جواهر
التقتها الشروق ونقلت حكايتها‬

الأوراسية التي‮ ‬قتلت عسكريا فرنسيا دفاعا عن الشرف

صالح سعودي
  • 17604
  • 52
الشروق
المجاهدة بوذن أم السعد

صنعت المجاهدة الفذة بوذن أم السعد الكثير من التميز خلال الثورة التحريرية المباركة،‮ ‬وعلاوة على حرص أداء واجب رعاية شؤون العائلة والأبناء،‮ ‬فقد كانت إلى جانب المجاهدين،‮ ‬الذين كانت تدعمهم بالطعام والدعم المعنوي‮ ‬من مقر سكناها في‮ ‬قرية أقرادو التابعة لمنطقة مروانة بباتنة‮.‬

ولم تقتصر جهود بوذن أم السعد على تدعيم الثورة،‮ ‬بل ساهمت في‮ ‬صنع ملحمة خلّدها التاريخ،‮ ‬وتحوّلت إلى بطلة بامتياز،‮ ‬حين افتكت بضابط فرنسي‮ ‬وصلت به الوقاحة إلى تجاوز عتبة المنزل في‮ ‬ساعة متأخرة في‮ ‬إحدى ليالي‮ ‬صائفة‮ ‬1961،‮ ‬وأعطت له درسا في‮ ‬الشجاعة والصمود والدفاع عن الشرف،‮ ‬حيت أردته قتيلا بضربات مركزة بالشاقور،‮ ‬وهي‮ ‬العملية التي‮ ‬منحت انتصارا معنويا لسكان المنطقة الذين‮ ‬يذكرون خالتي‮ ‬أم السعد‮ (‬من مواليد‮ ‬1929‮) ‬بكثير من الاعتزاز،‮ ‬خصوصا وأنها أقدمت على تلك العملية البطولية،‮ ‬وهي‮ ‬ابنة الـ‮ ‬32‮ ‬سنة في‮ ‬عراك وجه لوجه كان مفتوحا على كل الاحتمالات،‮ ‬فالضابط‮ ‬يملك المسدس والرشاش وخراطيش برتبة ملازم أول تخرج من المدرسة العسكرية الفرنسية،‮ ‬والبطلة الأوراسية لا تعرف في‮ ‬قاموسها سوى الصمود وعدم العودة إلى الوراء‮.‬

وتقول المجاهدة الفذة بوذن أم السعد خلال مرافقتها لـ”الشروق‮” ‬إلى مكان هذه الملحمة بمنطقة أقرادو الشهيرة‮ “‬زوجي‮ ‬سقط شهيدا بعد أن أعدمته السلطات الاستعمارية الفرنسية في‮ ‬جبل بوغيول عام‮ ‬1957،‮ ‬وترك لي‮ ‬3‮ ‬أبناء في‮ ‬عمر الزهور،‮ ‬حيث ألقي‮ ‬عليه القبض في‮ ‬سوق مروانة‮ ‬يوم الجمعة‮ ‬8‮ ‬رمضان،‮ ‬وتم وضع أبو زوجي‮ ‬تحت الإقامة الجبرية،‮ ‬لأنهما من عائلة مجاهدة معادية للاستعمار،‮ ‬وكانت المتاعب تلاحقني‮ ‬يوما بعد‮ ‬يوم ويكبر الحقد في‮ ‬قلبي‮ ‬لكل شيء له علاقة بالاستعمار الفرنسي‮ ‬وأذنابه‮”‬،‮ ‬وأكدت خالتي‮ ‬أم السعد أن منطقة‮ “‬أقرادو‮” ‬التي‮ ‬كانت تقيم فيها رفقة عائلتها تقع قرب جبل بوغيول،‮ ‬وكانت نقطة اتصال بين المجاهدين في‮ ‬الجبل ومروانة،‮ ‬ولذلك عند خروج الجيش الفرنسي‮ ‬أثناء الحصار والتطويق نخرج نحو الجبل بعد أن نخفي‮ ‬المأكولات بمختلف أنواعها،‮ ‬وكم تشتد همجية المستعمر إذا وصلته أخبار عن مجيء مجاهدين للمنطقة،‮ ‬وكم من مرة أضرموا النيران في‮ ‬المنازل،‮ ‬وحاولوا الاعتداء على شرف النساء وضرب المسنين،‮ ‬مضيفة أن هناك نوعا من الحركى‮ ‬يخدم معهم ويعاون الجزائريين،‮ ‬وفيهم من باع دينه ووطنه لفرنسا،‮ ‬ويقومون بممارسات أكثر دناءة من تصرفات الفرنسيين أنفسهم،‮ ‬ولكم أن تتصوروا حسب محدثتنا حجم مسؤولية المرأة الريفية في‮ ‬خدمة الثورة،‮ ‬وإعداد الطعام للمجاهدين وغسل الثياب وتربية الأبناء ومنعهم من أيادي‮ ‬المستعمر الهمجي‮ ‬والدفاع عن نفسها وصون عرضها‮.‬

