الرأي

“البكالوريا الدولية” : ما الفائدة منها؟!

أرشيف

حسب ما طالعتنا به وسائل الإعلام الوطنية في النصف الثاني من هذا الشهر، فإن وزارة التربية الوطنية تكون قد أحيت مشروعا كان حبيس الرفوف يخصّ فتح المجال لتلاميذ الثانويات من أجل إجراء ما يعرف بـ”البكالوريا الدولية”. ولم نفهم سبب بعث الروح في هذا المشروع، وما أهميته للبلاد في الوقت الراهن أو مستقبلها.

مصالحنا… ومصالحهم

لقد أُنشئت “منظمة البكالوريا الدولية” عام 1968 من قبل أفراد لاستهداف التلاميذ الذين لم تتجاوز أعمارهم 19 سنة من أجل منحهم شهادة بكالوريا تحمل طابعا دوليا. كما فتحت المنظمة الباب أيضا لصغار التلاميذ الذين يرغبون في الحصول على شهادة إبتدائية أو إعدادية من نفس القبيل. وكل ذلك يهدف إلى تمكين التلميذ من مواصلة الدراسة في بلد غير وطنه الأم. ومن المعلوم أن مقرّ المنظمة يوجد في مدينة جنيف السويسرية، ولها مكاتب في 10 دولة هي بريطانيا والولايات المتحدة والأرجنتين واليابان وكندا والأرجنتين والصين وسنغافورة وأستراليا والهند. وقد وضعت هذه المؤسسة مناهج دراسية لمن يريد الحصول على هذه الشهادة فيُمتحن فيها بإحدى اللغات الثلاث الإنكليزية، أو الفرنسية، أو الإسبانية دون غيرها من اللغات.

وليس سرًا أن العالم الغربي يوفّر كل الأسباب لاستقطاب خيرة تلاميذ بلدان العالم الثالث. وقد وصل التنافس بين مختلف الدول المتقدمة في موضوع جلب أفضل الطلبة والتلاميذ من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى درجة كبيرة جعلت تلك الدول تتبنّى -في استعراض ما عندها من تسهيلات ومعونات- نفس الأساليب التي تسلكها المؤسسات التجارية في عملياتها الإشهارية.

ولا تُخْفِي بعض الهيئات الغربية أن لها علاقات وطيدة مع أساتذة ومدرسين يعملون في بلدان العالم الثالث، المطلوب منهم تعقّب النخب من التلاميذ لاستدراجهم وتسهيل هجرتهم المبكّرة. فالجامعات الغربية بصفة عامة لها إمكانيات ضخمة من حيث البيئة العلمية والموارد المادية، وليس لديها ما يكفي من الطلبة والتلاميذ النجباء لتغطية حاجياتها المتزايدة : هذه النخب هي التي سيقع على عاتقها في المستقبل عبء المسؤوليات في جميع المستويات (البحث العلمي بمختلف فروعه، الابتكارات، الاقتصاد والتجارة، الشركات الناشئة، المهن الحرة…).

ولا شك أن الهجرة المبكّرة غالبا ما تكون في فائدة الفرد المهاجر في آخر المطاف، لأن حظوظه في النجاح الدراسي تكون أوْفر، ومن ثمّ فحصوله على وظيفة تضمن له رَغَد العيش سيكون من تحصيل الحاصل. لكن، هل هذه الهجرة ستكون في فائدة وطنه الأم المنتسب للعالم الثالث؟ لا يحتاج هذا السؤال إلى بيان، فكل بلد يفقد رأس ماله البشري المتمثّل في نخبته التي يُعوّل عليه لبناء البلاد، سيفقد عزّته وسؤدده. سيقول قائل إنه يمكن الاستفادة من هؤلاء عن بعد في وقت لاحق إذا ما توفّرت بعض الظروف. وبطبيعة الحال، لا يمكن نكران ذلك، غير أن تلك الفائدة لا تساوي مقدار بعوضة مما يجب أن يكون عليه الحال.

