أطفال بعقد تهز صلابة الجبال !
عندما تصطدم براءة الطفولة بقساوة الواقع ونبذ المجتمع فإن العقد النفسية تجد لسلطانها مكانا في أعماق برعم لم يتفتح بعد على الدنيا لتحاصره بأشواك الخوف والحزن من كل جانب، وتحيل حياته إلى سيناريو من العذاب الدائم ينتهي في الغالب بمأساة اجتماعية بطلها طفل أوطفلة فهل ندرك كأشخاص واعين بأنه يعيش بيننا أطفال بعقد تهد صلابة الجبال وبأن عالمهم ليس بريئا أبدا كما نتصوره ولا جميلا كما نتطلع إليه بعين الشوق والحب.
الطفل سامي متزوج وأب لولدين !
تحضرني وأنا أستطلع عالم البراءة صورة طفل في السادسة من عمره، ملامحه منكسرة وحزينة لكن تصرفاته عدوانية لأقصى درجة، لم يكن لدي أدنى شك في البداية بأنه أسير عقدة دفينة تسيطر على تحركاته ولكني حاولت تضليل هذه الحقيقة في متاهات فكري، مرجعة سبب ثورته على كل من حوله إلى مشاغبات صبيانية ليس إلا، وبتطفلي على خصوصيات حياته وطبيعة علاقاته عرفت بأن شعوري الأول نحوه ما كان ليخيب لأنه فعلا طفل معقد بكل ما تحمله كلمة “العقد” من معان، وعن المشكلة تقول والدته: “كان في الخامسة من عمره حين أخذته عند جدته كي لا يسمع شيئا عن مقتل والده، وبعد مرور فترة من الزمن أرجعته إلى البيت، كان دائما يسألني أين أبي؟ وكنت أجيبه بأنه مسافر حتى صادفته الحقيقة المرة من أناس غرباء عنه، لقد قالوا له دون رحمة أو شفقة أن والده قتله أحد اللصوص بالسكين وكانت تلك اللحظة المشؤومة هي بداية المعاناة”.
سامي ابن السنوات القلائل التي تعد على رؤوس الأصابع أصيب بحالة أفقدته طفولته قبل الأوان نظرا لارتباطه الشديد بأبيه منذ الصغر وبرحيل ذاك العزيز الذي كان يشتري اللعب والحلوى، ويداعب ويلاعب أصبح عنيفا مع الجميع، يدعي بأنه متزوج ولديه طفل وطفلة وبأنه لا يخاف من أحد وسيقتل الرجل الذي سبب تعاسته وبأنه سيصبح شرطيا في المستقبل و…إلخ…هذه الهلوسات أدخلت والدته دوامة لا مخرج منها، فهي لا تعرف ماذا تفعل له وكيف تتصرف معه خاصة وأنه يتقمص في كل وقت وحين شخصية والده ويثير المشاكل في المدرسة والشارع والبيت ويتهجم على الكبار والصغار.
مروان…رجل قبل الأوان !
انتقالا لطفل آخر أكبر من سابقه بقليل سمرت الدهشة كل حواسنا ونحن نسمع حكاية “مروان” الغريبة العجيبة مع “عقدة الجنس”…هذه العقدة لم نلصقها به ولم نخترعها له ولكن الأطباء النفسانيين الذين يتابعون حالته منذ سنوات أكدوا تعرضه لجملة من المحرضات الغريزية التي جعلته يستجيب آليا لممارسة الجنس دون أن يدرك معناه !
مروان صاحب العشر سنوات توغل باحترافية في عالم الإباحية بكل أشكالها وفنونها نتيجة تلقيه مضامين خليعة بصورة مكثفة في غياب الرقابة الأسرية…اكتشاف أمره كان على يدي ابنة خالته الطالبة الجامعية التي كانت تمازحه منذ ثلاث سنوات وطلبت منه أن يقبلها ففعل لكن بطريقة هزتها وعن ذلك تقول: “لقد شعرت بأنه رجل بأتم معنى الكلمة وفي نفس الوقت أدركت بأنه يتوجب على والدته أن تسرع به إلى أخصائي نفساني قبل أن يشب على الشذوذ وبصراحة ما كنت لأصدر ذاك الحكم عليه لو لم أمتحنه بعد تلك القبلة حيث سمحت له أن يعبث بجسدي عمدا فكانت الصدمة”.
