الرأي

أين نحن من تصنيف الجامعات؟!

قبل عقود لم يكن أحد يفكّر في تصنيف الجامعات، وكان التصنيف “عرفيا” تبرز فيه جامعة أو جامعتان في كل بلد (هارفارد، أكسفورد، كمبردج، لومونوسوف، السوربون، القاهرة…). ثم بتكاثر الجامعات وتنافسها لاستقطاب خيرة الطلبة والأساتذة والباحثين، وبظهور شبكة الإنترنت ومع سهولة التواصل والحصول على المعلومة، اتّجه الجميع نحو فكرة التصنيف. وكما هو معلوم، تجلّت هذه التصنيفات العالمية عام 2003 مع تصنيف الجامعات الذي أنشأته جامعة شنغهاي الصينية. كان هذا بعد عقديْن من ظهور تصنيف أمريكي داخلي. ثم ازدهرت التصنيفات وأدخلت عوامل ومؤشرات مختلفة، منها التأثير الاجتماعي متعدّد الأشكال… ومن أشكاله أحداث جامعة كولومبيا الأمريكية حين انتفض طلبتها عما يجري في غزة.

مسار التصنيفات الجامعية

وهكذا تأسَّست عدة هيئات مهمّتها تصنيف الجامعات، ووضعت كل منها معاييرها الخاصة. وصار التنصيف نشاطا تجاريا للساهرين عليه والمتعاطين معه، واتّجه المستثمرون في الجامعات إلى اعتماد هذا التصنيف لتمويل الأبحاث، فالجامعة التي تكون سيئة التصنيف في العالم الغربي ومن نحا نحوه ستكون غير محظوظة في جلب الأموال والنخب من الطلبة والباحثين والأساتذة. وقد تعقّد الوضع وتزايد التنافس، وهو ما جعل مسؤولي الجامعات يسعون بكل ما أوتوا من قوة لتلميع واجهات مؤسساتهم الإلكترونية وفق متطلبات معايير التصنيف (وليس وفق ما تقتضيه مصلحة الجامعة)؛ بل ذهب الأمر بهؤلاء إلى أنهم يدفعون أموالا طائلة لخبراء التصنيف في العالم ويأتون بهم لإرشاد وتدريب موظفي الجامعة على تلميع صورتها، وليس على تحسين أدائها.

وفي هذا السياق، ظهرت دراسات عديدة تكشف عن بعض الحقائق التي تثبت أن هذا التصنيف لا يعكس بصدق ترتيب الجامعات، فعلى سبيل المثال، أثبتت إحدى الدراسات أنه بمجرد إجراء تعديل طفيف في أحد معايير التصنيف تقهقرت جامعة من المرتبة الثانية إلى المرتبة الثامنة. وكانت مشاكل من هذا القبيل موجودة منذ بداية ظهور التصنيفات، وأثارت الهيئات الجامعية العديد من التحفظات والنقد إزاءها.

والآن يعارض الكثير من مسؤولي الجامعات استخدام التصنيف لمقارنة مؤسساتهم فيما بينها، ولا يرون من الإنصاف استغلال التصنيف في إطار اتخاذ قرارات تبنى عليها السياسة العامة للجامعات أو التعليم العالي. وتتمحور هذه الانتقادات في فئتين: الفئة الأولى تتعلق بمنهجية التصنيف واختيار معاييره، والفئة الثانية تتعلق بتداعياته على الجامعات.

كما لاح مؤخرا قلقٌ لدى هيئات التصنيف العالمية عندما لاحظوا تذمّر بعض الجامعات من هذا الأداء، ومنها جامعات رائدة، فهذه جامعة رودس في جنوب إفريقيا، وجامعة زيوريخ السويسرية، وجامعة أوترخت الهولندية، وكذا معاهد تكنولوجية هندية من الطراز الأول تقاطع بعض تصنيفات الجامعات وتمتنع عن تزويدها ببياناتها التي تعتمد عليها معايير التصنيفات. وعلى سبيل المثال، فاز معهدان تكنولوجيان هنديان عام 2020 بمرتبتين مرموقتين في التصنيف العالمي على الرغم من أنهما لا يتمتعان بسمعة طيبة مقارنة بالمعاهد التكنولوجية الراقية في البلاد. وما رفع من ترتيب المعهدين المذكورين هو ضخامة عدد الاستشهادات والإحالات إلى البحوث الصادرة فيهما. ونحن نعلم أنه يوجد في هذا الباب تلاعبٌ كبير يستغله عدد معتبر من الباحثين في الشرق والغرب. هذا المشهد هو الذي جعل 6 معاهد تكنولوجية متميزة في الهند تنسحب من التصنيفات الجامعية، ثم تبعها معهدان آخران.

الاتجاه نحو تصنيفات إقليمية ووطنية

في الآونة الأخيرة، اشتدت الانتقادات الموجَّهة إلى التصنيفات العالمية للجامعات، واختلفت أسباب السخط عليها. ومن الصعب التنبؤ اليوم بالمستقبل، ولكنه من المؤكد أن التطورات الحالية ستؤدي إلى مشهد مختلف لنظام هذا التصنيف خلال السنوات القادمة.

