الرأي

أين ابن حمزة الجزائري ومحمد بن قادة؟!

قبل نحو سنتين أو يزيد، طُلب منا أن نقترح اسم علم، أو علمين، يليق بمكانة ثانوية الرياضيات بالقبة، وهي الوحيدة من نوعها على المستوى الوطني. ولم تكن هذه الثانوية آنذاك تحمل اسما خاصا، فقمنا باقتراح اسمين مرفقين بسيرتيهما المفصلتين وسلمناهما ورقيا، وهما ابن حمزة الجزائري (القرن 16م) ومحمد بن قادة (1923-2006). وأشرنا إلى أن الخيار الأول هو ابن حمزة إن أردنا إبراز علم من أعلام الرياضيات القدامى في بلادنا. أما إذا فضلنا تسجيل اسم من قدم أكبر خدمة للرياضيات بالجزائر الحديثة فابن قادة هو أولى بالتسمية.

لكن السلطات المعنية بتسمية المؤسسات لم تأخذ باقتراحنا آنذاك ولا ندري السبب، بل أطلقت على ثانوية الرياضيات اسم شخص ثالث مجهول لدينا. وحملنا فضولنا هذه الأيام أن سألنا رئيس بلدية القبة عن سيرة هذا الرجل فأفادنا بأنها مسجلة في لوحة رخامية داخل الثانوية. طلبنا الإذن من حارس الثانوية للاطلاع على هذه السيرة بقراءة ما ورد في الرخامية فوجدنا صاحبها من مواليد 1941 تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة وعمل بها، وكان من ضحايا إرهاب التسعينيات. ولم نجد في هذه السيرة ما يربط المرحوم بالعلوم البحتة أو التجريبية أو بالرياضيات التي تميّز هذه الثانوية، فاستغربنا لذلك. 

ابن حمزة الجزائري

وحتى يدرك القارئ مكانة ابن حمزة الجزائري لا بأس أن نورد سيرته مختصرةً: عاش ابن حمزة خلال القرن 16م وكان في آخر حياته يدرّس الرياضيات في الحرم المكي. فقد ولد في الجزائر العاصمة بضواحي باب عزون من أب جزائري وأم ذات أصول تركية. وحرص والده على تعليمه فأظهر منذ شبابه موهبة خاصة في الرياضيات.

وعند بلوغه سن العشرين لم يجد الوالد بالجزائر العاصمة أساتذة قادرين على تعليمه أكثر مما تعلم فأرسله إلى اسطنبول عند أخواله ليتمكّن من مواصلة دراسته. واتجه ابن حمزة بعد ذلك إلى تدريس الرياضيات للأتراك وللقادمين إلى اسطنبول من أبناء العثمانيين المنتشرين خارج تركيا، ثم ذاع صيته والتحق، في اسطنبول، بديوان المال في قصر السلطان ليتولى شؤون المحاسبة.

عندما عَلِم ابن حمزة بوفاة والده، قدم إلى العاصمة لرعاية والدته وعمل في متاجر أبيه. لكنه سرعان ما باعها ورحل رفقة والدته إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج والإقامة بجوار الحرم المكي وظل يدرّس الرياضيات في تلك البقاع. اشتهر الرياضي ابن حمزة إذ كان يركّز على المسائل الحسابية ذات العلاقة بما يحتاجه المسلمون في حياتهم اليومية، ومنها مسائل الميراث. وعُرف بوجه خاص بمسألة سُميت “المسألة المكيّة” يعجز اليوم الكثير من أساتذتنا الجامعيين عن حلها!

والأكثر من ذلك أنه أَلَّف في مكة كتابا بعنوان “تحفة الأعداد لذوي الرشد والسداد” قادته أبحاثه فيه إلى وضع أسس ما يُعرف اليوم باللوغريتمات التي تدرس في الثانويات والجامعات. 

والواقع أن الأوروبيين ينسبون ابتكار اللوغاريتمات إلى الأنكليزييْن جون نابيير Napier (1550-1617) وهنري بريكس Briggs (1556م-1630م)، وإلى السويسري جوست بورجي Burgi (1552-1632). 