راضية…حكاية مأساة !
إذا كان “سامي” اصطدم بوفاة والده و”مروان” ضحية إهمال والدته فإن راضية ابنة الثالثة عشرة سنة اغتصبت طفولتها عدوانا وظلما من طرف كهل كانت تناديه جدي عندما كانت في السابعة من عمرها ولكنه لم يرحم صغر سنها واستدرجها ببعض حبات الحلوى ليشبع غريزته الحيوانية في جسدها الصغير…راضية لم تكن تعلم أنذاك ما العذرية وما أهميتها بالنسبة للمرأة ولكنها شعرت أثناء الحادثة بأن ما يمارس عليها هو جرم شنيع يرتكب في حقها، وببراءة الأطفال راحت تبكي وتخبر أمها عن تفاصيل ما حصل لها فكتمت على أنفاسها وطلبت منها أن لا تخبر أحدا ولا حتى والدها لأنها خافت من الفضيحة ومن حصول جريمة نظرا لخطورة الذي جرى وعاقبتها عقابا شديدا مع أنه لا ذنب لها، وكل ذلك ربى في نفسها عقدة الخوف من الجنس الآخر، وصارت تخاف من ظل أي رجل حتى وإن كان مجرد طفل صغير بعمرها لأن كل من يقترب منها تظنه سيفعل معها نفس الشيء، وفي محاولة منا لإقناع والدتها بضرورة عرضها على طبيب مختص في الأمراض النفسية حتى لا تكبر بهذه العقدة وتتأزم الأمور أكثر رفضت رفضا قاطعا التجاوب معنا وقالت: “من الأفضل بأن تبقى عقدة الخوف من الرجال تلازمها حتى لا تعيش مستقبلا على حلّ شعرها”.
وليد…لا يكف عن نفسه أذى أحد !
وجهه يحمل خدوشا كثيرة وكأنه مرآة فقدت بريقها ونظراته متراجعة وجلة تخشى مواجهة عيون الآخرين، أما كلماته فمتقطعة لا تكاد تفهم…هذا المخلوق المستضعف فوق الأرض يسمى “وليد”، العمر 9 سنوات، المشكلة: خوف شديد من كل شيء ومن لا شيء…خوف من الناس، من الظلام، من الحيوانات سواء الأليفة أو المفترسة أو حتى الحشرات والسبب بكل تأكيد عقدة محكمة وجدت السبيل إلى نفسه نتيجة تعرضه لمختلف أشكال العنف في صغره واختلاق أشخاص مقربين منه أسماء لوحوش من أجل إخافته…وليد عاش القهر والحرمان جراء تسلط الوالد على جسده ومعنوياته فأصبح لا يكف عن نفسه أذى أحد، كل الأطفال ينادونه بالجبان وكل من يريد إبراز قوته يشبعه ضربا وركلا حتى يدمي جسده النحيل المتعب…هو غير راض عن نفسه ويتمنى أن يستجمع يوما شتات شجاعته ليلقن كل من تسبب في أذيته درسا لا ينساه لكن عضلاته تخونه ساعة الجد ويرجع مهزوما ليبكي بحرقة بكاء يتقطع لسماعه قلب والدته التي تقول: “مشكلته نفسية بحتة وقد عرضته على الأخصائيين لكن لا نتيجة لأن مشاعر الخوف تسيطر عليه بالكامل…”الله يسامح” من كان السبب…”الله يسامح” والده الذي أذاقه المر منذ الصغر وعذبه بوحشية سلبت قوته وأبعدت عنه الشعور بالأمان”.
نادية والدمية المسكينة !