ومن تلك الانتقادات التي يوجهها الخبراء للتصنيفات العالمية أنها باتت ترتبط أكثر فأكثر بالصراعات السياسية والاقتصادية الدولية. ويلاحظون أنه حتى قبل تفشي جائحة كورونا، كانت هناك دلائل تشير إلى انهيار “العولمة العلمية”. لقد أدت التدابير المختلفة المتخذة لمكافحة الجائحة والصراعات العسكرية والأيديولوجية الأخيرة، إلى انهيار التعاون الأكاديمي الدولي. وهذا ما أثر على أنظمة تصنيف الجامعات.

ومن سلبيات هذه التصنيفات أنها جعلت الجامعات تفرِّط في تلبية الشروط  التي تعزِّز رتب تصنيفها، وأدى ذلك مثلا إلى إلقاء اللوم على مسؤولين جامعيين أبرياء والثناء على آخرين ثناءً غير مستحق. وقد لوحظ أن هذه الممارسة جعلت بعض الجامعات ترفع ترتيبها في التصنيف فتظهر في مكانة بارزة غير مستحقة. ومع ذلك ينبّه الخبراء إلى أنه لا يمكن تصور وضع يتجاهل أي نوع من التقييم الخارجي للجامعات.

هناك أيضًا كتاباتٌ حول الموضوع تشير إلى وجود نوع آخر من التحيزات الثقافية والإيديولوجية في التصنيفات الجامعية ترتبط بعضها بمحاولة هيمنة الشمال على الجنوب أو أمريكا (الولايات المتحدة) على آسيا (الصين) والعكس بالعكس. بل سُيِّس التصنيف بشكل متزايد في عديد البلدان؛ فعلى سبيل المثال، نشرت هيئة تصنيفات بريطانية تصنيفا إقليميا في أواخر عام 2023 إثر اجتماع عقد في أبو ظبي إذ تقدمت في هذا التصنيف جامعات الإمارات العربية المتحدة بينما تراجعت المؤسسات المصرية والسعودية الرائدة. وهذا يذكّر المتتبعين بما يجري في بعض المؤتمرات من تأثير الدولة المضيفة على مخرجات المؤتمرات. وعلى المستوى المحلي، غالبا ما تتفاخر السلطات الحاكمة عندما يكون أداء جامعاتها متميزا في التصنيف العالمي، بينما تواجه شماتة أحزاب المعارضة عندما يكون الأمر عكس ذلك.

وفي هذا الخضم ظهرت تصنيفاتٌ جديدة -وطنية وإقليمية- غير عالمية، مثل التصنيف الروسي القومي وتصنيف الجامعات العربية الذي سهرت عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع اتحاد الجامعات العربية الذي اعتمد مؤشرات التعليم والتعلم والبحث العلمي والإبداع والابتكار والتعاون الدولي والإقليمي والمحلي وخدمة المجتمع.

سُيِّس التصنيف بشكل متزايد في عديد البلدان؛ فعلى سبيل المثال، نشرت هيئة تصنيفات بريطانية تصنيفا إقليميا في أواخر عام 2023 إثر اجتماع عقد في أبو ظبي إذ تقدمت في هذا التصنيف جامعات الإمارات العربية المتحدة بينما تراجعت المؤسسات المصرية والسعودية الرائدة. وهذا يذكّر المتتبعين بما يجري في بعض المؤتمرات من تأثير الدولة المضيفة على مخرجات المؤتمرات. 

ويدرس الآن مسؤولو عديد الجامعات في العالم، وخاصة في آسيا، فكرة الانسحاب من نظام التصنيف، وهم يبحثون عن البدائل، فالكل يعلم مثلا أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى تعميق الهوة بين روسيا والغرب، إذ فرضت معظم التصنيفات العالمية عقوبات مختلفة على روسيا. ومن الأمثلة الأخرى، نشير إلى أن 52 جامعة في كوريا الجنوبية شكلت منتدى تصنيف الجامعات الكورية وهددت بمقاطعة تصنيفات عالمية من خلال عدم تزويدها بالبيانات. وتأتي علامات السخط أيضا من ماليزيا واندونيسيا وسنغافورة التي أطلقت تصنيفا بمعايير جديدة لجامعات منطقة دول جنوب شرق آسيا للتحرر من تأثير التصنيفات العالمية ومن عدم إنصافها.  

وعلامات السخط ظهرت أيضا في أوروبا -مثل ما جرى في هولندا وسويسرا- وكذا في مؤسسات النخبة بالولايات المتحدة رغم أنه لم يكن لدى الجامعات الأمريكية الكثير من الاعتراضات حول التصنيفات العالمية، لكن هذا الوضع يبدو الآن قيد التحوّل.

كل هذا يدعونا، نحن في الجزائر، إلى أمرين:

أولا: الكفّ عن الهرولة نحو التصنيفات العالمية والإقليمية اعتمادا على تلميع صورة جامعاتنا بالغثّ دون السمين.

ثانيا: وضع تصنيف وطني لمؤسّساتنا الجامعية تراعي معاييرُه القضايا الجوهرية الجادة التي تعبِّر عن مدى التحصيل العلمي لطلبتنا في كل جامعة (تقييم مُدد الإضرابات، انتشار الغش في الامتحانات، التغطية الحقيقية لمحتوى كل مقرر دراسي من قبل الأستاذ، تقييم غيابات المعلّم والمتعلّم، تقييم الأداء الإداري…)، وهذا فضلا عن المعايير المتعارف عليها مع التركيز على الكيف بدل الكمّ.

مقالات ذات صلة