الرأي

أيُّها المُقَيّم : إذهبْ إلى الجحيم!

بعد الإحباط الذي أصابنا عند الوقوف على الألفاظ الجارحة والمتعالية -التي تضمّنتها برقية تقيّم مشروع مناهج دراسية علمية لمؤسسة داخل الوطن- بعث بها أحد باحثينا في الخارج، نقول بعد تلك الخيبة، تذكّرنا مقالا صدر منذ سنة في مجلة علمية غربية يتناول موضوع اللّباقة عند المقيّمين، الذين يُسَمَّون في مصطلحات النشر بـ”الأقران”. هؤلاء الخبراء مطالبون بتقييم الأبحاث العلمية المعروضة للنشر على المجلات الأكاديمية. ويتساءل هذا المقال عن الأخلاق التي ينبغي أن يتحلّى بها المقيّم في تحرير تقريره.

إنما… الأخلاق ما بقيت !

فمن العبارات الجارحة التي سُجلت في بعض تقارير هؤلاء الأقران الموجهة للمؤلفين، أشار المقال إلى بعض منها مثل : “هذا المقال هو، بكل بساطة، زُبالة”، و”ما خَطَّه المؤلف في مقاله إهانة للعلم”، و”المؤلف الأول لهذا المقال امرأة، يجب عليها أن تكون في المطبخ وليس لها أن تكتب أبحاثا”، و”عليك أيها المؤلف أن تفكّر في مهنة أخرى بعيدة عن العلم”، إلخ. لقد تم استقاء التعليقات اللاذعة المذكورة آنفا من استطلاع أجراه باحثون أمريكيون على 1106 باحث من 46 دولة يعملون في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وفي هذه الدراسة التي أجريت في جانفي 2020، ذكر 58% من المشاركين في الاستطلاع أنهم تلقوا مثل هذه الإهانات من المقيّمين. ونتيجة لذلك، تأثرت إنتاجيتهم وثقتهم بمهاراتهم.

تعتبر مراجعة الأقران في صميم عملية التحرير العلمي وأساس نظام النشر. وبطبيعة الحال، فجودة مراجعة الأقران تعتمد على جودة المقيّمين. وليس سرًا أن تقييم الأبحاث الأكاديمية من قبل الأقران أصبح عملية غير مريحة لدى الأسرة الجامعية. ولذا ارتفعت العديد من الأصوات معبرةً عن مخاوفها بشأن مصير مراجعة الأقران. ذلك أن عدد المجلات والمقالات العلمية المنشورة ازداد بشكل مطرد، من حوالي 3% إلى 3.5% كل عام : على سبيل المثال، في عام 2014 وحده، نشرت ما يناهز 28 ألف مجلة إنكليزية اللغة مراجعات بأقلام الأقران فاق عددها 2.5 مليون بحث.

وتذهب مخاوف البعض إلى جعلهم يصرّحون بأن الأوساط الأكاديمية أصبحت حقل ألغام يؤثر على الصحة العقلية لكثير من الباحثين جراء مساوئ أساليب التقييم وتجاوزات صادمة تضرب نفسية المؤلفين وتفاجئهم في تقارير الأقران. فقد أظهرت دراسات أعراضًا للاكتئاب والقلق بين الأكاديميين في العالم المتقدّم، وخاصة لدى طلاب الدراسات العليا. وعلى سبيل المثال، بيّنت دراسة قبل عامين، أجريت على أكثر من 3 آلاف طالب دكتوراه في بلجيكا أن 32% منهم معرّضون لخطر الإصابة باضطراب نفسي لسوء أخلاق المقيّمين.