حكاية نادية وقائعها ليست مقتبسة من قصة أو رواية وليست مسلسلا صنعت أحداثه مخيلة إنسان تعودت أن تجود بالأفكار النادرة لتشكل عقدة فنية نتابعها كمشاهدين بمنتهى الفضول والحماس، بل هي حقيقة مرة تعكس حياة بائسة لطفلة في العاشرة من عمرها…طفلة كان يوم مولدها هو نفسه يوم رحيل والدتها عن الدنيا فكرهها الجميع لا لشيء إلا لأن الموت اختار اللحظة التي رأت فيها النور ليأخذ العزيزة الغالية…نادية هي أصغر إخوتها ومع ذلك هي أكثرهم بعدا عن والدها، إذ رغم مرور السنوات لا يزال وزر القدر لصيقا بها…كانت دائما تشعر بأنه يكرهها وبأنه لا يعاملها كما يعامل الآخرين لكنها لم تكن تجرؤ على الكلام أو المعارضة لأنها طبعا ملت من سماع نفس الأسطوانة “يوم ميلادك هو يوم نحس علينا”…هذه العبارة القاسية جثمت على صدرها طويلا ثم تحولت إلى عقدة نبذ للذات حيث كرهت هي الأخرى نفسها إلى درجة أنها سمت دمية أحضرتها لها جدتها باسمها أي –نادية- وكلما ضاقت بها الدنيا أشبعت تلك الدمية ضربا وغرزت في هيكلها الإبر والمسامير مرددة جملة “أنت قتلت أمك وأنا سأقتلك، أنا أكرهك يا نادية”…هذه الحالة المتدهورة لنفسية الصغيرة لم يكن ليغفل عنها أفراد أسرتها الذين انتابهم الشعور بالندم لاحقا لأنهم ظلموا تلك البريئة التي وهبها الله لهم كي يسعدوا بوجودها لكنهم أحالوا حياتها إلى جحيم لم تطق تحمله فقررت الهروب من ذلك الواقع المميت بطريقتها والآن هم يتابعون وضعها عند أخصائي نفساني أكد بأن روحها الملائكية محشوة على الآخر بأخطر العقد وإن لم يتداركوا أمرها فقد تقتل في أي لحظة نفسها لأنها تكرهها.
هؤلاء المعقدون.. مستقبل أكثرهم إما مجرمين أو مهمشين
لما كانت الصحة النفسية هي علامة الشخصية السوية كان لزاما علينا التقدم من بعض الأخصائيين في هذا المجال من أجل معرفة وضع ومستقبل هؤلاء الأطفال الذين تسكنهم مختلف العقد التي تؤثر بالسلب على تصرفاتهم وتجعلهم اندفاعيين أو انطوائيين كل حسب طبيعته وطبيعة ما جرى معه وعقده، وقد استطعنا أن نحيط ببعض جوانب النفس البشرية من أفواه المتوغلين في متاهاتها، الدارسين لتوافقاتها وتناقضاتها فكانت النتائج غير سارة بالمرة لأنها ببساطة تلمس شريحة لطالما نسبت إليها صفة البراءة.
طفل اليوم هو رجل الغد
يرى أحد أكبر الفلاسفة بأن الأطفال الصغار كالعجينة يمكن للمعلم أن يصنع بها ما يشاء وتؤيد الأخصائية النفسانية “ع.سامية” هذه النظرة مع إجراء تعديل بسيط عليها حيث تقول: “هم كالعجينة فعلا لكن الظروف هي التي تصنع بهم ما تشاء، وبما أن طفل اليوم هو رجل الغد فإن من غذته الحياة حزنا وقهرا وجرعته ألما ومرارة سيشب دون ذرة شك على التمرد والعصيان أو الهروب من الواقع، وذلك طبعا إن تم تجاهل وضعه ولم يتم متابعة حالته عند طبيب مختص يعيد إليه توازن نفسه، هذا وأعطتنا العديد من الأمثلة الحية كرجل في الخامسة والأربعين من عمره زارها مؤخرا وهو يحمل على كاهله ركاما من الهموم والمشاكل جراء خيبات أمل متكررة صادفته في مشوار حياته فأصبح إنسانا محطما بأدق المقاييس…إنسانا مرهونا بصور من الطفولة يسترجعها يوميا كلما وضع رأسه على الوسادة…تلك الصور القاسية شكلت العقدة لتتبعها بعد ذلك رواسب الفشل المرير الذي سئم طعمه من فرط ما تجرع منه…وفي عودتها إلى الماضي معه، أخبرها بأنه حين كان في عمر الخامسة حصل الطلاق بين والديه فانتقل إلى العيش عند خالته التي كانت تعاقبه بقسوة حين يخطأ، حيث تنزع ثيابه أوقات البرد القارس وتضعه خارج المنزل ليتشرب جسده الصغير كل السموم أو تحرقه بقضيب حديدي ساخن أو تمنع عنه الطعام لأيام حسب المزاج كما أنها لم تكن تمل من الصراخ في وجهه بأنه لا يصلح لشيء وبأن والديه تخلصا منه لأنهما يكرهانه وكانت كلماتها تتأكد له وتزداد رسوخا في ذهنه حين يجد نفسه مهملا كالقمامة ولا أحد يسأل عنه وكأنه ولد من رحم الجفاء، وبمرور السنوات وبقاء تلك الصور والكلمات مسجلة في أعماقه استسلم لليأس والقنوط وفقد لذة الحياة وأصبح يشعر باللاجدوى سائرا بلا وجهة أو غاية حتى بلغ من العمر ما بلغ ووجد نفسه وحيدا منطويا على ذاته بلا أهل ولا أحباب ولا عائلة.
