ذلك باقي المفاهيم التي سمّوها باراديغم “إينيفرسيل”. لقد حوّلوا العقل الغربي من مركزية أوروبية عنصرية إلى مركزية غربية كونية، تقاس عليها الأشياء والمعايير والمسميات: تقصي من العالمية والإنسانية من تشاء وتؤوي إليها من تشاء، فهي الأنموذج الإنساني والبقية “نماذج بشرية”، أو حتى “حيوانية”: وقد قالها ذلك المعتوه غالانت يوم قرار ارتكاب “هولوكست غزة”: محرقة غزة، نعم، علينا، ومن اليوم أن نستعمل هذه العبارة لأنها حقيقة واقعية، قام بها من بنوا صلفهم وتكبّرهم وأنموذجهم الذي لا يخضع لا للقانون الدولي ولا الإنساني: “هولوكست غزة”، هكذا يجب أن نسمِّي القط قطا والكلب كلبا. علينا أن نعيد تقييم المعاني والمفاهيم والمسميات.. وبجد، ففلسفة السرديات ليس بالأمر الهين، إذ نرى كيف بنى الكيان الصهيوني مجده الإجرامي على واقعة تاريخية مضخّمة: “الهولوكست النازي”. علينا اليوم أن نعيد البضاعة إلى أهلها ونوضّح لهم ولجميع من في هذا الكون، أن أحفاد الناجين من المحرقة هم اليوم من يقترفون محرقة في حق فلسطينيي غزة وأكثر. علينا أن نقرَّ بأنَّ مفهوم الحق والباطل مسألة ذاتية على موضوعيتها، وأن الحرية كلام فارغ، حينما يتعلق بـ”حرية الصحافة” والتشدُّق بها: متى رأينا حرية صحافة في الغرب عندما يكون الخصم غير غربي؟ متى تحققنا من أن الحرية جوهر لا يجزّأ؟ مع أننا نرى الكيل بمكيالين وأكثر في كل ما نراه ونشهده ونسمعه ونعيشه: حتى في المجال الأكاديمي والجامعات والموضوعية العلمية والخرافات مثل هذه التي هي حقّ، فعلا، لكن، أريد به باطل واستعمل في الباطل، وكل حقّ وُظف لأجل باطل، فهو باطل حقا.

ليس علينا اليوم أن نشكّ لحظة أن المواجهة صارت على أشدها، وأنّ علينا كعالم جديد أن نجدّد في كلّ الأشياء.

مقالات ذات صلة