وفي كل الأحوال، لا تخلو مراجعة الأقران من التحيّز النسبي، وهي تظهر عيوبا مختلفة، بعضها ناجم من قلة تجربة المقيّم التي لا تؤهله إلى إجراء تقييم جاد، علما أن المقيمين الجدد لا يخضعون إلى تدريبات على تحرير التقارير العلمية من هذا القبيل. وقد أظهرت قرائن عديدة حدوث انتهاكات للموضوعية في تقييم الأقران لأسباب عديدة، مثل عامل اللغة، ومؤسسة الانتماء، والجنسية، وهوية المؤلفين، إلخ. وهذا ما يجعل تعليقات المراجعين في التقارير وقحة أحيانا وغير مهنية وقاسية بدون مبرر علمي، فضلا عن افتقارها إلى النقد البناء. وربما تأثر هذا المقيّم أو ذاك خلال مشواره العلمي بنقد لاذع وُجِّه إليه من مقيمين آخرين ترك في نفسه رغبة انتقامية ممن سيقيّم أعمالهم. ونحن نلاحظ، مثلا، أن القسوة المفرطة في تعامل بعض المشرفين إزاء طلبتهم ينجم عنها في كثير من الأحيان سلوك مشابه لهؤلاء الطلبة عندما يصبحون مشرفين على أعمال غيرهم.

ما يجب أن يكون

كانت المجلة العلمية الراقية “نيتشر” Nature قد أجرت استطلاعًا سريعًا لموظفيها، فشهد ربعهم أنهم لاحظوا خلال أداء مهامهم تعليقات غير لائقة من الناحية الأخلاقية بأقلام المقيّمين في حق المؤلفين. أدى هذا الوضع ببعض المتتبعين إلى إطلاق اسم “المقيّم رقم 2″ على المقيّم الشرير غير المتخلق ـالذي يشنّ هجمات تدمر المؤلف نفسيا بدون مبرّر. فقد تأسست مجموعة فيسبوكية تضم نحو 40 ألف عضو للتنديد بـ”المقيم رقم 2”. يقول هؤلاء المستاؤون : “تخيل المدة التي تستغرقها في تحسين بحثك عندما يكون التعليق الوحيد للمقيم الذي من المفترض أن يرشدك هو “هذا العمل زبالة”… “فليذهب هذا المقيّم إلى الجحيم”. تلك هي العبارة التي ردّ بها أحد الباحثين على من قيّم عمله بلهجة وقحة.

يجب أن تكون تقارير الأقران الجيدة موضوعية، وثرية بالمعلومات وتتضمن تعليقات نقدية من شأنها أن تكون مفيدة لهيئة التحرير في اتخاذ قرارها ومفيدة للمؤلف لتحسين محتوى عمله. كما أن الزيادة في المدح غير مستحبة. ومن الأمور الأخرى التي ينبغي أن يشير إليها المقيّم تحديد العيوب الرئيسية في المقال، والإشارة إلى العبارات أو الفقرات التي تتطلب توضيحًا، ومن المفيد أيضا سرد التغييرات التي يجب إجراؤها. كما ينبغي مراجعة جميع أقسام البحث، بما في ذلك الاقتباسات والرسومات التوضيحية.

ويتعيّن على المقيّم أن يقدم ذلك -في كل الأحوال، ومهما كانت الأخطاء والتصويبات المطلوبة- بأسلوب مهذّب ونزيه وواضح التعبير للمؤلفين حتى يدركوا المقصود من الملاحظات، إن كانت لغتهم الأم ليست اللغة التي كتبوا بها البحث. وفي هذا السياق، يوصي المتتبعون بتجنّب الكلمات المعقدة أو غير المألوفة… ولا حاجة للتأكيد على احترام سرية العمل وعدم استخدام المقيّم المعلومات الموجودة في المقال قبل نشره.

من المعلوم أن بعض المجلات تجيز لهيئة التحرير التدخل في تقارير المقيمين وتهذيب العبارات الجارحة أو المسيئة الموجهة للمؤلف، بينما تمنع مجلات أخرى هيئة التحرير من التدخل في تقرير المقيّم وتلزمها بإرساله بالصيغة التي ورد بها إليها.  ولا شك أن العديد من المراجعين يتصرفون بطريقة مثالية فهم يعملون كمتطوعين ويزداد العبء عليهم سنة بعد سنة لتكاثر المجلات والباحثين معا. ومن هنا لا بد أن نتفهم معاناتهم في عملية التقييم… وأن يتفهّموا هم أيضا بأن وقاحة الكلام  والتعالي على الزملاء لا يخدم أي فئة من الباحثين، والأدهى من ذلك أنه لا يساعد العلم على التقدّم.

مقالات ذات صلة