وفي الاتجاه المعاكس سارت حياة “زهير” الذي ركبته عقدة الانتقام منذ الصغر وبالضبط حينما اتهمته والدته زورا بسرقة مبلغ من المال ونزعت ثيابه وربطته عاريا وأشبعته ضربا ليعترف ماذا فعل بها ولكنه أنكر أن يكون قد رآها أصلا وراح يبكي ويتوسل ورغم قسمه أمامها إلا أنها لم تصدقه واستمرت تجلده إلى أن جاء والده وتأكد لها بأنه هو من أخذها فأعتقت جسده ولكن روحه بقيت مقيدة بسلاسل الحقد الدفين وأصبح يمد يده ويأخذ كل ما يجده ولما كبر قليلا أصبح يهدد الأطفال بالسلاح الأبيض ويطلب منهم أن يحضروا له النقود من منازلهم وبوصوله إلى مرحلة الشباب كانت نيران الكره تأكل دواخله وتجعله يحرق من حوله بالقول والفعل ولم يشعر أهله بجدية الموضوع إلا حين حملته الشرطة أمام أعينهم بتهمة تشكيل جماعة أشرار وقد حكم عليه بالسجن والغرامة لكن ذلك الحكم سقط عنه بعدما أثبت الطب النفسي وجود خلل في شخصيته.
نظرة خاطئة وفهم ناقص
تذهب الأفكار مباشرة عند التحدث عن الطبيب النفسي إلى الجنون إذ يرفض الكثيرون زيارته بحجة أنهم يتمتعون بكامل قواهم العقلية ولا حاجة لهم بمن يعقد عليهم حياتهم ويقلب صفحات مواجعهم وهذا ما يراه أصحاب المهنة انتقاصا من أهميتهم ودورهم في المجتمع تقول الأخصائية “أ. فريدة”: “هناك فرق بين الطبيب النفساني وطبيب الأعصاب وللأسف الناس يخلطون بين الوظيفتين ويتحاشون عرض أنفسهم على الأخصائيين عند وجود عقدة أو خلل، بل إن هناك حتى من يثور وينزعج إن نصحته بذلك، ويعتبر الأمر شتيمة وإهانة مع أنه عادي جدا وملح في بعض الحالات قبل أن يتطور الوضع وتزداد الأزمة حدة والعقدة ثباتا والتصاقا بجدار الروح والدليل أن هناك أطفالا كانت لديهم اضطرابات بسيطة في الشخصية ولما تجاهل أولياؤهم أمرهم ولم يسعو من أجل معالجتهم تعقدت حالتهم وأصبحوا أفرادا سلبيين منهم المجرمين والمنعزلين والمهمشين وحتى “قتالي القتلى” وهذا ظلم.
من جهتها أكدت الدكتورة “م.سميرة” على أهمية الطب النفسي في حياة الإنسان لأن هذا الكائن المعقد في بنيته وتركيبه يحتاج إلى ترويض نفسه على الاستقامة قبل أن تهوي به في واد سحيق من المشاكل والعقد وهنا تقول: ” كما يمرض الجسد تمرض النفس ولا بد أن نخضع للعلاج النفسي كما نخضع للعلاج العضوي حتى نكون في مأمن من الانحراف عن الاتجاه السوي لأفكارنا ومشاعرنا”.
هذا وأشارت ذات الدكتورة إلى ضرورة التنبه لأطفالنا، لردود أفعالهم وتصرفاتهم قبل أن يكبروا بعقدهم ويكونوا فاشلين في كل مراحل حياتهم، إذ كلما كان العلاج سريعا ومبكرا كانت النتائج جيدة ومرضية، فمعاناتهم أكيد تشكل معاناتنا إن لم نقل بأنها جزء لا يتجزأ منها.