غير أنه عندما ينظر المرء إلى ما قام به ابن حمزة في دراسة المتتاليات الهندسية والحسابية ويقارنها بعمل نابيير فسيجد فيها الكثير من نقاط الالتقاء، علما أن عمل ابن حمزة سبق عمل نابيير بأزيد من عقدين. وبطبيعة الحال فإن سبق ابن حمزة في هذا العمل لا يعني أن نابيير اطلع على عمله أو أخذ منه دون الإشارة إليه.

يقول مؤرخ الرياضيات الفلسطيني قدري طوقان (1910-1971) في كتاب له صدر عام 1941 حول مكانة ابن حمزة: “ولو أن ابن حمزة استعمل مع المتوالية الهندسية المذكورة المتوالية العددية التي تبدأ بالصفر، … لكان اخترع اللوغاريتمات التي أوجدها نابيير وبورجي بعده – أي بعد ابن حمزة – بأربع وعشرين سنة”. ثم يضيف: “ما دار بخلدي أني سأجد بحوثا لعالم عربي كابن حمزة هي في حدّ ذاتها الأساس والخطوة الأولى في وضع أصول اللوغاريتم”.

محمد بن قادة

أما المرحوم محمد بن قادة فكان لنا شرف نشر سيرته الكاملة في استجواب مطوّل بأسبوعية الجامعة عام 1998 التي كانت تصدرها جامعة باب الزوار. وهذا الاستجواب هو الذي كشف لنا مكانة هذا الرجل الذي لا نعرف أكثر منه تواضعا. 

ولد المرحوم بمدينة مازونة (ولاية غليزان) والتحق عام 1940 بدار المعلمين ببوزريعة، ثم بكلية العلوم (جامعة الجزائر) عام 1944 وتخصص في الرياضيات. وكان في آن واحد يدرّس في العاصمة لكسب لقمة العيش. وتحصل في مطلع الخمسينيات على شهادة الليسانس ودبلوم الدراسات العليا في الرياضيات. وكان في ذات الوقت مناضلا سياسيا ضمن الأحزاب الوطنية التي تنادي بالاستقلال.

اشتغل بن قادة بتدريس الرياضيات في الثانويات منذ ذلك الوقت وواصل بعد الاستقلال حتى عيّن مفتشا عاما للرياضيات في الستينيات، وكان أول من ألّف وترجم كتب الرياضيات لمنظومتنا التربوية. 

كان المرحوم خلال السبعينيات من أبرز الأستاذة الذين قامت عليهم المدرسة الأساسية فوضع مناهجها وألّف كتبها. وقد أحيل على التقاعد عام 1986. وعندئذ التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بالقبة لتدريس مادة تعليمية الرياضيات، وظل يقوم بهذه المهمة حتى سنة وفاته (2006). 

وبذلك يعتبر الأستاذ محمد بن قادة أحد أعمدة الرياضيات في الجزائر ومن المبادرين منذ السبعينيات بمشاركة الجزائر في منافسات ألمبياد الرياضيات على المستوى الدولي والإقليمي. ويكفيه تفانيًا في خدمة الرياضيات أنه درّس هذه المادة أزيد من 60 سنة. أفلم يحق له أن تسمى باسمه الثانوية الوحيدة التي تسمى ثانوية الرياضيات في القطر؟

بحثنا عما إذا كانت هناك مؤسسة تعليمية عبر القطر قد سميت باسم ابن حمزة أو بن قادة فلم نفلح! في البلدان التي تحترم تاريخها وتمجّد علماءها وتفاخر بهم، وتقدر جهود المخلصين من أبنائها، لا يمكن أن تهمل مثل هذين العلمين. والإهمال نوعان: الإهمال عن وعي والإهمال عن جهل. وهناك إهمال ثالث يجمع بين الجهل واللاوعي… وهو السائد عندنا.

مقالات ذات صلة