الرأي

الجزائر في زمن البقرات العجاف

عبد الرزاق قسوم
  • 4284
  • 0

انتهى –في جزائرنا- زمن اقتصاد الرَّيْع، وسياسة البيْع، وانتهى عهد الفساد والإفساد، بالمال المكتسب من التنقيب، والترغيب، و”التشكيب”. لقد حل بنا منطق الأضداد، الذي تقر به الطبيعة، وتسلم به الشريعة.

النهار يعقبه الليل، والربيع يعقبه الصيف والخريف، والعطاء والنماء يعقبه السلب والجفاء، والرخاء يعقبه الغلاء، والبقرات السمان، التي كانت تمدنا بالأطنان من اللحوم والألبان، فيتغذى بها الألمان، والفرنسيون، والطليان، والأسبان، وغيرهم من الكوريين، والصينيين، واليابان، هذه البقرات السمان، أعقبتها بقرات عجاف، سنتحول فيها إلى معوزين أجلاف، ضعاف البنية نحاف.

كيف انحدرنا إلى هذا الدرك الأسفل من المصير، فجأة، وكانت لنا في عالم المال والأعمال جولة وصولة، بنينا فيها كل شيء إلا الإنسان والدولة؟ فأين هي مدخراتنا؟ وأين هي مقتصداتنا؟ كيف انكشفت –بسقوط أسعار البترول- عوراتنا، وبانت سوءاتنا، وانتقلنا –فجأة- من البحبوحة المالية، إلى التقشف والمديونية؟

لئن تفاجأ بعض السذج أو الطيبين مما حدث لنا، فإن الراسخين في علم الاقتصاد والسياسة، والمتضلعين في علوم الإنسان والدراسة، كانوا يتوقعون مثل هذا النحس وهذه التعاسة، ويخشون علينا، من أن يزج بنا –دولياً- في عالم النخاسة.

النهب الفوضوي والممنهج، للمال العام، طيلة عهد البقرات السمان، وضعف الرقيب والرقابة، وتواطئ المحاسب مع النهّابة، كل ذلك أدى إلى ما نحن قادمون عليه من أنواع المهالك والإصابة.

وقد لاحت الأعراض في مجلس النواب عندما بدأ الامتحان التمهيدي للضمائر، فتبارى الأحرار والحرائر، في محاولة الدفاع عن الجزائر، لدراسة قانون المالية العاكس للأزمة الشمولية وكان بمثابة القانون الجائر.

إن قانون المالية الجديد المصادق عليه؛ قد جاء بمثابة تضميد للجراح، والتقليل من الخسائر والأتراح، ذلك أن الصحافة ما فتئت من عهد بعيد، تكشف عن خلايا التهريب للعملة الصعبة، بالتحريف، والتزييف، بالمليارات، فأين كانت مصالح الرقابة الاقتصادية، وأين الجمارك، والمدارك، ورقباء حدود المسالك، التي هي سبب كل المهالك؟

ألا يحق لنا أن نقول للجزائري اليوم ما قالته بالأمس البعيد أم الأمير سلطان بني الأحمر بالأندلس: “ابك بدموع النساء، مجدا لم تدافع عنه دفاع الرجال”.

أو قول الشاعر العربي:

أوتيت ملكاً فلم تحسن سياسته  وكل من لا يسوس الملك يخلعه

الجزائري، لم يكن في مستوى الجزائر العالية والغالية، كما بناها الأبطال، وخطط لها الشهداء بالنضال، فالمبذرون، حتى في حياتهم اليومية الخاصة، متسببون في ما آل إليه الاقتصاد الوطني. والمهربون على الحدود، للبترول، والدواء، والغذاء، على حساب طاقات، وأمراض، وغذاء شعبهم، هم مسؤولون عن النزيف الاقتصادي الذي أصاب الجزائر.