‭ ‬

‮”‬نوض‮ ‬يا حلوف بن حلوف‮.. ‬أنا فلاقة أرواح نفلقك‮”‬

وتعود الحادثة إلى صائفة‮ ‬1961،‮ ‬حيث خرج مجموعة جنود فرنسيين من مدينة مروانة في‮ ‬حدود الساعة العاشرة ليلا،‮ ‬وتقول خالتي‮ ‬أم السعد بوذن في‮ ‬وصف الحادثة‮ “‬عرّج ثلاثة منهم اتجاه دشرة أقرادو،‮ ‬ومضى أحدهم على‮ ‬5‮ ‬منازل رفقة بعض مرافقيه‮ ‬يدخل الديار ويخرج حتى وصل إلى منزلنا،‮ ‬وكنت أرضع صغيري‮ ‬من زوجي‮ ‬الشهيد،‮ ‬وفجأة انتبهت إلى ضوء في‮ ‬الفناء‮ ‬يقطع الظلام،‮ ‬ليدخل علينا عسكري‮ ‬فرنسي‮ ‬ضخم الجثة،‮ ‬وقام بركل زوجي‮ ‬بعبارات تحمل الكثير من الاستفزاز والاحتقار،‮ ‬منها ترديد كلمة‮ “‬فلاقة‮”‬،‮ ‬متهما إيانا بمساعدة المجاهدين،‮ ‬ثم اقترب مني،‮ ‬حينها ألقيت بالأبناء في‮ ‬حجر الزوج،‮ ‬وصحت قائلة‮ “‬نوض‮ ‬يا حلوف بن حلوف،‮ ‬لن أسمح بتواجد قتلة أبو أولادي‮ ‬في‮ ‬منزلي‮.. ‬لا اله إلا الله والموت واحدة‮.. ‬أنا فلاقة أرواح نفلقك‮”‬،‮ ‬وشعرت بقوة إلهية لمواجهة هذا الوحش حسب وصفها،‮ ‬حيث حاولت أن تستولي‮ ‬على السلاح وجاءته من الخلف وهو‮ ‬يضربها بمؤخرة الرشاش على رأسها،‮ ‬وخرجنا‮ -‬تقول أم السعد‮- ‬من المنزل نحو الحوش في‮ ‬عراك مباشر أخذ حركة دائرية‮.‬

‭ ‬

الشاقور‮ ‬يتغلب على الرصاص ولبؤة الأوراس تفتك بالوحش الفرنسي

وفي‮ ‬أجواء مؤثرة تواصل المجاهدة الفذة بوذن أم السعد وصف ملحمة العراك المباشر مع الضابط الفرنسي‮ ‬قائلة‮ “‬أمسكت بيدي‮ ‬على رشاشه وأوقعته أرضا بفضل الله،‮ ‬وقام بعدة محاولات لإبعادي،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك نهش أصابعي‮ ‬عظا بأسنانه،‮ ‬لكن ذلك لم‮ ‬يثن من عزيمتي،‮ ‬خاصة لما مددت‮ ‬يدي‮ ‬نحو الشاقور‮ (‬يستعمل لقطع الحطب وأغصان الشجر‮) ‬الموجود تحت مجموعة الحطب الموضوع في‮ ‬زاوية فناء المنزل‮”‬،‮ ‬وانهالت عليه خالتي‮ ‬أم السعد بوذن ضربا على رأسه لتخور قواه،‮ ‬وجرّدته من سلاحه الذي‮ ‬لم تحضرها البديهة في‮ ‬إطلاق النار عليه،‮ ‬ضربات الشاقور تنزل عليه،‮ ‬وهي‮ ‬متيقنة من موته،‮ ‬ورغم ذلك راح‮ ‬يركلها ويحاول النهوض،‮ ‬لكن روحه فارقت البدن بعدما هشمت عظامه وتطاير مخه ودمه من وقع الهزيمة،‮ ‬وبعد القضاء على الضابط الفرنسي‮ ‬فكرت البطلة الأوراسية في‮ ‬إلقائه في‮ ‬مطمورة داخل المنزل،‮ ‬ولكن الزوج بعدما وقف على الحقيقة أخبر زوج والدتها بما حدث،‮ ‬فأحضر الحصان لنقل الجثة نحو مرتفعات جبل بوغيول الذي‮ ‬أعدم فيه زوجها الشهيد،‮ ‬وتمت تغطية جثة العسكري‮ ‬الفرنسي‮ ‬بأغصان أشجار الغابة،‮ ‬وكتموا السر في‮ ‬تلك الليلة وسط صمت الجميع،‮ ‬بعدما توجت العملية بنجاح‮.‬