وعلى من تقع مسؤولية تفشي هذا الوضع البائس؟ إن بلد العالم الثالث الذي يبذل الجهد المادي والبشري في التربية والتعليم لفائدة أبنائه مسؤول عن استثمار هذا الجهد حتى يؤتي أُكْله، وذلك بتوفير أسباب العيش الكريم والظروف المواتية لجعل النجباء من الطلبة والتلاميذ يُؤْثِرون العمل في بلدانهم. تلك هي معضلة العالم الثالث : تنفق هذه البلدان أموالا طائلة في مجال التربية والتعليم؛ ثمّ تعجز، في آخر المطاف، عن استغلال ذلك الاستثمار. أما على المستوى الفردي، فلا شك أن هناك أيضا مسؤولية متفاوتة يتحملها كل فرد حسب الظروف التي أدت به إلى هجرة وطنه.

البكالوريا الدولية… والهجرة المبكّرة

فإذا كان هذا هو واقعنا فكيف ندفع بأفضل تلاميذنا إلى الهجرة الجماعية المبكّرة من خلال تشجيعهم على الحصول على “البكالوريا الدولية”؟ عندما ننظر إلى الدول المهتمة بإجراء هذه الشهادة نجد أن غالبيتها الساحقة من العالم الثالث. ذلك أن التلميذ في العالم المتقدم لا يحتاج إلى “بكالوريا دولية” ليدرس في بلده. ومن جهة أخرى، عندما ننظر إلى الدول التي تقبل هذه الشهادة نجد على رأسها فرنسا، ثم بلجيكا وكندا وسويسرا. وفي هذا السياق، نلاحظ على سبيل المثال أن نسبة النجاح بفرنسا في البكالوريا تجاوزت 90%، وهذا لا يعني التفوّق في الدراسة، بل يعني أن هناك سياسة منتهجة لتكون نسبة النجاح عالية. والنقص في التفوّق الذي نجده في هذه النسبة العالية من الناجحين في الدول المتقدمة يتمّ تعويضه بالطلبة المتفوّقين الوافدين من العالم الثالث.

لكل ذلك، فبدل الاهتمام بهذه الشهادة التي لا فائدة ترجى منها للبلاد، يجدر بوزارة التربية عندنا التركيز على موضوع المنافسات الدولية والإقليمية والوطنية لمرافقة نجباء التلاميذ في كل الأطوار. وبهذا الصدد، من المؤسف أن نلاحظ الآن بأن الوزارة لا تبذل جهدا تُحمد عليه في باب تنشيط المنافسات العلمية بين التلاميذ. ولا ندري كيف أن جيراننا في المغرب العربي الكبير، رغم قلة الإمكانيات، يستطيعون إعداد تلاميذهم لمنافسات عالمية، مثل الأولمبياد العلمية، ويشاركون فيها ويحصلون على مراتب محترمة… بينما الجزائر تعجز حتى عن تنظيم فترات تدريبية للمتفوّقين!! وإذا كنا خلال السنة الماضية نتذرع بوباء كورونا فلم تصبح هذه الجائحة حجة مقبولة اليوم لأن غيرنا يعانى منها أكثر منا ولم يمنعهم ذلك من المُضيُّ قدمًا في إعداد نجبائهم للمشاركة في المنافسات الأولمبية المختلفة. من هذا الباب، نعتبر الاهتمام بالبكالوريا الدولية (إن صحّ الخبر) هروبا إلى الأمام، إن لم يكن عبثا نَذرّ به الرماد في العيون.

والسبيل الأسلم هو أن تُعْنى وزارة التربية بتحسين المستوى التحصيلي للتلميذ بصورة عامة، وأن تنكبّ أيضا على مرافقة المواهب في مختلف التخصصات. وبعد ذلك، تكون الكرة في مرمى وزارة التعليم العالي التي لم تُحِط الحاصلين على البكالوريا المتميّزين بأي عناية خاصة لحد الآن، رغم المحاولات التي نسمع بها من حين لآخر. وأخيرا، نتساءل : بعد التكوين الجامعي المتميّز لهؤلاء اللامعين (إذا ما تمّ!)، ماذا تحضّر لهم مؤسسات الدولة كوظائف وظروف عمل مواتية وتسهيلات لاستغلال مواهبهم لصالح البلاد؟ هذا ما كان ينبغي أن تفكّر فيه السلطات المتعاقبة منذ عهد بعيد بدل الانشغال بمتاهات البكالوريا الدولية وما شابهها. لم تؤدِ السلطات هذا الواجب لحد الساعة… فمتى ستفعل؟!!

مقالات ذات صلة