فما بالك بمن يخطط للتهريب، ويمالئ الأجنبي على القريب، فيسرق سرقة من لا وطن له، وليس فيه حبيب؟

إن أبسط ما تعلمناه، من قواعد علم الاقتصاد أن الادخار هو أساس كل إعمار.. وأن الدرهم الأبيض، يُدخر لليوم الأسود، وأن الاقتصاد نصف المعيشة. فلماذا لم يعمل ساستنا ومقتصدونا بهذه القواعد وغيرها، للاستثمار البعيد المدى، بدءاً بالاستثمار في الإنسان، الذي هو رأس مال الوطن؟ ولماذا فرّطنا في العقول المهاجِرة، التي ساهمت في تنمية بلدان أخرى، على حساب بلدانها، وهي التي ما فتئت تعلن ولاءها واستعدادها، للمساهمة في النهوض بالوطن، غير أن أصواتها، ونداءاتها، ظلت صدى في فراغ كمن يؤذِّن في مالطة؟

ولماذا هُمشت الكفاءات القادرة، داخل الوطن، وأسندت المسؤوليات، لغير مستحقيها، فانعكس ذلك على حساب التنمية الوطنية، في شكل ثغرات مالية، وبناء هش، وإنتاج قائم على الغش؟

ألا يحق لنا أن نقول للجزائري اليوم ما قالته بالأمس البعيد أم الأمير سلطان بني الأحمر بالأندلس: “ابك بدموع النساء، مجدا لم تدافع عنه دفاع الرجال”.أو قول الشاعر العربي:أوتيت ملكاً فلم تحسن سياسته  وكل من لا يسوس الملك يخلعه.

إن داء الجزائر الذي ينخر جسمها، داء عميق يستبد بها منذ زمن طويل، لأنه فقد المشخص الحقيقي والمستبطن للمستتر من الأمراض، ولم ينجح في تجاوز الظاهر من الأعراض، فاستفحل الداء، وأدى إلى ما نعانيه اليوم من مخاطر، قد تؤدي إلى الانقراض.

والآن وقد بلغ السيل الزُّبى، ما هو الحل؟ هل نستسلم للتحديات وما أكثرها؟ هل نقاوم؟ وكيف نقاوم؟.. يجب أن نستلهم من ديننا، وفيه كل العلاج. “إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها” نحن اليوم على أبواب قيام القيامة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والأخلاقية في جزائرنا الحبيبة، وفي أمتنا العربية الغريبة، وقد تكاثرت النبال، وتجمعت النصال، غير أن ما يشفع لنا، أننا نملك وسائل العلاج، ونحمل فوق أرضنا، وعلى ظهورنا، ألواناً شتى من الدواء، وكل ما ينقصنا هو الوعي بما نملك، والشعور بما نستطيع أن نقدم، فالمطلوب منا أن نبدأ من جديد، وأن لا نستسلم للسقوط، فليس العيب أن نسقط، ولكن العيب كل العيب أن نبقى ساقطين.

إنا منا الصالحون، ومنّا دون ذلك، والصالحون هم الأكثر، فليعِ الصالحون معنى قدرتهم، وليهيّئوا طاقاتهم، وليوحّدوا كلمتهم، وليضربوا بيد من حديد على الفاسدين، المفسدين، فمنهم كل العطب.

ما يزال وطننا –والحمد لله- يزخر بكل الطاقات الكامنة فيه، وفي مقدمتها طاقة الإنسان عموماً، وطاقة الشباب على الخصوص، فليع الإنسان قدرته البنّاءة، وليشمر على ساعد الجد، وليدع جانباً، بؤر الفساد والعنف، ومختلف الآفات الاجتماعية، من أجل البناء الصحيح الحقيقي، المضاد للزلازل.

يجب أن نتعلم من الهزائم النفسية التي منينا بها، فنحول الهزيمة، بالإصرار، والإرادة، والتصميم، والتخطيط، إلى انتصار، حتى نفوت على المتربصين بنا، وبوطننا، في الداخل والخارج فرصة القضاء علينا، ولنتمثل قول الشاعر الفلسطيني الخالد إبراهيم طوقان في قوله:

كفكف دموعك، ليس ينفعك البكاء ولا العويل

وانهض، ولا تشكو الزمان فما شكا إلا الكسول

واسلك بهمتك السبيل، ولا تقل كيف السبيل

ما ضاع ذو أمل سعى يوماً، وحكمته الدليل.

* * *

وطن يباع ويشترى، وتصيح فليحيا الوطن!

لو كنت تبغي حقه لبذلت من دمك الثمن

ولقمت تندب حظه لو كنت من أهل الفطن

ولنعمل –في الأخير- على أن لا تتحول البقرات السمان نسبياً، إلى بقرات عجاف كلياً، ففي ذلك القضاء على كل مقوماتنا، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء. إن شعبنا –كما قال إمامنا محمد البشير الإبراهيمي- قد يرضى بسوء التغذية، ولكنه لن يرضى أبداً بسوء التربية.

مقالات ذات صلة