‭ ‬

عناية الله جنبت سكان قرية‮ “‬أقرادو‮” ‬إبادة جماعية

وفي‮ ‬الصباح خرجت القوات الفرنسية في‮ ‬عملية تمشيط بحثا عن الضابط،‮ ‬تتقدمهم كلاب مدربة اتجهوا صوب منطقة‮ “‬أقرادو‮”‬،‮ ‬وفي‮ ‬هذا السياق تقول خالتي‮ ‬أم السعد‮ “‬خرجنا من المنزل وأنا واثقة أنهم سيكتشفون الأمر وسيعرفون السر،‮ ‬ولكن عناية الله حوّلت كلبهم نحو قمة الجبل ليرعانا الله ويحفظنا،‮ ‬لأنني‮ ‬كنت خائفة على الدشرة بأكملها،‮ ‬خاصة أنهم سيدفعون الثمن لو تم العثور عليه،‮ ‬وبعدها أخبرنا قيادة الجيش التي‮ ‬استلمت سلاح الضابط واتصلوا بالمكان لمعاينة الحقيقة‮”‬،‮ ‬وقد اندهش الكثير حينها من جرأة صاحبة العملية البطولية،‮ ‬بدليل أنها سمحت بتجريد جثة الضابط الفرنسي‮ ‬من اللباس،‮ ‬وعثروا بعد تفتيشه على رتبته العسكرية ومجموعة خراطيش وكمية من النقود‮ (‬820‮ ‬ف ف‮)‬،‮ ‬ثم قامت قيادة الجيش على مستوى المنطقة بدعوة السكان إلى ضرورة كتمان السر،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تم تحوّل خالتي‮ ‬أم السعد إلى طبيب‮ ‬يهودي‮ ‬بمروانة معروف بـ‮ “‬سطورة‮”‬،‮ ‬من أجل العلاج بحجة سقوطها أثناء ركوبها الحصان‮.‬

‭ ‬

زيارة البقاع المقدسة‮.. ‬أكبر أمانيها

وبعيدا عن الحادثة التاريخية التي‮ ‬جعلت بوذن أم السعد أول امرأة تفتك بضابط فرنسي،‮ ‬فقد دعت محدثتنا إلى الاعتناء بذاكرة الثورة،‮ ‬واستذكار مناقب كل من ضحى من أجل الجزائر،‮ ‬وتبقى أكبر أمانيها هو زيارة البقاع المقدسة،‮ ‬خاصة أنها بلغت من العمر‮ ‬86‮ ‬سنة،‮ ‬حيث تأمل في‮ ‬تسهيل مهمة الحصول على جواز السفر الخاص بالحج من قبل الجهات الوصية مقابل تكفلها بتكاليف التنقل إلى البقاع المقدسة،‮ ‬وكانت قد وجهت رسالة إلى والي‮ ‬باتنة دعته إلى تسهيل مهمتها باعتبارها أرملة شهيد ومجاهدة،‮ ‬من أجل تمكينها من جواز السفر الخاص بالحج،‮ ‬خاصة أن ذلك‮ ‬يندرج حسب قولها في‮ ‬إطار ذوي‮ ‬الحقوق،‮ ‬وقد سبقت أن راسلت منظمة المجاهدين ومدير المجاهدين لكن دون جدوى،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬أكد ابنها أنها تستحق التفاتة ملموسة في‮ ‬هذا الجانب،‮ ‬خصوصا وأنها طلبت تسهيل مهمتها إداريا من خلال الحصول على جواز السفر الخاص بالحج،‮ ‬ولم تطلب امتيازات مادية أو شخصية،‮ ‬وهو الطلب الذي‮ ‬يبدو منطقيا حسب قوله من طرف أول امرأة افتكت بضابط فرنسي‮.‬

‭ ‬

هذا ما قالته لأحلام مستغانمي‮ ‬خلال زيارتها إلى مروانة

كانت المجاهدة الفذة بوذن أم السعد من أبرز الحضور الذين قاموا باستقبال الكاتبة المعروفة أحلام مستغانمي‮ ‬خلال زيارتها لمدينة مروانة منذ سنتين‮ (‬نوفمبر‮ ‬2013‮)‬،‮ ‬وهذا بمناسبة إصدار روايتها الجديدة‮ “‬الأسود‮ ‬يليق بك‮” ‬التي‮ ‬تدور أحداثها حول مدينة مروانة،‮ ‬وأكدت المجاهدة بوذن في‮ ‬هذا الخصوص أنها قالت لصاحبة رواية الجسد أن نساء ورجال الجزائر صنعوا التاريخ فوق الميدان من أجل نيل الاستقلال ومنح دروس في‮ ‬النضال والصمود للاستعمار الفرنسي،‮ ‬وعلى المثقفين والكتاب أن‮ ‬يحرصوا على كتابة وتدوين هذا التاريخ،‮ ‬حتى‮ ‬يعطوا صورة إيجابية عن بلد المليون ونصف المليون شهيد،‮ ‬علما أن المجاهدة بوذن أم السعد أوكلت لها مهمة تكريم أحلام مستغانمي‮ ‬ومرافقتها في‮ ‬عدة أماكن أثرية وتاريخية خلال زيارتها لمدينة مروانة بباتنة‮.‬

مقالات ذات صلة